ما هي إشكالية أخذ التاريخ من الروايات التاريخية ؟
وهل تم دس السم لنا بالعسل بسوء نية أم هي من متطلبات الحبكة الروائية ؟
وأي جناية أرتكبها جورجي زيدان في رواياته التي ادعى أنها روايات تاريخ الإسلام ؟
وما هي حجم الإساءة التي اساءها للصحابة والخلفاء والشعوب الإسلامية في رواياته؟
وهل هناك أدب صادق ساهم في خدمة التاريخ الإسلامي ؟
المقدمة
نواصل اليوم الحديث في حجم التأثير السلبي الذي تركته كتب الأدب على إدراكنا وتصورنا للتاريخ الإسلامي وأحداثه.
من الطبيعي أن تقبل الناس على كتب الأدب اكثر من إقبالها على كتب التاريخ لأن القراءة في الأدب متعة واسترخاء بينما القراءة في كتب التاريخ خاصة المراجع الأصلية تحتاج إلى تركيز وفكر وتأمل.
ونخصص حلقة اليوم للحديث عن الرواية التاريخية وخطورة تزييف التاريخ من اجل تحقيق المتعة فكيف إذا كان تحقيق التاريخ من أجل أهداف استشراقية خبيثة!!
إشكالية أخذ التاريخ من الأدب
4. العاطفة وعدم المنطقية :
ولنا في روايات جورجي زيدان مثال واضح
فكان يرى أن العامة لا يقبلون على التاريخ إلا إذا كان ممزوجا بقدر من الخيال ، ولذلك ابتدع في رواياته ضمن سلسلة (من تاريخ الإسلام) وهم حوالي 22 رواية بعض القصص العاطفية التي لا وجود تاريخي لها.
ـ وقد ولد جورجي زيدان في بيروت عام 1861 وتربى على أيدي القساوسة والتحق بجمعية الشبان المسيحيين ، وكانت له علاقة وثيقة بأبرز المستشرقين، كما عمل عندما انتقل على مصر في عدة محالات منها عمله كمترجم في مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام 1884م ورافق الحملة الانكليزية إلى السودان ونال على خدماته ثلاثة أوسمة!!
اشتهر جورجي زيدان برواياته التاريخية الشهيرة التي بدأها برواية "المملوك الشارد" عام 1891م .
ـ وللأسف فقد زادت خطورتها بعد أن تُرجمت إلى الفارسية والتركية، والأذربيجانية، وغيرها من اللغات، وكان متأثرًا في ذلك بنظرة المؤرخين الغربيين إلى العالم الإسلامي.
ـ ضخم مسرح الأحداث في الكنائس وأعطى للرهبان دور التوجيه والرأي السديد وجعل ما هو حادث فردي إلى وضع عام بل نسب انتصار المسلمين في الأندلس إلى انضمام أحد النصارى إلى جيش المسلمين!!
ـ ففي رواية فتح الأندلس يصل للصفحة رقم 200 من الرواية ولم يذكر شيئا عن طارق بن زياد أو الفتح الإسلامي الذي عبر عنه بكلمة (سطو) وكأن المسلمين سراق ولصوص ، بل خصص كل هذه الصفحات من الرواية للحديث عن قصة حب عنيف بين فلورندا وألفونس الذي أصبح بطل الرواية، والذي انحاز لطارق بن زياد إكراما لخطيبته فكان بطل الفتح !!
ـ في رواية (فتاة غسان) التي تشرح الإسلام حال ظهوره والفتوحات الأولى يقرر أن انتصار المسلمين كان لضعف عدوهم وليس لقوة المسلمين وجهادهم وتضحياتهم فيقول : ( ولم يكد يستريح هرقل من هذه الحرب و حتى جاء المسلمون في أوائل الهجرة فاتحين ،وكان لا يزال في سورية وحصونه متهدمة ، وجيوشه مبعثرة ، وسائر قواته مضعضعة)
ـ ويقول في نفس الرواية : (وجوار بصرى هذه دير البحيراء الذي نزل أبو طالب ومعه ابن اخيه صاحب الشريعة الإسلامية حينما قدما الشام للتجارة قبل ظهور الدعوة الإسلامية ببضع وعشرين سنة ) فهو هنا لا يقول النبي ولا الرسول بل صاحب الشريعة الإسلامية وكأن النبي صلى الله عليه وسلم هو من ألف الشريعة خاصة مع لقائه بالراهب بحيرا!!
وفي صفحة 73 يصف النبي والصحابة وكأنهم قطاع طرق فيقول على لسان ابي سفيان وهو يخاطب هرقل: ( إنه لم يدع لنا قافلة تمر بالمدينة إلا غزاها وفرق أسلابها وأموالها بين رجاله ) والصياغة تصف الرسول وكأنه صاحب عصابة حاشاه عليه السلام .
وفي صفحة 87 يحول المسلمين إلى مجموعة من الوحوش التي تشبه جيوش هولاكو فيقول على لسانهم : (وسوف يلقى منا ما لقيه عرب الحجاز واليمن ممن أبوا الإسلام ، فإن أبوا قاتلناهم حتى نفنيهم عن آخرهم )!!
وحتى لا يقال أن هذه الرواية وضع شاذ لبقية الروايات تعالوا نعرض مقتطفات أخرى من راوية أرمانوسة المصرية حيث عدد أبطالها 12 شخصية عشرة منهم مسيحيون واثنان فقط مسلمان!!
ـ ويقر جورجي أن الفتح الإسلامي لمصر كان لكثرة عدد جيوش المسلمين فيصف الجيش قائلا : (ثم انكشف عن ذلك الغبار جيش جرار تتقدمه الإعلام والفرسان ) حتى قال عنهم في صفحة 119 : ( وقد تصاعد غبارهم حتى بلغ عنان السماء ) بينما الروايات التاريخية تذكر أن عدد جيش المسمين كان 4000 مجاهد!!
ـ يقول في صفحة 20 : ( أما علي كرم الله وجهه فقد ترجل وشغله أمر الفتاة على الالتفات إلى المصيبة،وكانت أسماء قد توردت وجنتاها ) تخيلوا أبا الحسن والحسين وأول فتى في اٌسلام تشغله شخصية فتاة خيالية قبطية توردت وجنتاها !!
ـ ويتجاوز جورجي كل ادب مع الصحابة فيسيء لزوجة عثمان رضي الله عنه الذي تستحي منه الملائكة فيقول في صفحة 32 : (فخرجت نائلة مهرولة وبدنها يترجرج لضخامة فخذيها )
ـ ولاحظ وصف جورجي زيدان لكل من المسجد والكنيسة فقد وصف المسجد فقال : ( وقد تكاثفت أنفاسهم وانبعثت من باب الجامع حرارة ممتزجة بروائح أجسامهم) فهو ينفر من المسجد النبوي ودخوله بسبب هذه الروائح وعلى العكس فإن الكنائس تحوي مياه المعمودية ، والبخور الزكي والحدائق والزهور .
ـ فقطام في "17 رمضان" فتاة الكوفة الفتانة، التي ذاع صيتها في الآفاق، وسمع بجمالها القاصي والداني، حتى أصبحت فتنة الكوفيين ومضرب أمثالهم، وشخصت إليها الأبصار، وحامت حولها القلوب، فباتت معجبة بجمالها.
ـ وسلمى في "غادة كربلاء" عند النظر إليها أعجب الحبيب بها فلم ير جمالاً مثل جمالها في فتاة قبلها، طول عمره الذي قضاه في دمشق وضواحيها، مع كثرة ما شهد من بنات الروم والعرب والنبط والسريان واليهود.
وهكذا يسترسل جورجي زيدان في بقية الروايات
ولو أردنا التفصيل في الروايات وخطورتها ربما لما لاستغرقنا حلقات كل البرنامج !! ويمكن الرجوع لكتاب المؤرخ الكبير شوقي أبو خليل ( توفي عام 2010) بعنوان ( جورجي زيدان في الميزان)
4. ذكر الخصوصيات :
وهي ما لا تعني التاريخ إلا بقدر تأثيرها في الأحداث لكن الأديب يذكرها حتى يتمكن من خلق جو اجتماعي يناسب الحبكة الروائية ويغذيها ويستطيع بها تطوير شخصياته الروائية، وقد كتب زيدان في روايته عبدالرحمن الناصر إحصائيات عجيبة غريبة فوصف قصر الزهراء الذي يدعي ان الناصر أسماه الزهراء على اسم جاريته وقال :( وملأه بالخصيان والجواري والعبيد ، إن في هذا القصر وحده 13750 فتى من الخصيان ، وفيه من الصبيان الصقالبة 3750 ، وعدد النساء فيه 6314 ) بينما يذكر التاريخ أنه لو عدت أيام سرور ذلك الخليفة العظيم لما تجاوزت أربعة عشر يوما .
5. الدخول في النيات :
لأن الأديب يميل إلى الدخول في خواطر النفس وإبرازها كما فكر الأديب وذاته في توجيه تلك ألخواطر والنوايا حسب موقفه من الشخصيات التاريخية ، كتب جورجي زيدان في رواية غادة كربلاء في اتهام نوايا الغساسنة في سبب دخولهم للإسلام : (وكان قد اسلم معظم الغساسنة على إثر الفتح إما فرارا من الجزية أو تزلفا إلى المسلمين)!!
أكثر جرجي من "الدعوى بلا دليل"..كاستهانة عبد الملك بن مروان بالقرآن الكريم : "هذا فراق بيني وبينك!"!! وكقول جرجي أن المنصور والمعتصم، بنيا كعبتين في بغداد وسامراء!!.
الأدب التاريخي
لكن هل تجربة الأدب التاريخي السلبية تجعلنا نصد عن فن جميل هو فن الرواية التاريخية؟
بالطبع لا ولا يمكن أن نجبر الأديب أو الراوي ان يتخلى عن ادواته الروائية فنحن بذلك نكون قد ظلمنا فن الرواية.
وليس من حقنا ان نمنع الأديب من أن يحلق بخياله الجميل وكلماته المعبرة عن حقبة زمنية محددة.
•لكن المطلوب أن يكون فقط منصفا وإيجابيا في تناول تاريخ أمته بلا تشويه أ وافتراء .
ويمكن أن نشير هنا إلى أديب إسلامي مبدع على نقيض تجربة جورجي زيدان وهو الأديب الراحل نجيب الكيلاني.
نجيب الكيلاني (يونيو 1931 / مارس 1995م) أديب إسلامي مصري.
حصل على عدة جوائز منها حصل على جائزة الرواية 1958 والقصة القصيرة ، ميدالية طه حسين الذهبية من نادي القصة 1959،المجلس الأعلى للفنون والآداب 1960،وجائزة مجمع اللغة العربية 1972، الميدالية الذهبية من الرئيس الباكستاني 1978.
من رواياته رواية قاتل حمزة / نور الله/ / مواكب الأحرار/ عمر يظهر بالقدس/ ليالى تركستان/ عمالقة الشمال .
ـ استطاع الأديب الراحل نجيب الكيلاني أن يقدم صورة للأدب الإسلامي المنشود، وأثبت أنه وثيق الصلة بواقع الحياة، ويقف شامخا في مواجهة الآداب الأخرى،
معروف عنه أنه الأديب الوحيد الذي خرج بالرواية خارج حدود بلده، وطاف بها ومعها بلدانا أخرى كثيرة، متفاعلا مع بيئاتها المختلفة، فكان مع ثوار نيجيريا في "عمالقة الشمال، وفي فلسطين "عمر يظهر في القدس"، وإندونيسيا في "عذراء جاكرتا"،
ـ تميز الكيلاني رحمه الله باهتمامه بقضايا الإنسان كالحرية والعدل والتسامح، وأحاط ببراعة بتفاصيل ودقائق حياة ومشاعر المقهورين ومعاناتهم في أنحاء العالم الإسلامي، وتناول عدداً كبيراً من النقاد في العالم العربي والإسلامي كتاباته بالنقد.
ومن أجمل ما كتب الكيلاني رواية عمر يظهر في القدس و هي خروج عن المألوف وتدعي لعديد من التساؤلات وخاصة العقائدية إذ صورت هذه الرواية ظهوراً مفاجأ لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مدينة القدس وفي زماننا الحالي ,وقد أعرب رضي الله عليه عن سعادته لزيارة القدس حيث قال لمحاوره في الرواية : يا لجمالها !! لقد زرتها في حياتي , ووضعت جبهتي على ترابها وأنا أسجد لله .. لترابها عبير لم يزل عالقاً بأنفي ..ولها ذكريات .. وحاولت زيارتها مرة أخرى لكني لم استطع .. كان الوباء متفشياً فيها فاندفع المحاور باكياً وهو يقول : يا أمير المؤمنين .. إن بالقدس وباء خطير ... فيهتف سيدنا عمر بإشفاق: الطاعون؟؟؟ فشبة المحاور الصهاينة بالطاعون الحديث وهنا تبدأ الرواية في عرض المفارقات بين العصر القديم والحديث وما وصلنا إليه من وضع محزن ومخزي ذات الوقت لأننا لم نصون أمانتهم التي بذلوا فيها الغالي والنفيس ليوصلوها إلينا . وتستعرض الرواية أيضاً أحداث الساعة والحياة اليومية وسيدنا عمر يواكبها مستغرباً من تفشي المفاسد وظهور دولة لليهود وضعف المسلمين وخنوعهم.
ميزان الحلقة
لا تخدعكم الكلمة البليغة أو الصورة الأنيقة عن إدراك الحقيقة
http://www.suwaidan.com/node/6704