الحقوق محفوظة لأصحابها

طارق السويدان
من منكم رأى مكتبة ليس فيها أثر من آثار النووي وهل يجهل النووي طالب علم.

كلما ذكرت النووي ذكرت توفيق الله، وكيف يكتب لبعض أصفيائه القبول والذيوع والنفع في الأرض.

لقد كتب عدد كبير من أهل العلم (أربعينيات)، وكتب النووي أربعينه (الأربعين النووية) فانتشرت في كل الدنيا وكأنه لم يكتب في هذا الباب أحد.

وكتاب (رياض الصالحين) لا يكاد يخلو منه بيت مسلم، المصحف وبجواره (رياض الصالحين) ألا يدل هذا على صدق الشيخ وبركته فمن هو هذا الإمام.

ألم تسمع بحوران في سورية إن فيها بلدا يسمى (نوى) فيه ولد هذا الشيخ، ثم نسب إلى دمشق لأنه رحل إليها وسنه تسع عشرة سنة، واتخذها دارا إلى قبيل الوفاة في بلده.

لقد كان مولده في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة ميمونا ومباركا على تلك الديار .

الثناء المفخم عليه:

قال تلميذه علاء الدين بن العطار في ترجمته التي جمعها له:

أوحد عصره، وفريد دهره. الصوام القوام، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن السنية، العالم الرباني المتفق على علمه وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته، له الكرامات الواضحة، والمؤثر نفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين.

ولعل من أجمع ما قيل في الثناء عليه ما قاله تلميذه الآخر أبو العباس بن فرح: كان الشيخ محيي الدين (لقب الشيخ المشهور) قد صار إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص شدت إليه آباط الإبل من أقطار الأرض:

المرتبة الأولى: العلم والقيام بوظائفه.

الثانية: الزهد في الدنيا.

الثالثة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

العناية الربانية من الصغر:

قل أن تجد إماما أو علما صالحا مصلحا إلا وله مخايل اصطفاء من نعومة أظفاره ومنهم شيخنا النووي، تعالوا لنسمع حديث الوالد الشيخ شرف عن ولده لما كان عمره سبع سنين، وعن تكل الليلة العجيبة – وكانت ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان – قال: وكان نائما إلى جنبي، فانتبه نحو نصف الليل وأيقظني، وقال: يا أبت ما هذا النور الذي قد ملأ الدار.

فاستيقظ أهل جميعا ولم نر شيئا، فعرفت أنها ليلة القدر.

أنطقني الله:

ويذكرون أنه لما بلغ عشر سنين رآه الشيخ ياسين بن يوسف المراكشي الصالح المقرئ الحجام الأسود الذي عاش ثمانين سنة وحج عشرين مرة، وذلك حين مر بنوى سنة نيف وأربعين وستمائة، فوقع في قلبه محبته لأن الصبيان يكرهونه على اللعب وهو يبكي لإكراههم ويهرب منهم، وكان قد جعله أبوه في دكان فجعل لا يشغل بالبيع والشراء عن القرآن.

قال الشيخ ياسين: فأتيت الذي يقرئه القرآن فوصيته به، وقلت له: هذا الصبي يرجى أن يكون أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به.

فقال: أمنجم أنت.

فقلت: لا، وإنما أنطقني الله بذلك.

فذكر المعلم لوالده، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن، وقد ناهز الاحتلام.

إدمان التعلم:

إدمان التعلم والتعليم خير ما يشغل به الإنسان، وأني للجاهل أن يفلح، وأول كلمة في ديننا العظيم(اقرأ).. يحدث النووي عن نفسه في بداية طلبه للعلم فيقول: كنت أقرأ كل يوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا وتصحيحا: درسين في (الوسيط) ودرسا في (المهذب) ودرسا في (اللمع) لابن جني، ودرسا في (إصلاح المنطق) لابن السكيت في اللغة، ودرسا في (التصريف)، ودرسا في أصول الفقه: تارة في (اللمع) لأبي إسحاق، وتارة في (المنتخب) للفخر الرازي، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين.

قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وإيضاح عبارة وضبط لغة، وبارك الله في وقتي واشتغالي وأعانني عليه.

أقول: اثنا عشر درسا كل يوم بقي على هذا سبع سنين، فمن يصبر على هذا إلا أصحاب الهمم العلية، ونحن كم درسا نأخذ في الشهر.

ومن مسموعاته – رضي الله عنه – الكتب الستة، والموطأ، ومسانيد الشافعي، وأحمد، والدرامي، وأبو عوانة، وأبو يعلى، وسنن الدراقطني، والبيهقي، وشرح السنة للبغوي وتفسيره، والأنساب للزبيري، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلة لابن السني، وأدب السامع والراوي وغير ذلك.

وقد سمع منه – لله دره – خلق من العلماء والحفاظ والصدور والروساء وتخرج به خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق، وانتفع الناس في سائر البلاد الإسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيلها.

طالعته أربعمائة مرة:

ورجل هذا دأبه لا يمل ولا يكل من البحث والنظر في الكتب، واسمع هذا الخبر العجيب:

قال الكمال الأذفوي في كتابه (البدر وتحفة المسافر): ونوزع مرة في النقل عن (الوسيط) (أي: جادلوه في صحة النقل عنه وضبطه، وهو كتاب في فقه الشافعية للإمام أبي حامد الغزالي) فقال الشيخ – وكأني به مغضبا-: أتنازعوني وقد طالعته أربعمائة مرة.

أقول: وهذا دأب الراسخين في العلم، وكم نقلوا في تراجم العلماء عن المطالعات العديدة جدا جدا للكتاب الواحد.

وهذا المزني يقول: قرأت (الرسالة) للإمام الشافعي خمسمائة مرة.

وكلما قرؤوا وجدوا شيئا جديدا فأقول: سبحان الله هذا كلام المخلوق فكيف بكلام الخالق.

كيف كان نومه - رحمه الله-:

حكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة أنه سأله – أي النووي – عن نومه فقال: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة وأنتبه.

أقول: لا يجب عليه شرعا ذلك ولكنه العشق للعلم الذي كان يخالط قلوبهم وعقولهم، ويجعلهم يذهلون عن مباحات البدن، وإذا كان الناس لا يعجبون من سهر العاشق المدلة المتيم بحبه فلماذا يعجبون من سهر هؤلاء أو قلة نومهم بل إن عشق المعارف ألذ للنفوس من عشق الصور، فيا عجبا للناس.

فرش البيت الكتب:

بيت الشيخ النووي – رحمة الله عليه – غرفة في المدرسة الرواحية (نسبة لبانيها زكي الدين بن رواحة المعروف بابن رواحة (تهـ) وهذه المدرسة لصيقة بالجامع الأموي من جهة بابه الشرقي، بقي هذا مأواه حتى غادر الشام).

وكأني به حواليه الكتب من كل جهة، يقول ابن جماعة: كنت إذا جئته لأزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي موضعا أجلس فيه.

الكتب والعلم والمعارف هذا همم العلماء، والكتب ضرائر النساء في الغالب وقد بقي الشيخ عزبا حتى الموت، استغرق فيما هو فيه حتى ملأ عليه أقطار نفسه فلم يجد رغبة في النكاح.

أولاد الشيخ الخالدون:

نعم لم يتزوج الشيخ النووي، هذا ثابت، ولكنه خلف أولادا كان ملء السمع والبصر، ولئن مات كثير من أولاد الناس ولم ينتفعوا بهم فقد خلدت آثار الشيخ في المشارق والمغارب وإليك أهم ما ورث:

المجموع شرح (المهذب) للشيرازي، وصل ففيه لأول كتاب الربا، قال ابن كثير في تاريخ: "إنه لو كمل لم يكن له نظير في بابه..". وهو موسوعة في الفقه المقارن عجيبة.

روضة الطالبين، منهاج الطالبين، تهذيب الأسماء واللغات، شرح مسلم (ويكاد أن يكون أفضل ما صنف من الشروح على صحيح مسلم)، رياض الصالحين، الأذكار (وقال بعضهم في التنويه بفضله: بع الدار واشتر الأذكار). ولم يبعد فالشيخ نفسه يقول عنه: "وهو الكتاب الذي لا يستغني عنه متدين"، بستان العارفين، التبيان في آداب حملة القرآن، مناقب الشافعي، الأربعون النووية، مختصر طبقات الشافعية، المقاصد (رسالة في التوحيد)، الإيضاح (في المناسك) وله ستة تصانيف في المناسك، والمبهمات، الإرشاد في علوم الحديث ومختصره، التقريب والتيسير في معرفة سنن البشير النذير، قطعة من شرح البخاري، قطعة من شرح أبي داود، الخلاصة في أحاديث الأحكام (وصل فيها إلى أثناء الزكاة)، الفتاوى (رتبها تلميذه ابن العطار)، مسألة تخميس الغنائم، العمدة في تصحيح التنبيه، التحقيق (وصل فيه إلى أثناء صلاة المسافر)، التنقيح في شرح (الوسيط)، مختصر أسد الغابة، مهمات الأحكام، جزء أدعية، مختصر آداب الاستسقاء، مختصر البسملة لأبي شامة، رؤوس المسائل وتحفة طلاب الفضائل، الغاية (في الفقه)، الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام، وقد حققه أستاذنا أحمد راتب حموش.

وبعد: فهذه أهم كتب الشيخ عدا ما أمر بغسله من الكراريس نحو ألف كراس بخطه؛ قال المأمور بغسلها وأظنه ابن العطار: فلم أخلف أمره، وفي قلبي منها حسرات.

لا يستطاع العلم براحة الجسد:

حقا إن العلم لا يحوزه أو يلم به من توسع في المآكل والمشارب، وهكذا دأب جل الأعلام؛ فهذا النووي – رحمه الله – ذكروا أنه ندر أن يجمع بين إدامين، إما دبس وإما خل وإما زيت وأما اللحم ففي كل شهر مرة، ولا يأكل في اليوم والليلة إلا أكلة واحدة بعد العشاء، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر.

وترسل له أمه بالقميص ليلبسه، وأبو بكعك يابس وتين حوراني فلا يعدل بها غيرها.

وقال مرة: بقيت فيها – أي: المدرسة الرواحية دار إقامته – نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض، وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير.

أقول: كان مع كل هذا الشظف في العيش قد ولي مشيخة دار الحديث الأشرفية إلى أن مات، وكانت في دمشق بمنزلة الجامعة في هذا اليوم. وكان الشيخ قد تفقه وتأدب على يد عشرين شيخا من خيرة علماء العصر في شتى العلوم.

صبره – رحمه الله-:

أصيب بالحمى أكثر من خمسة أشهر لم يتأوه فيها لإقباله على الحرمين، لنستمع لقصة هذا المرض الطويل منه ومن والده، قال النووي:

لما كانت سنة إحدى وخمسين حججت مع والدي، ارتحلنا من أول رجب (حيث كانت الرحلة برا تأخذ منهم حوالي أربعة أشهر) فحصلت الإقامة بالمدينة النبوية نحوا من شهر ونصف شهر، وكانت الوقفة تلك السنة يوم الجمعة. وقال والده: إنه من حين توجهنا من (نوى) أخذت الشيخ حمى، فلم تفارقه إلى يوم عرفة، وهو صابر لم يتأوه قط.

أقول: ونحن نعاني الآن من السفر في هذا الطريق ونحن في مركب فارهة عدة ساعات دون مرض؛ فكيف بالسفر عدة أشهر على الدواب مع الحمى دون تأوه هذا والله لا يكون إلا من أفراد العباد.

وقفوهم إنهم مسؤولون:

قال أبو عبد الله بن أبي الفتح البعلي الحنبلي العلامة: كنت ليلة في جامع دمشق (أي: الجامع الأموي) والشيخ (أي: النووي) واقف يصلي إلى سارية في ظلمة وهو يردد قوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون) الصافات: مرارا بحزن وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك ما الله به عليم.

قلت: هذا يذكرك بالسلف والصحابة الذين يكررون ويرددون آية ليلهم حتى السحر، فهذا تميم الداري – رضي الله عنه – كرر حتى أصبح (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: .

وردد سعيد بن جبير: (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) البقرة: .

وردد أيضا: (فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم) غافر -.. الآية، وردد أيضا: (ما غرك بربك الكريم) الانفطار: وغيرهم كثير.

وإمامهم سيد الخاشعين محمد – صلى الله عليه وسلم – روى أبو ذر – رضي الله عنه – قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية يرددها حتى أصبح والآية: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) المائدة: .

ورع النووي وفاكهة دمشق:

قال تلميذه ابن العطار: وكان لا يأكل من فاكهة دمشق فسألته عن ذلك، فقال: دمشق كثيرة الأوقاف، وأملاك من هو تحت الحجر شرعا والتصرف في ذلك لا يجوز إلا (وذكر شروطا) فكيف تطيب نفسي لأكل ذلك.

فانظر – طيب الله كسبي وكسبك – كيف يكون التورع عن أموال الوقف، وقد عشنا إلى زمان لا يهنأ بعض المتدينين إلا بأموال الأوقاف واليتامى فإنا لله.

وقال ابن العطار: كان الشيخ لا يأخذ من أحد شيئا، إلا ممن تحقق دينه ومعرفته، ولا له به علقة من إقراء أو انتفاع به.

أقول: فماذا يقول الشيخ – رحمة الله عليه-: إن رأى بعض المتصدرين يأخذ من كل من هب ودب، ويثري على حساب طلابه ومريديه.

اقطعوا وظائف هذا الفقيه ورواتبه:

لا يكاد يخلص إمام إلا ويبتلى ولقد ابتلى النووي على يد الظاهر بيبرس فنجح؛ فماذا كان.

طلب الظاهر معونة من الناس (أشبه بالضرائب الآن)، وحتى يجاب من الناس ولا يعارض طلب من وجوه الشيوخ والعلماء أن يضعوا (تواقيعهم) فاستجابوا؛ لأنه له فتوحاته الشهيرة، ومواقفه المشهودة مع التتار والصليبيين.. ولما وصل الأمر إلى الشيخ محيي الدين النووي لم يرض، وقال – بعد أن ألقى الطلب-: لقد أفتوك بالباطل، ليس لك أخذ معونة حتى تنفذ أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائدا عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه وأغلظ له في القول، فلما خرج قال:

اقطعوا وظائف هذا الفقيه ورواتبه.

فقيل له: إنه لا وظيفة له ولا راتب.

قال: فمن أين يأكل.

قالوا: مما يبعث إليه أبوه.

فقال: والله لقد هممت بقتله فرأيت كأن أسدا فاتحا فاه بيني وبينه ولو عرضت له لالتقمني.

مهابته في القلوب:

قال الشيخ تاج الدين السبكي في كتاب (ترشيح التوشيح وترجيح التصحيح): رافق الوالد مرة (أي: تقي الدين السبكي الإمام) – وهو راكب على بغلته – شيخا عاميا ماشيا، فتحادثا، فوقع في كلام ذلك الشيخ (أي: العامي) أنه رأي النووي، ففي الحال، نزل عن بغلته، وقبل يد ذلك الشيخ العامي وسأله الدعاء، وقال له: اركب خلفي، فلا أركب وعين رأت وجه النووي تمشي بين يدي.

ومن تعظيم تقي الدين السبكي - رحمه الله – للنووي، أنه سكن فترة دار الحديث الأشرفية (مدرسة النووي) فكان يخرج في الليل يتهجد ويمرغ خديه على الأرض فوق البساط الذي كان يدرس النووي عليه وينشد:

في دار الحديث لطيف معنى على بسط لها أصبوا وآوي

عسى أني أمس بحر وجهي مكانا مسه قدم النـواوي

وفاته – رحمة الله عليه-:

عاش الشيخ – طيب الله ثراه – آخر عصر الأيوبيين، وكل عصر الملك الظاهر بيبرس، وقد بذ أقرانه في هذا القرن السابع المزدهر بالعلماء من أمثل ابن الصلاح، والرافعي، وابن يعيش، والقفطي، وابن خلكان، وياقوت الحموي، وأبو شامة وغيرهم كثير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

كيف مات الشيخ:

قال في بيته فجأة لمن حوله: قد أذن لي في السفر.

قال العلاء (أحد تلامذته وهو علي بن أيوب المقدسي الذي نسخ (المنهاج) يخطه وحرره ضبطا وإتقانا): وكنت حملت كلام الشيخ على ظاهره، ثم تبين أنه إنما عني السفر الحقيقي، ولما انتهى من حكاية ذلك قال لي: قم حتى نودع أصحابنا وأحبابنا.

قال: فخرجت معه إلى المقبرة التي بها بعض شيوخه فزار وقرا شيئا، ودعا وبكى. ثم زار أصحابه الأحياء، كالشيخ يوسف القفاعي، والشيخ محمد الإخميني والشيخ شمس الدين بن أبي عمر.

وأفاد التاج السبكي: أنه قبل ظهوره إلى نوى رد الكتب المستعار عنده من الأوقاف جميعا.

سافر الشيخ إلى نوى بلده، ثم زار القدس والخليل – عليه السلام – ثم عاد إلى نوى، ومرض عقيب زيارته بها وهو في بيت والده.

يقول تلميذه العلاء: فبلغني مرضه فتوجهت من دمشق لعيادته فسر بذلك، ثم أمرني بالرجوع إلى أهلي، فودعته بعد أن شرف على العافية، في يوم السبت، العشرين من رجب، وانصرفت فتوفي بعد أيام في الثلث الأخير من ليلة الأربعاء الرابع والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة ودفن بها من الغد.

واتفق أنه بينما أنا نائم ليلة وفاته، رأيت كأن مناديا ينادي على سدة جامع دمشق يوم جمعة: الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع. وصاح الناس لذلك النداء، واستيقظت فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلم نلبث أن جاء الخبر لدمشق في ليلة الجمعة بوفاته، ونودي عقب صلاة الجمعة بجامع دمشق بذلك، وصلينا عليه هناك صلاة الغائب. وتأسف المسلمون عليه تأسفا بليغا الخاص والعام، والمادح والذام.

كرامة بعد وفاته:

ذكر شيخ الإسلام ابن حجر في (إنباء الغمر)، قال: قال لي الجمال المصري، كان الريمي كثير الإزدراء بالنووي، فرأيت لسانه في مرض موته، وقد اندلع وأسود، فجاءت هرة فخطفته، فكان لك آية للناظرين.

ولما دفن أراد أهله أن يبنوا عليه قبة، فجاء في النوم إلى عمته، وقال لها: قولي لأخي أو للجماعة أن لا يفعلوا هذا الذي عزموا عليه من البنيان؛ لأنهم كلما بنوا شيئا ينهدم.

فامتنعوا، وحوطوا على قبره بالحجارة.

ويا لسروري يوم سيرى إليهم:

قيل: إنه سمع من الشيخ قرب وفاته، وأنه ليس له نظم غيرها:

بشائر قلبي في قدومي عليهــم ويا لسروري يوم سير إليهم

وفي رحلتي يصفو مقامي، وحبذا مقام به حط الرحال لديهم

ولا زاد لي إلا يقيني بأنهـــم لهم كرم يغني الوفود عليهم

كان النووي – رحمه الله – مهيبا، أسمر ربعه، لحيته كثة، سوداء فيها شعرات بيض، يلبس ثوبا قطنا وعمامة سختيانية (من جلد الماعز المدبوغ)، عليه سكينة ووقار.

وهكذا مات شيخ الإسلام أبو زكريا محيي الدين بن شرف بن مري النووي وقد طبق ذكره الآفاق، وقد خلف لنا ما لو اجتمعت جماعة من أهل العلم لتقرأه لضعفت عن ذلك، وقبل ذلك البركة والأنوار على كتابته.

وصدق ابن حجر عندما قال عن النووي في (التحفة) موجزا: هو ولي الله بلا نزاع، ومحرر مذهب الشافعي بالإجماع.

فرحمة الله عليه، وعوض الإسلام بفقده.

ولنوى مسقط رأس الإمام نقول:

لقيت خيرا يا نـوى وكفيت من شر النـوى

فلقد نشا بك عـالم لله أظهـر ما نـــوى

وعلى عداه فضلـه فضل الحبوب على النوى

المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=324_0_2_0