عبد الله بن المبارك قلده أقرانه من العلماء في أفعاله فعجزوا، وقلده الأغنياء في كرمه وجوده وسخائه فلم يفلحوا فهو السخي الجواد، وقبل ذلك العالم العامل، العابد الشجاع المجاهد، زاحم الصحابة في العمل فلم يسبقوه إلا بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم.
أعزائي المشاهدين تعالوا نعيش سويا مع عبدالله بن المبارك... ماجدا من أمجاد محمد عليه الصلاة والسلام، وشيخا عظيما من مشايخ الإسلام، وأستاذا جليلا عبقريا، وسوف تجدون المكرمات في شخصيته، وكم نحن بحاجه لأن نقتدي بأمثال هؤلاءلاسيما الشباب خاصة بحاجة إلى أئمة يعيشون معهم ويقتدون بأخلاقهم وصفاتهم وسلوكهم.......
نسبه وصفاته
ابن المبارك هو: عبد الله بن المبارك المروزي الإمام المحدث أمير المؤمنين، قالوا عنه: الزاهد العابد، الفقيه المجاهد، ثم قالوا عنه: شيخ الإسلام.
النسب والبطاقة الشخصية: نسبه يتصل "بإياك نعبد وإياك نستعين"، أما أبوه فمولى من الموالي، و ترجمة ابن المبارك تكسر التمييز العنصري لأننا نخجل من أنفسنا أن يوجد في أوساطنا تمييز عنصري، أقول هذا وكلنا خجل، فإن في بعض النواحي لا زال التميز العنصري واردا، ولا زال التميز الطبقي حاصلا، فمن أين أخذناه أمن الكتاب والله يقول: إن أكرمكم عند الله أتقاكم "الحجرات:"
أم من السنة والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: "لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أحمر إلا بالتقوى " أو كما قال عليه الصلاة والسلام
وإنما أخذت هذه من الجاهلية، أخذت من الأرض، أخذت من السفهاء، حتى وجدت في بلاد الإسلام.
ابن المبارك أبوه مبارك مولى من الموالي، دخل بلاد الإسلام واعتنق هذا الدين وشرف به.
ومن يتشرف بحمل العقيدة فهو ولي الله وحبيبه، بلال من أساتذة الإسلام، وصهيب وعمار وسلمان وأنسابهم ليسوا من العرب القح، فأين أبو جهل وأين الوليد بن المغيرة وأين حاتم الطائي وأين عنترة بن شداد لا شيء قال تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض "الرعد:".
والد ابن المبارك
كان مبارك والد ضيفنا في هذه الحلقة، والد عبد الله حارسا على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة قال مبارك : أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.
أي ورع هذا أي صفاء عقدي أي عبادة أي مراقبة لله فأنجب هذا المبارك -وهو مبارك على اسمه- عبد الله بن المبارك ، وترعرع شابا فصيحا ذكيا، لكن يقال: إذا واجهته عرفت أنه ليس بعربي، تعرف أنه مروزي وعجمي من شكله. كان فصيحا ينظم الشعر البليغ، وهو من أكبر الشعراء، وسوف تسمعون هذه أبياته التي تهز أنياط القلوب وهو يحرك بها الأمة الإسلامية من شرقها إلى غربها.
عاش رحمه الله فتتلمذ على كتب الحديث، ثم بدأ مسيرته فغطى جوانب الكمال، حتى قال بعض الفضلاء: لو قيل لي: اختر رجلا بعد الصحابة اجتمعت فيه الفضائل، لاخترت عبد الله بن المبارك ، وكان بعض تلاميذه يقول: تعالوا نجلس ونعدد فضائل ابن المبارك ، فيعدودن قالوا:
كان يقوم الليل، ويصوم النهار، ويتصدق، ويجاهد، ويدعو إلى الله، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ثم هو شاعر، وأديب ولغوي، وهو مع ذلك فقيه محدث.
حياة ابن المبارك وسيرته
مولده سنة وبينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أو بين الهجرة ما يقارب سنة فقط، هو قريب كاد أن يدرك الصحابة ولما يدركهم ابتعد ولكن قلبه اقترب، وسوف يحشر معهم إن شاء الله.
حديثه حجة بالإجماع، روى عنه البخاري ومسلم ، وتجاوز القنطرة وهو محدث جهبذ صادق لا يعرف الكذب أبدا، ينقي الأحاديث تنقية كما ينقي الصيرفي البهرج من الذهب.
أتوا بكذاب إلى هارون الرشيد وضع أربعة آلاف حديث هي كذب على محمد عليه الصلاة والسلام، فقال هارون الرشيد : والله لأذبحنك الآن، قال: اذبحني أو لا تذبحني والله لقد وضعت عليكم أربعة آلاف حديث، قال: ما علي يعيش لها الجهابذة عبد الله بن المبارك وأبو إسحاق المروزي ، ثم استدعى عبد الله بن المبارك وذاك فنقوها في ثلاثة أيام وأخرجوا أربعة آلاف حديث. قالوا: هذه كلها كذب.
كان يعيش في خراسان وإذا أراد أن يخرج لحج أو عمرة أو جهاد خرج أهل خراسان ، رجالهم ونساؤهم وأطفالهم يودعونه، لأن أمواله كانت تطوف على فقرائهم وعلى مساكينهم، وكان ينفق الطعام على كل بيوت خراسان ، فكانوا يبكون ويقولون الأبيات المشهورة التي صنفها شاعرهم حيث يقول:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة فقد سار منها نجمها وهلالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة فهم أنجم فيها وأنت هلالها
وكان إذا صلى العصر دخل غرفته وأغلق عليه الباب، وأخذ القرآن فقرأ قليلا، وكتب الحديث فعاش مع محمد عليه الصلاة والسلام فيقول له تلاميذه قالوا له: ألا تستوحش قال: ""كيف أستوحش وأنا مع الرسول عليه الصلاة والسلام ومع أصحابه "" فالذي يجلس مع محمد عليه الصلاة والسلام لا يستوحش، والجلوس معه عليه الصلاة والسلام يكون بالجلوس مع سنته، مع تعاليمه التي هي مودعة في الكتب.
دخل الخليفة الرقة ودخل ابن المبارك في وقت واحد وفي ساعة واحدة، وكانت المدينة متهيئة لاستقبال الخليفة الذي يتحدى السحاب في السماء أن يمطر على الأرض وهارون الرشيد شاور بل فاوض ملوك الأرض وقاتل نقفور كلب الروم وفرض عليه الجزية، وأدخل الذلة بلاده، وبلغت هيبته إلى فرنسا .
دخل الرقة واستعد الناس لاستقباله، لكن فوجئ الناس بدخول ابن المبارك على بغلة ومعه تلاميذه، فترك أهل الرقة جميعهم الرشيد وانصرفوا إلى ابن المبارك حتى تقطعت النعال من الزحام، وبقي هارون الرشيد في ملأ قليل من الناس معه حرسه ووزراؤه، فقالت المرأة وهي في القصر: -امرأة هارون - من هذا قالوا: عالم خراسان عبد الله بن المبارك ، قالت: هذا والله الملك لا ملك هارون الذي يجمع الناس بالسياط والسيوف، هذا يجمعهم بالحب، يجمعهم بالولاية، يجمعهم بالرسالة، يجمعهم بإياك نعبد وإياك نستعين.
......
جود ابن المبارك رحمه الله
كان ابن المبارك إذا أراد أن يحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو ، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيجمعون نفقاتهم جميعا، هذا عنده مائة درهم، وهذا مائتا درهم، وهذا ثلاثمائة درهم، فيأخذها في صرة ويكتب اسم صاحبها على الصرة، ثم يضعها في غرفة، فيظن الحاج أنه يحج بنفقته، فإذا حج بهم أطعمهم وسقاهم وكساهم وتنقل بهم، فإذا انتهوا من الحج ذهب بهم إلى المدينة ، فإذا زاروا المسجد وسلموا على الرسول عليه الصلاة والسلام سأل كل واحد عن حاجته، لأنه كان غنيا من أغنياء العالم الإسلامي في عهده، كان عنده مئات الألوف من الدراهم، حتى لامه العلماء، مثل سفيان الثوري وإسماعيل بن علية والفضيل بن عياض لاشتغاله بالتجارة، فقال: ""والله لولاكم ما اشتغلت بالتجارة "" لأنه ينفق عليهم كل سنة.
ولذلك كان يعطي سفيان الثوري عشرة آلاف درهم كل سنة، ويعطي الفضيل مثله، نفقاتهم كلها من عند ابن المبارك .
المقصود: فلما انتهوا من الزيارة قال: أحد منكم يريد هدية لأهله فيشتري لهم، ثم يرتحل فإذا وصل إلى خراسان ، دعا أهل خراسان في وليمة عامة مع الحجاج ومع ذويهم وأهاليهم وضيفهم، ثم دعا الحجاج ورد لكل نفقته مكتوب اسم صاحب النفقة عليها، قالوا: كيف وأين نفقتنا في الحج قال: أما سمعتم في الحديث أنه يبارك للحاج في نفقته فقد بارك الله لكم في نفقتكم.
حج مرة فوصل إلى الكوفة ، يقولون: كان إذا ارتحل كأن موكبه موكب ملك، حتى يقولون: إنه يأخذ الدجاج المشوي على اثني عشر جملا، وكان يطعم الناس الفالوذج،
فـابن المبارك كان يطعم الناس الفالوذج، وكان يسرد الصيام سردا، وكان يدور ويغرف من القدور المرق للناس في الصحون.
لما حج ووصل إلى الكوفة ، وهو في طريقه يخترق من خراسان يريد مكة ، فمر بـالكوفة فوجد أهل الكوفة في سنة مجدبة، في قحط لا يعلمه إلا الله، بلغ بهم الجوع إلى أن خرجت جارية من بيت إلى مزبلة -قمامة- فأخذت غرابا ميتا وذهبت به إلى البيت فقال لغلامه: بالله اذهب واسألها لماذا أخذت الغراب فسألها فقالت: والله مالنا من طعام منذ ثلاث ليال إلا ما يلقى في هذه المزبلة، فلما أخبروا ابن المبارك ، بكى وجعل يده على وجهه وقال: الله المستعان نحن نأكل الفالوذج وهم يأكلون الغربان الميتة، قسموا هذه القافلة على أهل الكوفة وعودوا لا حج لنا هذه السنة، فقسموا على أهل الكوفة كل ما على القافلة من البر والزبيب والمأكولات والمطعومات، ورجع بدون حج من الطريق، فلما وصل إلى خراسان ونام أول ليلة. رأى قائلا في المنام يقول: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور -فعسى الله أن يتقبل منا ومنه الحج، فإن هذا من أعظم المقاصد التي قد تكون أعظم من الحج؛ لأن بعض الناس يتنفل بحج وجاره جائع بجانبه، وجاره فقير ولا يجد أكلة، فهذا من فقه ابن المبارك وعلمه، وهذا من سعة إدراك ابن المبارك - ونريد أن نكرر من تلاميذ الإسلام من مثل ابن المبارك .
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=263_0_2_0