حديثنا اليوم أعزائي المشاهدين عن أحد عظماء هذه الأمة والملقب بـ: "سلطان العلماء".
وسلطان العلماء هو الإمام: عبد العزيز بن عبد السلام ابن أبي القاسم بن الحسن بن مهذب
وليس المقصـود من هذه الحلقة أن نخوض في تفصيلات عن حياة العز.بن.عبد.السلام فنقول مثلا: إنه ولد في عام خمسمائة وسبع وسبعين هـ أو توفي في عام ستمائه وستين هـ أو عاش في الشام أو مات في مصر فإن هذه التفاصيل لا تعنينا في هذا البرنامج كثيرا فضلا عن كونها متوفرة بشكل واضح في مصادر ترجمة الإمام العز.بن.عبد.السلام
إذن ليس المقصود من هذه الحلقة الحديث عن ترجمة العز.بن.عبد.السلام الملقب "بسلطان العلماء" وإنما المقصود هو الوقوف عند جوانب مهمة في حياة هذا الرجل.
لماذا سلطان العلماء
قد يتساءل البعض قائلا: لماذا نتحدث عن حياة هذا الإمام ولماذا هو سلطان العلماء
إن اهتمامنا بدراسة سيرة هذا الإمام - وغيره من العلماء - يرجع السبب فيه إلى أن التاريخ يعيد نفسه فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم والمواقف المنتظرة من رجال اليوم هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها المتعاقبة تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.
إن علينا أن نعود إلى ماضينا نستلهم منه الدرس والعبرة ونستنطق مواقف أئمة الهدى ومشايخ الإسلام.
وأما فيما يتعلق بهذا اللقب الذي اخترته عنوانا للحلقة: "سلطان العلماء" فقد لقب به من قبل أحد تلاميذه وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد ولهذا اللقب سر معروف سيتضح معنا من خلال هذه الحلقة.
حيــاتــه وعصـــــره
إن الشيخ الإمام العز.بن.عبد.السلام عاش في الشام ثم في مصر وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين وكانت دولة قوية ولكن في آخر عصرها تنافس أمراؤها على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضا حتى لجأ بعضهم إلى التحالف مع الصليبيين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه وبني عمه
شجاعتـه وجرأتـه في الحـق
لعل أبرز الجوانب في شخصية هذا الإمام هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
لقد جدد السلطان العز.بن.عبد.السلام الإنكار العملي على السلاطين والأمراء وكان ينكر عليهم أحيانا علنا وأمام العامة لاسيما المنكر العلني ولا يخاف في الله لومة لائم.
فوائد الإنكار العلني:
إن الإنكار العلني والصدع بكلمة الحق له فوائد كثيرة وعظيمة لعل من أهمها:
أولا: أن يعذر العالم
ثانيا: التفاف العامة حول هذا العالم
ثالثا: تشجيع الآخرين على الإنكار
رابعا: قبول الحق
خامسا: رفع مسـتوى الأمة وعدم حجب الحقائق عنها
وكان العز.بن.عبد.السلام من العلماء الذين يسلكون هذا المنهج ولا يرون مانعا شرعيا منه .
مواقفـه العظيمـة
لقد كان لهذا الإمام الجليل مواقف في غاية العجب وهذه المواقف العظيمة لولا أنها مسطرة في الكتب لقلنا: إنها خيال من الخيال لكنها مكتوبة والذين كتبوها هم من العلماء الذين عاصروه وعاشروه وعاشوا معه.
ومن هذه المواقف العجيبة:
موقفه مع الملك الصالح إسماعيل:
عندما كان العز.بن.عبد.السلام في دمشق كان الحاكم رجلا يقال له: "الملك الصالح إسماعيل" من بني أيوب فولى العز.بن.عبد.السلام خطابة الجامع الأموي وبعد فترة قام الملك الصالح إسماعيل هذا بالتحالف مع النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله فحالفهم وسلم لهم بعض الحصون كقلعة الشقيف وصفد وبعض الحصون وبعض المدن وذلك من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب في مصر.
فلما رأى العز.بن.عبد.السلام هذا الموقف الخائن الموالي لأعداء الله ورسله - عليهم السلام- لم يصبر فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين وقالها له صريحة وقطع الدعاء له في الخطبة بعدما كان اعتاد أن يدعو له وختم الخطبة بقوله: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر". ثم نزل.
وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده فغضب عليه غضبا شديدا وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة بعد ذلك.
وخرج العز.بن.عبد.السلام من دمشق مغضبا إلى جهة بيت المقدس وصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة أيضا والتقى أمراء النصارى قريبا من بيت المقدس فأرسل رجلا من بطانته وقال له: اذهب إلى العز.بن.عبد.السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه أن يأتي إلي ويعتذر مني ويعود إلى ما كان عليه فذهب الرجل إلى العز.بن.عبد.السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى منصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير فضحـك العز.بن.عبد.السلام ضحكة السـاخر وقال: "يا مسكين والله ما أرضى أن يقبل الملك الصالح إسماعيل يدي فضلا عن أن أقبل يده يا قوم أنا في واد وأنتم في واد آخر الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به".
قال: إذا نسجنك فقال: "افعلوا ما بدا لكم". فأخذوه وسجنوه في خيمة فكان يقرأ فيها القرآن ويتعبد ويذكر الله تعالى.
وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد اجتماعا مع بعض زعماء النصارى الصليبيين كان اجتماعهم قريبا من العز.بن.عبد.السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ قالوا: نعم. فقال متفاخرا: هذا هو أكبر قساوسة المسلمين سجناه لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع واتفاقنا معكم على قتال المصريين.
فقال له ملوك النصارى: والله لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقته
فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل وكانت هذه بداية هزيمته وفشله وجاءت جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين وأفرجت عن الإمام العز.بن.عبد.السلام.
هذا موقف صرح فيه العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر ورأى أن هذا الذي يسعه مع أنه كان يستطيع غير ذلك ولكنه رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصة أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين ولذلك وجه إليه الاستفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح للنصارى
فأفتى - رحمه الله - بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز لأن من يبيعهم السلاح يعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.
موقفه مع الصالح أيوب:
خرج العز.بن.عبد.السلام بعد ذلك إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسؤوليات كبيرة في الدولة.
وكان المتوقع أن يقول العز.بن.عبد.السلام: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظا على مصالح المسلمين وألا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب -مع أنه رجل عفيف وشريف- إلا أنه كان رجلا جبارا مستبدا شديد الهيبة حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضـرته أبدا ولا يشفع لأحد ولا يتكلم إلا جوابا لسؤال حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائما نقول ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب: لن نخرج من المجلس إلا إلى السجن فهو رجل مهيب وإذا سجـن إنسانا نسيـه ولا يستطيع أحد أن يكلمه فيه أو يذكره به وكان له عظمة وأبهة وخوف وذعر في نفوس الناس سواء الخاصة منهم والعامة فماذا كان موقف العز.بن.عبد.السلام معه
في يوم العيد خرج موكب السلطان يجوس في شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والسيوف مصلتة والأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان هيبة وأبهة -وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت- وهنا وقف العز.بن.عبد.السلام وقال: يا أيوب هكذا باسمـه مجردا بلا ألقاب فالتفت الحاكم ليرى: من الذي يخاطبه باسمه الصريح بلا مقدمات ولا ألقاب ثم قال له العز: ما حجتك عند الله - عز وجل - غدا إن قال لك: ألم أبوئك ملك مصر فأبحت الخمور فقال: أويحدث هذا في مصر قال: نعم في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة
فقال: يا سيدي أنا ما فعلت هذا إنما هو من عهد أبي. فهز العز بن عبد السلام رأسه وقال: إذن أنت من الذين يقولون: "إنا وجدنا آباءنا على أمة" [الزخرف:] فقال: لا أعوذ بالله وأصدر أمرا بإبطالها فورا ومنع بيع الخمور في مصر.
رجع العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة كما يعلمهم الحلال والحرام ويعلمهم الغيرة على الدين مثل ما يعلمهم الأحكام إذ ما قيمة أن يوجد طالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث ومع ذلك هو ميت الغيرة على الإسلام لا يغضب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا يتمعر وجهه إذا رأى المنكر ويتطلع لمنازل الصديقين والشهداء ما قيمة هذا العلم
وعندما رجع العز.بن.عبد.السلام إلى مجلس درسه جاءه أحد تلاميذه يقال له: "الباجي" يسأل: كيف الحال قال: بخير والحمد لله. قال: كيف فعلت مع السلطان قال: يا ولدي رأيت السلطان وهو في أبهة وعظمة فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه فأردت أن أهينها.
إذن العز.بن.عبد.السلام أعلن هذا الأمر على الناس لأنه يريد أن يربي السلطان ويقصد إنكار منكرين في وقت واحد:
المنكر الأول: الحانة التي يباع فيها الخمر.
والمنكر الثاني: هو هذا الغرور وهذه الأبهة والطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم فأراد أن يقتلعه ويزيله من نفسه لذا قال العز: "لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه". فقال له تلميذه الباجي: يا سيدي أما خفته قال: "لا والله يا بني استحضرت عظمة الله - عز وجل - وهيبته فرأيت السلطان أمامي كالقط".
لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط هل يأمر أو ينهى كلا بالطبع.
لعل من أسباب قيام العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - باتخاذ هذه المواقف العلنية أن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.
* موقفه مع أمراء المماليك وقصة " بيعه للملوك" المشهورة:
وهناك موقف آخـر يعد من أعجب مواقفه - رحمه الله - فقد كان المماليك هم الذين يحكمون مصر في عصر العز بن عبد السلام فالحكومة الحقيقية كانت في أيديهم فقد كان نائب السلطنة مملوكيا وكذلك أمراء الجيش والمسؤولون كلهم مماليك في الأصل وفيهم من لم يثبت تحرره من الرق.
وكان العز.بن.عبد.السلام كبير القضاة بمصر فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء من هذا للمماليك الذين لم يحرروا أبطلها وقال: هذا عبد مملوك حتى لو كان أميرا وكبيرا عندهم أو قائدا في الجيش يرده إذ لابد أن يباع ويحرر وبعد ذلك يصحح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها أما الآن فهم عبيد.
فغضب المماليك من هذا الإمام وجاؤوا إليه وقالوا: ماذا تصنع بنا قال: رددنا بيعكم فغضبوا أشد الغضب ورفعوا أمره إلى السلطان فقال: هذا أمر لا يعنيه.
فلما سمع العز.بن.عبد.السلام هذه الكلمة قام وعزل نفسه من القضاء.
لقد كان من أهم جوانب قوة العز.بن.عبد.السلام أنه كان أكبر من المناصب وأكبر من الوظائف وأكبر من الأسماء ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها إنما يستمد قوته من إيمانه بالله - عز وجل - ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق ثم من الأمة التي أعطته ثقتها واتباعها في الحق يصدع به.
ولذا أصبح العز.بن.عبد.السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته فلذلك عزل نفسه عن القضاء إذ كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي وهو لا يحكم فيها إلا بحكم الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم قام العز بتصرف آخر مشابه وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشـترى حمارين ووضع متاعه على حمار وأركب زوجته وطفله على الحمار الآخر ومشى بهذا الموكب البسيط المتواضع يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الشام.
لكن الأمة كلها خرجت وراء العز.بن.عبد.السلام حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال وحتى الذين لا يؤبه لهم -هكذا تقول الرواية- مثل: النجارين والصباغين والكناسين... وخرج كل أصحاب الحرف والمهن -الشريفة والوضيعة- الجميع خرجوا وراء العز بن عبد.السلام في موكب مهيب رهيب.
ثم ذهب بعض الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمه إذا خرج العز.بن.عبد.السلام وخرجت الأمة كلها وراءه ما بقي لك أحد متى راح هؤلاء ذهب ملكك.
فأسرع الملك الصالح أيوب للعز وركض يدرك هذا الموكب ويسترضيه ويقول له: ارجع ولك ما تريد قال: لا أرجع أبدا إلا إذا وافقتني على ما طلبت من بيع هؤلاء المماليك قال: لك ما تريد افعل ما تشاء.
رجع العز.بن.عبد.السلام وبدأ المماليك يحاولون معه ليغير رأيه إذ كيف يباعون بالمزاد العلني فأرسل إليه نائب السلطنة -وكان من المماليك- بالملاطفة فلم يفد معه هذا الأسلوب فاقترح بعضهم قتل العز.بن.عبد.السلام فذهب نائب السلطنة ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز.بن.عبد.السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريدون أن يقتلوه فخرج ولد العز.بن.عبد.السلام -واسمه عبد اللطيف- فرأى موقفا مهيبا مخيفا فرجع إلى والده وقال: يا والدي انج بنفسك.. الموت الموت قال: ما الخبر قال: الخبر كيت وكيت.
فقال العز.بن.عبد.السلام لولده: يا ولدي والله إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله - عز وجل -.
ثم خرج مسرعا إلى نائب السلطنة فلما رآه نائب السلطنة يبست أطرافه وتجمد وأصابته حالة من الذعر والرعب وأصبح يضطرب وسقط السيف من يده واصفر وجهه وسكت قليلا ثم بكى وقال: يا سيدي خبر ماذا تعمل قال العز: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: تقبض الثمن قال: نعم. قال: أين تضعه قال: في مصالح المسلمين العامة فطلب منه الدعاء وبكى بين يديه ثم انصرف.
وفعلا فعلها العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - قام وجمع هؤلاء وأعلن عنهم وبدأ يبيعهم وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعدما يوصله إلى أعلى الأسعار فلا يبيعه تحلة القسم وإنما يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني وقد حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأن هذه الواقعة لم يحدث مثيل لها في تاريخ البشرية كلها.
إن جميع الأمم على مدى تاريخ البشرية جمعاء إذا أتوا يفاخروننا فإننا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز ابن عبد السلام هاتوا لنا شخصية فكرية في الأمم كلها تقف مثل هذا الموقف
ولعل تاريخ الإسـلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام - رحمه الله - رحمة واسعة.
وقد سجل هذا الموقف - بقلمه البـارع وأدبه الرفيع- الأديب مصطفى صادق الرافعي - رحمه الله - في كتابه "وحي القلم" تحت عنوان "أمراء للبيع" وألف أحد المعاصرين كتابا سماه: "العز.بن.عبد.السلام بائع الملوك".
إذن العز.بن.عبد.السلام كان شجـاعا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحـة ولا يداهـن ولا يخاف في الله لومة لائم.
محاربتـه للمنكـرات
لم يكن العز.بن.عبد.السلام يكتفي بإنكار المنكر بلسانه فحسب بل إن الأمر قد تعدى إلى أنه كان يتولى بنفسه تغيير المنكرات وقد سبق ذكر شيء من ذلك.
موقفه مع الوزير فخر الدين:
ومن أبرز المواقف التي تذكر في هذا الجانب: أن بعض تلاميذه أتوه في يوم من الأيام فقالوا له: إنه في مكان كذا قام وزير كبير في دولة المماليك ويدعى فخر الدين ببناء طبلخانة -وهي: مكان مخصص للغناء والرقص والموسيقى والفساد- وكان هذا المكان بقرب أحد المساجد وعندما تأكد العز.بن.عبد.السلام من صحة هذا الخبر جمع أولاده وبعض تلاميذه وذهب إلى المكان الذي يسمونه بالطبلخانة وقام وأخذ الفأس وبدأ في هدم هذا المكان هو ومن معه حتى سووه بالأرض.
فهل اكتفى بهذا لا بل أصدر قرارا بأن هذا الوزير ساقط العدالة فلا تقبل شهادته ولا يقبل منه أي خبر من الأخبار وأعلن ذلك للناس فسرعان ما تناقلت الأمة هذا الخبر عن العز بن عبد السلام.
وظن فخر الدين وغيره أن هذا الحكم بإسقاط عدالته لن يتأثر به فخر الدين إلا في مصر فقط ولكنهم تعجبوا أشد العجب حينما حدث خلاف ذلك فقد أرسل ملك مصر "الملك الصالح" إلى الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رسالة شفهية بواسطة أحد الأشخاص وعندما أبلغ هذا الرجل الرسالة إلى الخليفة المستعصم قال له الخليفة: هل سمعت هذه الرسالة من ملك مصر مباشرة قال: لا ولكن أبلغنيها الوزير فخر الدين عن الملك فقال له الخليفة: إن هذا الوزير المذكور قد أسقط العز بن عبد السلام عدالته ولا أقبل خبره ارجع بهذه الرسالة فلن أقبل هذا الخبر حتى تأتيني به من حاكم مصر مباشرة فرجع الرسول إلى ملك مصر حتى شافهه بالرسالة ثم عاد إلى بغداد وأداها إلى الخليفة المستعصم.
وعندما وصل خبر رد الخليفة لرواية هذا الوزير وخبره عرف الناس أن الأمة كلها مع العز.بن.عبد.السلام.
ولنا على هذه القصة ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: نلاحظ من هذه القصة: كيف أن الأمة كانت تواصل العلماء وتخبرهم بما يجري وما يقع فالعالم ليس كالشمس يشرق على هذه الدنيا كلها ولذا يحتاج من تلاميذه وممن حوله أن يقولوا له: حصل كذا وحصل كذا بحيث إن الأمة كلها تمد جسورها مع العالم وهذا أمر مهم وضروري للغاية.
الملاحظة الثانية: أن العز.بن.عبد.السلام كان يتولى بنفسه أحيانا مباشرة تغيير المنكر باليد وقد قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" والعز كان يستطيع أن يغير بيده فقد كان منصبه ومكانته تؤهله لذلك .
وتغييره - رحمه الله - باليد يعد موقفا وسطا بين صورتين تقعان في كل زمان ومكان:
الأولى: صورة بعض المتعجلين الذين يقومون بتغيير المنكرات بأيديهم لكنهم ليس لديهم قوة ولا مكانة بحيث إن تغييرهم للمنكر قد يعود بنتائج سلبية وهذا ما نلاحظه في هذا العصر في كثير من البلدان يكون تغيير المنكر باليد -بإتلافه أو إحراقه أو هدمه أو منع وقوعه- سببا في مضاعفة المنكر.
الثانية: وهي صورة بعض طلبة العلم والمحسوبين على الدعوة والخير ممن إذا رأى المنكر طأطأ رأسه وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله إنا لله وإنا إليه راجعون وربما لا يمر على هذا المكان الذي شاهد فيه المنكر ثانية ولا يبذل أي محاولة إيجابية لتغيير هذا المنكر. وبالطبع فإن الهروب من المنكر لا يعني أن المنكر زال وقول: "إنا لله وإنا إليه راجعـون" هو قول طيب بلا شــك وذكر لله – عـز وجل - ولكن يجب أن يشفع ذلك ويؤيد بموقف إيجابي فعال يعمل على إزالة المنكر.
فكان موقف العز.بن.عبد.السلام موقفا وسطا بين هاتين الصورتين فهو رجل متمكن له قوة وقدرة ولذا استطاع بها أن يغير المنكر بيده.
الملاحظة الثالثة: إن الذي جعل العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - يقف هذا الموقف هو أن الأمة كلها وراءه ولذلك لما أصدر قرار إسقاط عدالة هذا الرجل ما عاد أحد يقبل منه أي قول.
فإذا كانت الأمة فعلا ملتفة حول علمائها وقادتها الشرعيين فإنها تكتسب بهم قوة وتكسبهم قوة:
- أما العلماء فإن الواحد منهم يستطيع بتأييد الأمة له والتفافها حوله أن يأمر وينهى ويعلن الحق وينكر المنكر وإذا غضب غضبت له ألوف وألوف.
- من جهة أخرى فالأمة تتقوى بهم لأن هؤلاء العلماء ما اكتسبوا مكانتهم إلا لأنهم كانوا هم المدافعون الحقيقيون عن مصالح الأمة كما سيظهر ذلك في كلامنا عن مكانته عند الأمة.
خدمته للأمة على المستوى الخاص:
من المؤكد أن العز بن عبد السلام لم يكن عنده امتيازات شخصية فلم يكن عنده رواتب ضخمة ولا قصور فخمة بل -كما سبق- كان الموكب الذي أراد أن يخرج به من مصر عبارة عن حمارين وكان أثاثه كله يحمل في مزادتين ورغم ذلك لم يتأخر العز عن خدمة الأمة على قلة ما يملك.
فقد حدث في دمشق انخفاض في الأسعار حتى أصبحت البساتين تباع بأسعار زهيدة فجاءت زوجة العز له وقد جمعت مصاغا لها وأعطته للعز وقالت له: اشتر لنا بستانا نصطاف فيه -أي نخرج إليه في الصيف- فأخذ العز الحلي والمصاغ وباعه ثم وجد الناس محتاجين فتصدق به ثم رجع إلى البيت فقالت له زوجته: يا سيدي هل اشتريت لنا بستانا قال: نعم اشتريت لك بستانا ولكن في الجنة فقد رأيت الناس محتاجين ففرقت هذا المال فيهم. فقالت له: جزاك الله خيرا.
خدمته للأمة على المستوى العام:
كان العز.بن.عبد.السلام مدافعا أيضا عن مصالح الناس الاقتصادية والمالية العامة فهو يدافع عن أموالهم ويمنع الظلم والاعتداء على حقوقهم وإليك مثالا يوضح ذلك:
فعندما أراد حاكم مصر أن يقاتل التتار رأى أن أموال خزينة الدولة لا تكفي ورأى أن يأخذ أموالا من الناس فجمع العلماء وقال لهم: ما رأيكم نريد أن نأخذ من الناس أموالا نستعين بها في تجهيز الجيش والسلاح ودفع رواتب الجند وما أشبه ذلك من المصالح التي لابد منها ونحن نواجه عدوا اجتاح بلاد العراق والشام ووصل إلينا وما في الخزينة لا يكفي لإعداد الجيش فقال له العز.بن.عبد.السلام: إذا أحضرت ما عندك وعند حريمك وأحضر الأمراء ما عندهم من الحلي الحرام وضربته سكة ونقدا وفرقته في الجيش ولم يقم بكفايتهم في ذلك الوقت اطلب القرض وأما قبل ذلك فلا فأحضر السلطان والعسكر كل ما عندهم من ذلك بين يدي الشيخ وكان الشيخ له عظمة عندهم وهيبة بحيث لا يستطيعون مخالفته فامتثلوا أمره وانتصروا.
هذا الموقف تناقلته الأمة وعرفت من وراءه وأن الذي حفظ أموالها وحماها من أن تغلب أو يؤخذ مالها بغير حق هو العز.بن.عبد.السلام .
معايشته للواقع
إن من أهم الأمور التي جعلت الأمة ترتبط بالعز ابن.عبد.السلام معايشة الواقع.
فلم يكن العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - معزولا عن هموم الأمة ومشاكلها وأوضاعها بل كان يعيش أولا بأول مشاكل الأمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية...
وقد علمنا مما سبق من مواقفه كم كان يعيش مشكلات الأمة وهمومها ولكننا بالإضافة إلى ذلك لو نظرنا إلى كتبه لوجدنا أن لها علاقة كبيرة بالواقع.
فصحيح أن العز.بن.عبد.السلام كانت له كتب في الفقه والحديث والأصول والتفسير وغيرها ولكنه مع ذلك كانت له كتب أخرى لها ارتباط بالواقع مثل:
كتاب: "الفتن والبلايا والمحن والرزايا" الذي يتكلم فيه عن المصائب والصبر عليها وما أشبه ذلك وهذا له علاقة كبيرة بالمصائب والمشاكل التي كانت تعيشها الأمة في عصره.
وله كتاب اسمه: "ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام" وقد ألف هذا الكتاب لما اجتاح الصليبيون بلاد الشام وبدؤوا يحاربون المسلمين ففزع كثير من المسلمين وبدؤوا يفرون إلى الأمصار الأخرى ويتركون الشام خلفهم فكيف عالج العز هذا الأمر
لقد ألف هذا الكتاب الذي يثبت به المسلمين ويحاول أن يجعلهم يقيمون في بلاد الشام ولا يخرجون منها بل يحث المسلمين في الأمصار الأخرى أن يحرصوا على الانتقال إلى بلاد الشام وسكناها ومدافعة الأعداء فيها.
وله كتاب اسمه: "أحكام الجهاد" تكلم فيه عن الجهاد وأحكامه وما يتعلق به وفضله إضافة إلى أنه هو نفسه كان يقوم بالجهاد مباشرة ويشارك فيه حتى إنه في إحدى المرات لما غزا التتار بلاد مصر جبن أهل مصر عنهم وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض فاستشاروا الشيخ عز الدين فقال : اخرجوا وأنا أضمن لكم على الله النصر فامتثلوا أمره وكان العز.بن.عبد.السلام في جيشه يثبت الناس ويرفع معنوياتهم ويقويهم ويلهب حماسـهم حتى كانت الدائرة على الأعـداء وانتصر المسلمون.
ومما صنف العز.بن.عبد.السلام وله تعلق بالواقع أيضا ما كتبه في الفتاوى حيث ناقش في هذه الفتاوى بعض القضايا المتعلقة بعصره.
تضـامن العلمـاء معـه
إن من أبرز الجوانب في حياة العز.بن.عبد.السلام والتي ساعدت على نجاحه: أن العلماء كانوا متضامنين معه فلم يكن العلماء يقفون عند العز.بن.عبد.السلام ليقولوا: هذا سرق منا الأضواء وهذا فعل وفعل وما أبقى لنا شيئا بل كان العلماء يدا واحدة خاصة العلماء العاملين ومما يدل على ذلك:
موقف عبد العظيم المنذري معه:
كان المفتي في مصر: هو الإمام عبد العظيم المنذري فلما جاء العز ابن.عبد.السلام قال الإمام المنذري: قد كنت أفتي ولم يكن الإمام العز موجودا أما الآن فإن منصب الإفتاء متعين عليه.
موقف جمال الدين الحصيري معه:
عندما غضب أحد أمراء الشام على العز بن عبد السلام ومنعه من التدريس وفرض عليه الإقامة الجبرية ذهب أحد الفقهاء الأحناف وهو جمال الدين الحصيري -وكان فقيها مهيبا- إلى الحاكم في قلعته ووقف عند الباب على حماره فقال الحاكم: دعوه يدخل فلما دخل قام الحاكم إليه وأنزله بنفسه وقدمه وقدره وأبى أن يأكل إلا بعده فقال الشيخ: ما جئت إلى طعامك ولا إلى شرابك فقال له السلطان: يرسم الشيخ ونحن نمتثل مرسومه قال: ما الذي حدث بينك وبين الإمام العز.بن.عبد.السلام قال: حدث كذا وكذا وذكر القضية فقال هذا الفقيه: والله لو كان العز.بن.عبد.السلام في الهند أو في أقصى الدنيا لكان جديرا بك أن تسعى في أن يحضر إليك فإنه شرف لك أن تملك أمة فيها مثل العز.بن.عبد.السلام فينبغي أن تسترضيه فوافق على ذلك وأرضى العز بن.عبد.السلام وجعله في مقام رفيع.
إذن القضية هي تربية العز التي تلقاها من مشايخه من أمثال: ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني ومن ثم أدى الأمانة وسلم الراية إلى من بعده كابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ.
فائدتان عظيمتان من حيــاة العــز
وأختم الحديث عن العز.بن.عبد.السلام - رحمه الله - بذكر فائدتين مهمتين من حياته.
وهاتان الفائدتان من المصلحة أن يعرفهما كل من يدرس حياة العز.بن.عبد.السلام وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفائدة الأولى: طلبه للعلم في الكبر:
قد يظن بعض الناس أن هذا العالم الجليل قد طلب العلم في صغره وهذا غير صحيح فقد كان جاهلا أول أمره وكبرت سنه وما تعلم وهذا عبرة لمن كبروا ولم يتعلموا.
وبعد ذلك أغفى إغفاءة بسيطة وسمع أحدا يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل قال: أريد العلم لأن العلم يقود إلى العمل.
فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي وجلس عليه حتى حفظه ثم بعد ذلك ظل يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي- أعلم أهل زمانه وكان كثير التعبد لله - جل وعلا -.
الفائدة الثانية: ثباته عند الممات:
إذا كانت الفائدة الأولى متعلقة ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية فإن الفائدة الثانية تتعلق بنهاية حياته.
ففي نهاية حياته ولما حضرته الوفاة وقرب موته وكان ذلك في حكم السلطان بيبرس الذي كان يحب العز ابن عبد السلام حتى إنه لما مات قال: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني - أي: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني- فجاء السلطان بيبرس إلى العز في مرض موته وطلب منه أن يعين أحد أولاده في منصبه وكان للعز أكثر من ولد من أشهرهم: عبد اللطيف طالب علم ومترجم له فقال له العز: ما فيهم من يصلح.
فالمسألة ليست مجاملات ولا أمور تتم بهذه الطريقة أولادي ما فيهم من يصلح إنما أعين فلانا وجاء برجل بعيد أجنبي وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب.
وهكذا ضرب العز مثالا للتجرد عن المصالح الشخصية ورغبات النفس وأكد على ضرورة ابتغاء وجه الله تعالى ورعاية صالح الأمة في كل وقت وحين حتى على فراش الموت ولعل هذا من علامات الثبات عند الممات فرحمة الله على هذا الإمام الجليل.
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=279_0_2_0