توضح الحلقة الثامنة والعشرين من برنامج قصة الأندلس، دروس ما بعد الخروج من الأندلس، ورغم أنها حلقة محزنة لما آلت له الأوضاع في الأندلس في آواخر أيامها، لكنها قصة مليئة بالدروس والعبر التي يجب الاستفادة منها حتى لا تتكرر تلك المأساة.. فهل نتعظ من دروس التاريخ؟
------------------------
ما بعد خروج أبي عبد الله بن محمد من غرناطة؟
حديثنا اليوم عما بعد السقوط. وهو بالطبع حديثٌ مؤلمٌ قاسي على النفس. لكن يجب علينا الخوض فيه بهدف أن نتعلم منه، وبهدف تذكير أنفسنا أننا ذو تاريخ عظيم، وأنه ليس من الصعب أو المستحيل على أمتنا العودة إليه في المستقبل.
نبدأ بخروج أبي عبد الله محمد الصغير من الأندلس، من غرناطة بالتحديد. ولم يكن هذا الخروج بالحدث البسيط أو الأمر الهين على المسلمين بعد خمسة وثمانمائة أعوام قضوها في الأندلس (92 هـ - 897 هـ). ونتسائل عن سبب تعاظم هذا الأمر في نفوسنا فيما يتعلق الأمر بالأندلس بالذات. فالتاريخ يسرد حالات عديدة تم الاعتداء فيها على بلاد المسلمين، نذكر منها على سبيل المثال إغارة التتار على بغداد. فلماذا بالذات في الأندلس تم سحق الوجود الإسلامي فيها بالكلية؟! والإجابة تكمن في كلمتين "الوحدة الوطنية".
كان المسلمون يرون أنفسهم كعرب أو كبربر أو كأمويين، ولكن ليس "كأندلسيين" إلا في أوقات قليلة جدًا. بمعنى أنهم لم يجمعهم إنتماؤهم للأندلس تحت مفهوم "المواطن الأندلسي"، بل كانوا يعيشون تحت سماء نفس الوطن (الأندلس) لكن في شكل طوائف متعددة الإنتماءات كما ذكرنا. هذا مسلم عربي، وذاك مسلم مغربي، وهذا مسلم يمني. ولهذا خرجوا بالكامل. وكأن محافظتك على الوحدة الوطنية هي ضمان بقائك، بينما تفريطك أو تهاونك فيها يؤدي إلى سحقك.
الحملات ضد المسلمين
خرج الخليفة أبو عبد الله بن محمد من غرناطة، لكن ظل المسلمون يعيشون في أسبانيا. ومنذ بداية اليوم التالي لدخول فرناندو وإيزابيلا إلى أسبانيا بدأت أول حملة أو فلنسميها "مأساة إنسانية" وهي بحق أسوأ مأساة إنسانية تعرض لها المسلمون في التاريخ. وفيها تعرض المسلمون لستة أنواع من أشكال الإبادة في أسبانيا:
1- عزل المسلمين عن ثقافتهم العربية والإسلامية: فحتى الحمامات التي كانت منتشرة في الطرقات لاغتسال ووضوء المسلمين تم إغلاقها، وحتى الأزياء العربية والإسلامية، وبالطبع مُنِعَ استخدام اللغة العربية.
2- حرق المخططوطات الإسلامية في غرناطة: وقام بذلك الكاردينال خمينس، فقد أحرق كل ما وقعت عليه يداه من التراث الإسلامي، وهذا تراث عظيم يشابه في قيمته ما تم حرقه في مكتبة بغداد. الشيء الوحيد الذي لم يتم إحراقه كان الخرائط الخاصة بالبلاد، وسنناقش هذا فيما بعد.
3- تنصير المسلمين بالإكراه: وهذا في الأصل ضد تعاليم المسيح. لكن في إعتقادي أنه حتى الدين كان يتم إستخدامه لخدمة الهدف العسكري. وقد قاوم المسلمون بالطبع هذه الحملات. أحيانًا بطريقة معلنة عن طريق الثورات، وتلك تم سحقها، وأحيانًا بطريقة غير معلنة عن طريق التمسك بالإسلام دون إعلان، فبذرة الإسلام قوية للغاية. وبالرغم من كل ما تعرض له المسلمون آنذاك من حرق لتاريخهم، وعزلهم عن ثقافتهم العربية، ومحاولة تنصيرهم إلا أنهم تمسكوا بدينهم. قارن هذا بالإتحاد السوفيتي وانتشار الشيوعية فيه، ورغم ذلك فور سقوطه، تحولت الجمهوريات السوفيتية للإسلام. فهذا هو الإيمان، عميق للغاية ولا يمكن أن يُعزل أو ينتزع من قلوب الناس. لم يجدِ كل ما سبق مع المسلمين، فيحكي المؤرخ قشتار أن والده كان يعلمه القرآن في الخفاء ويرسله أيضًا إلى الكنيسة للتظاهر بإعتناق المسيحية خوفاً على حياته.
4- محاكم التفتيش: ظهرت محاكم التفتيش والتعذيب للتحقق من تنصُر المسلمين. وللأمانة لم تقتصر محاكم التفتيش على المسلمين فقط، بل شملت أيضًا غير المسلمين من المسيحيين معتنقي مذهب آخر غير مذهب الدولة الكاثوليكي، ومن اليهود أيضًا، وكأن الأمر برمته عسكري بحت وليس ديني. وفشلت هذه المحاكم أيضًا في تغيير عقيدة المسلمين.
5- التهجير: بعد فشل الخطوات السابقة، لجأ الأسبان إلى التهجير وتوزيع المسليمن في المدن الأسبانية.
6- الطرد: كان الطرد هو الخطوة الأخيرة بعدما فشلت الخطوات الأخرى، فتم طرد المسلمين فهاجروا إلى المغرب العربي (تونس والجزائر والمغرب)، فآواهم أهلها ونصروهم، وهم في هذا دومًا يذكرونني بالأنصار الذين احتضنوا المهاجرين أيام رسول الله عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وقد ندم الأسبان على خروج المسلمين من أرضهم لخسارتهم حِرَفًا كثيرة كان المسلمون يجيدونها كالزراعة والصناعة.
المسلمون والعالم الجديد نعود إلى أمر الخرائط التي خطها المسلمون في الأندلس، ونذكر هنا أنها كانت السبب في كشف تاريخي كبير. فقد خرج المسلمون من غرناطة عام 1492 ميلادية، وهذا هو نفس العام الذي اكتشف فيه كريستوفر كولومبوس الأمريكتان. فقد اعتمد الأسبان على خرائط المسلمين لمعرفة طريق للوصول للعالم الجديد. والأدلة على ذلك عديدة بعضها مخطوطات عربية، وبعضها مخطوطات أسبانية وأمريكية، حيث تذكر هذه المصادر أن كريستوفر كولومبوس ألح على الملكة إيزابيلا بضرورة خروج بحارة مسلمين معه على سفينته في رحلته الاستكشافية وهؤلاء كانوا هم الدليل لكريستوفر كولومبوس في رحلته.
برهان آخر نأتي به من معهد المخطوطات في مدريد، وهو خريطة موجودة حتى الآن قام بتحققيقها أستاذ في جامعة برشلونة. مضمون المخطوط أن "ابن الزياد" هو أول من رسم خريطة للعالم وبها أوروبا يليها المحيط الأطلنطي تليها الأرض الجديدة التي هي الأمريكتين حاليًا.
يؤكد مصدر آخر أن البحار العربي "الخشخاش" من عهد عبد الرحمن الأوسط (عام 822 ميلادية) قبل اكتشاف كريستوفر كولومبوس بحوالي خمسمائة عام، قام بتقديم خريطة لعبد الرحمن الأوسط مفادها أن هناك أرضٌ جديدة لم تطأها أقدامنا حتى الآن وأشار إلى مكانها، وأنه قد قامت بعض الرحلات بالسفر لمحاولة اكتشافها.
برهان آخر، قام الخليفة العثماني في تركيا بارسال محي الدين بن الريس التركي لنجدة المسلمين في غرناطة، وكان المستشار العلمي لآخر حاكم أندلسي مسلم. وحينما تم خروج أبي عبد الله محمد من الأندلس، رفضت الملكة إيزابيلا خروج محي الدين بن الريس، وحددت إقامته، وطلبت منه كل الخرائط التي كانت في حوزة أبي عبد الله.
دليل آخر، يوثق متحف واشنطن أن كريستوفر كولومبوس حينما أرسلته إيزابيلا لاكتشاف الأمريكتين توقعت أن المسلمين في الأغلب قد سبقوهم إلى هناك - ففضل العرب والمسلمين كان مرأى السمع والبصر حينذاك- فأمرت بكتابة خطاب باللغة العربية موجه لأهل بلاد الأمريكتين تحسبًا لاحتلال المسلمين لهذه الأرض قبلها. ينص الخطاب على ما يلي: "من ملكة أسبانيا إيزابيلا إلى قائد هذه المنطقة الجديدة، نحن نرغب في التعاون مع بلادكم،...". قام العرب المصاحبون لكولومبوس بقراءة هذا الخطاب على سكان الأمريكتين من الهنود الحمر، ولكن بالطبع لم يفهموا محتواه.
دليل أخير يذكره الأدريسي وهو مؤرخ جغرافي مشهور، بقيام مجموعة من الشباب المسلمين في لشبونة قبل سقوط الأندلس بثلاثمائة عام، بالإبحار في سفينة بمجهوداتهم الشخصية في المحيط الأطلنطي لاكتشاف عالم جديد. لكن لم تنجح رحلتهم، وأطلق عليهم المجتمع حينذاك لقب "الشباب المغررون" لسعيهم وراء الوهم، وسميت بأسمائهم شوارع في لشبونة. لنكتشف فيما بعد أنهم لم يكونوا المغررين، وإنما ربما لو كان مجتمعهم قد قام بتشجيعهم لنجحنا نحن في اكتشاف أمريكا قبل الأسبان.
الحماس والمغامرة هو ما أتحدث عنه، وأعني به التحدي والمغامرة المحسوبة واكتشاف المجهول والدأب لإكتشاف الحقائق، وهو ما يوجد الآن لدي شباب الغرب ويفتقده المسلمون. وأنا في حديثي هذا لا أبكي على الأطلال، بل إنما أُذَكِّر بفضل المسلمين الكبير على العالم، وأتسائل هل مازال لدى العرب والمسلمين شيئًا جديدًا يقدمونه للعالم؟! هل أنا بحديثي عن الماضي حركت بداخل كل منكم رغبة تتمثل
في: أنا أريد أصنع شيئًا مفيدًا؟ أنا رأيت مجدي، وأريد أصنع مجدًا جديدًا؟ فهذه تذكرة مني فقط بأن هذه الأشياء العظيمة التي فعلناها في الماضي نستطيع بإذن الله أن نصنع أفضل منها الآن إن أردنا.
نقطة أخيرة
قد يتبادر إلى ذهن البعض بعد قراءة هذه الأسطر الرغبة في استعادة الأندلس، وبعض الإسلاميين يؤيدون هذا. وفي رأيي هذا تفكيرٌ خاطيء، لأن باب الدعوة الآن مفتوح على عكس السابق. والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: "...وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ" (البقرة:190).
نحن كمسلمون دخلنا الأندلس أول مرة لعدم وجود وسائل للدعوة، أما الآن فشبكة الإنترنت موجودة، والمساجد موجودة في الأندلس، والعرب والمسلمون موجودون أيضًاً بها، فلا يوجد ما يمنعك أبدًا من توصيل دعوتك ورسالتك. نحن نريد أن نتعايش مع الآخر لا أن نعتدي عليه، نحن نريد في الأصل أن نبني حضارة للعرب والمسلمين نفتخر بها على مدار التاريخ.
قام بتحريرها: قافلة تفريغ الصوتيات – دار الترجمة
Amrkhaled.net© جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كانت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخري فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
management@daraltarjama.com