عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي , ولد بـ"بعلبك" ونشأ بالبقاع يتيما في حجر أمه, وانتقل من بلد إلى بلد , وتأدب بنفسه.
قال ابن كثير: لم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار والعلماء وغيرهم أعقل منه ولا أكثر أدبا ولا أورع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتا منه , وما تكلم بكلمة إلا تعين على السامع من جلسائه أن يكتبها عنه من حسنه.
وقد عرف الإمام الأوزاعي بتطبيقه لعلمه الذي علمه وبجهاده باللسان والجنان والسنان.
- كنز العلم ونبع الحكمة ..
لقد كان الأوزاعي رحمه الله سيد العلم في زمانه ومركز الفقه والحكمة , قال ابن كثير: ساد أهل زمانه في بلده وسائر البلاد في الفقه والحديث والمغازي وغير ذلك من علوم الإسلام.
أدرك خلقا من التابعين كثيرا, وحدث عنه جماعات من سادات أهل السنة والجماعة كمالك بن أنس والثوري والزهري وهو من شيوخه, وأثنى عليه غير واحد من الأئمة وأجمع المسلمون على عدالته وإمامته.
وقد كان إماما يقتدى به ومنبعا يستقى منه العلم والعمل معا , قال مالك: كان الأوزاعي إماما يقتدى به , وقال سفيان بن عيينة: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه.
وقد كان العلماء والأئمة يكبرونه ويجلونه أيما إجلال فيما بينهم , يقول ابن كثير: وقد حج مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به, والثوري يقول: افسحوا للشيخ, حتى أجلساه عند الكعبة, وجلسا بين يديه يأخذان عنه.
وقال ابن كثير: وقد تذاكر مالك والأوزاعي مرة بالمدينة من الظهر حتى صليا العصر, ومن العصر حتى صليا المغرب, فغمره الأوزاعي في المغازي, وغمره مالك في شيء من الفقه , قال هقل بن زياد: أفتى الأوزاعي في سبعين ألف مسألة بـ[حدثنا وأخبرنا] , قال أبو زرعة: روي عنه ستون ألف مسألة
- يوصي بالسنة وأهلها وبالصحابة وتوقيرهم وإجلالهم
فقد روى عنه الذهبي أنه كان يقول ويوصي الناس في المجالس والمساجد والتجمعات : عليكم بآثار السلف وإن رفضكم الناس, وإياكم وأقوال الرجال وإن زخرفوه وحسنوه.
ونقل ابن الجوزي أنه كان دوما ما يقول مادحا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : العلم ما جاء عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما لم يجئ عنهم فليس بعلم , فهم المصباح المنير والنور المستطير
ونقل ابن كثير وغيره عنه أنه لطالما كان يوصي بالسنة وأهلها ويقول : اصبر على السنة, وقف حيث يقف القوم, وقل ما قالوا, وكف عما كفوا.
- عبادة المتبتلين وخشوع السابقين
لقد جمع الأوزاعي رحمه الله في عبادته لربه بين شتى أنواعها وصنوفها سواء إخلاص العمل أو شفافية النصيحة أو بذل الجهد بالمال والوقت والجسد أو رقة القلب ودفق العين .. بل كان معطاء في سلوكه كله فكأنما حياته كلها صارت عبودية خالصة امتثالا لقوله تعالى " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين " قال ابن عساكر: كان الأوزاعي رحمه الله كثير العبادة حسن الصلاة, ورعا ناسكا طويل الصمت.
و قال ابن عجلان: لم أر أحدا انصح للمسلمين من الأوزاعي , وقال: ما رؤي الأوزاعي ضاحكا مقهقها قط , وقال ابن كثير: كان يعظ الناس فلا يبقى أحد في مجلسه إلا بكى بعينه أو بقلبه , قال أصحابه: ما رأيناه يبكي في مجلسه قط, وكان إذا خلى بكى حتى يرحم , قال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي., قال الوليد بن مسلم: كان الأوزاعي إذا صلى الصبح جلس يذكر الله سبحانه حتى تطلع الشمس, وكان يؤثر عن السلف ذلك, قال: ثم يقومون فيتذاكرون في الفقه والحديث.
وقال ابن عساكر : كان الأوزاعي يقول: من أطال القيام في صلاة الليل هون الله عليه طول القيام يوم القيامة. أخذ ذلك من قوله تعالى: " ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا .. إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا "
قال الوليد بن مسلم: ما رأيت أحدا أشد اجتهادا من الأوزاعي في العبادة وكان من شدة الخشوع كأنه أعمى.
وقال: دخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلي عليه مبلولا فقالت لها: لعل صبيا بال هنا قالت: هذه دموع الشيخ من بكائه في سجوده, هكذا يصبح كل يوم.
قال ابن كثير: وكان الأوزاعي من أكرم الناس وأسخاهم, وكان له أكثر من سبعين ألف دينار - ورثهم - فلم يمسك منهم شيئا, ولا اقتنى شيئا من عقار ولا غيره, ولا ترك يوم مات سوى سبعة دنانير كانت جهازه, بل كان ينفق ذلك كله في سبيل الله وفي الفقراء والمساكين.
وسمع يوما بائعا يبيع البصل وهو يقول: يا بصل أحلى من العسل. فقال الأوزاعي: سبحان الله أيظن هذا أن شيئا من الكذب يباح
وقال الواقدي: قال الأوزاعي: كنا قبل اليوم نضحك ونلعب, أما وقد صرنا يقتدى بنا فلا نرى أن يسعنا ذلك وينبغي أن نتحفظ.
قال ابن كثير: لا خلاف أنه مات مرابطا في سبيل الله - رحمه الله – فأي حياة تلك وأي عبادة
- أمر بالمعروف ونهي عن المنكر:
لقد كان الإمام سيفا مسلطا على المنكر بشتى أصنافه وألوانه خصوصا في مواقفه مع الظلمة الذين كانوا ربما نالوا من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم أو آذو أهل سنته , قال ابن كثير: لما دخل الأوزاعي دمشق ناداه الأمير السفاح الذي قاتل بني أمية وأجلاهم من الشام, فتغيب عنه الأوزاعي ثلاثة أيام, ثم طلبه ثانية فحضر بين يديه , ويحكي لنا ابن كثير القصة على لسان الأوزاعي فيقول : قال الأوزاعي: "دخلت عليه وهو على سرير وفي يده خيرزانة والمسودة عن يمينه وشماله, معهم السيوف مصلتة والعمد الحديد, فسلمت عليه, فلم يرد السلام, ونكت بتلك الخيزرانة التي في يده, ثم قال: يا أوزاعي, ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة أجهادا ورباطا هو فقلت: أيها الأمير قال عمر بن يقول: "إنما الأعمال بالنيات..." فنكت بالخيزرانة أشد ماكان كان ينكت, وجعل من حوله يقبضون أيديهم على قبضات سيوفهم, ثم قال: يا أوزاعي, ما : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى تقول في دماء بني أمية فقلت: قال رسول الله ثلاث: النفس بالنفس, والثيب الزاني, والتارك لدينه المفارق للجماعة", فنكت بها أشد من ذلك.
ثم قال: ما تقول في أموالهم فقلت: إن كانت في أيديهم حراما فهي حرام عليك أيضا, وإن كانت لهم حلالا فلا تحل لك إلا بطريق شرعي... وانتظرت رأسي أن يسقط بين يدي, وضم الناس ثيابهم لئلا تتلوث من دمي, وقرب مني السيوف, ثم أمرني بالانصراف, فلما خرجت إذا برسوله من ورائي, وإذا معه مائتا دينار, فأمرني بأخذها, فأخذتها لا لشيء إلا خوفا, فوقفت فتصدقت بها قبل أن أبرح المكان ورسول الأمير وجنده ينظرون إلي.
قال ابن كثير: ولما دخل المنصور الشام أوقفه الأوزاعي ووعظه موعظة شديدة, فألقى الله في قلب المنصور الإعظام له.
قال ابن كثير: كان الأوزاعي في الشام معظما مكرما أمره أعز عندهم من أمر السلطان, وكان لا يدخل أبواب السلاطين إلا واعظا أو آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر.
ولما مات جلس على قبره بعض الأمراء فقال: يرحمك الله, فوالله لقد كنت أخاف منك أكثر مما أخاف من الذي ولاني - يعني المنصور -.
رحيل .. ولنا البكاء على الذكرى ..
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: كنت جالسا عند الثوري, فجاءه رجل فقال: رأيت كأن ريحانة من المغرب قد قلعت, قال الثوري: إن صدقت رؤياك فقد مات الأوزاعي. فجاء موت الأوزاعي في ذلك اليوم.
قال:وما خلف ذهبا ولا فضة ولا عقارا ولا متاعا إلا ستة وثمانين درهما أنفقوها على تجهيزه, وكان قد مات مرابطا في سبيل الله - رحمه الله –
المصدر: http://www.alresalah.net/morenews.htm?id=262_0_2_0