لأن جزءا كبيرا من تاريخنا يتكون من روايات اختلطت عندنا قصص الأدب بأحداث التاريخ .. لكن ما هي الفروق بين الأديب والمؤرخ في الهدف والمنهجية والأدوات؟
وكيف يمكن فك هذا التشابك بين الطرفين من خلال منهجية علمية تخدم الطرفين؟
ولماذا تم إحراق كتب الإمام الغزالي؟
وكيف كانت نهاية الفاتح العظيم محمد بن القاسم الثقفي؟
وهل صحيح أن طارق ربن زياد احرق سفن جيشه ؟
المقدمة
نحاول اليوم فك الاشتباك بين تخصصين قد لا ينتبه كثير من الناس غلى خطورة الخلط بينهما، وهما المؤرخ والأديب.
لا يمنع أن يكون الأديب مؤرخا إن جير أدوات الأديب لصالح منهج المؤرخ والعكس صحيح أن يكون المؤرخ اديبا إن جير أدوات المؤرخ لصالح الأدب.
ما يهمنا اليوم التأكيد عليه هو ان لا نبني تصورنا للتاريخ من خلال كتب الأدب وهذا ما سوف نبينه في هذه الحلقة والحلقة التي تليها.
الهدف عند المؤرخ والأديب
هدف المؤرخ : توثيق الأحداث وتعليل الأسباب فهو تحليل للأحداث التاريخية عن طريق منهج يصف و يسجل ما مضى من وقائع و أحداث ليحللها علميا بقصد الوصول إلى حقائق تساعد على فهم الماضي و الحاضر و التنبؤ بالمستقبل.
هدف الأديب: تقديم متعة أدبية ولغوية.
المحتوي التاريخي
ـ التاريخ : التعاطي مع الحدث التاريخي المحكوم بظروف الزمان و المكان والفعل الانساني
ـ قيام الدول وسقوطها : كما يهتم المؤرخ بتحليل أسباب قيام وسقوط الدول وهذه أفردنا لها حلقة خاصة
ـ تراجم القادة والعلماء والشعراء :
لمعرفة الكثير من الدوافع التي تقف خلف قراراتهم المصيرية والتي تبدو للوهلة الأولى غير مبررة
فمثلا قرار حرق كتاب الإمام الغزالي إحياء علوم الدين كان قرارا يبدو للوهلة الأولى غير مبررا
والعجيب أن يحدث هذه المحرقة في عهد المرابطين الذين سطروا أروع الصفحات عبر التاريخ لكن سنن التاريخ لا ترحم إذا شاخت الدولة وكل مطلع على أحوال المرابطين قبل السقوط يستطيع أن يتفهم الانحدار الذي أصاب المرابطين في تلك الفترة فكانت الخمر تباع علنا في الأسواق ، وكانت الخنازير تمرح في الأسواق كالأغنام ، واستولى أكابر المرابطين على إقطاعيات كبيرة وذهبوا إلى الاستبداد فيها ،
وقد ذهب بعض الفقهاء في استرسالهم التكفيري هذا إلى تكفير أعظم شخصية إسلامية أنجبها القرن الخامس والسادس الهجري . . وهي شخصية الإمام " أبي حامد الغزالي " المعروف بحجة الإسلام بل إنهم ذهبوا في غلوائهم أبعد مذهب ، فحرصا على امتيازاتهم أفتوا بإحراق كتب الإمام الغزالي ثم أنذروا بالوعيد الشديد . . . بل بالقتل واستلاب مال كل من يوجد عنده الكتاب ! ! .وكان هذا الحادث أبرز ألوان الجمود والتحجر والخوف على الامتيازات الشخصية التي أظهرها بعض الفقهاء!
كما تساعد تلك التراجم في تحقيق الكثير من النصوص خاصة مدى معايشة التراجم لبعضهم.
ـ تاريخ المدن:التي تنقل لنا تطور العمران البشري وتأثير السلطات السياسية على نشأة المدن واضمحلالها وطبيعة الحياة الاجتماعية السائدة في أزمان مختلفة ، واستعرضنا في الحلقة السابقة كتابي تاريخ بغداد وتاريخ دمشق.
ـ تاريخ الحضارات والاكتشافات : فبفضل الاكتشافات كانت مفصلية في تاريخ البشرية مثل اكتشاف الورق والبارود واكتشاف بعض الطرق البحرية غير المعروفة سابقا على النشاط التجاري والبشري
فمن المعروف أن مصر وبلاد الشام كانت تابعة للأيوبيين ثم حلت محلهم دولة المماليك التي امتد نفوذها إلى اليمن ومنطقة الحجاز,. وبعد انتصار قطز وقائده الظاهر بيبرس على المغول في معركة عين جالوت التي جرت عام 658 هـ /1260م.وصلت دولة المماليك ذروة القوة والمجد من النواحي السياسية والاقتصادي والعسكرية, وأصبح لها مكانة متميزة في مصر وبلاد الشام ، ولكن بعد ذلك بدأت دولة المماليك بالضعف والانهيار بسبب اكتشاف البرتغاليين طريق رأس الرجاء الصالح, , مما أدى إلى تغيير مسار الطرق التجارية التي كانت تمر في البلاد العربية التابعة للمماليك , وتحقق للسكان والدولة كثيراً من الفوائد والأرباح.,لأنها أدت إلى اضطراب الأمور وضعف الاقتصاد وفقر السكان.
ـ التدافع الحضاري بين الأمم : وإدارة الصراع على الأفكار والموارد ، ومعرفة منحنيات الصعود والهبوط الحضاري وتعليل أسبابها والتحذير من مؤشراتها السلبية.
ولعل أوضح مثال على التدافع الحضاري هي مصر والتي تعتبر عاصمتها القاهرة متحف حقيقي للتاريخ من خلال حجم الآثار التي تركتها الدول والحضارات التي مرت بها :
فمصر دخلت الإسلام في العهد الراشدي
ثم العهدين الأموي والعباس ومرت خلالها دول مستقلة مختلفة فمرت عليها:
ـ الدولة الطولونية
ـ الدولة الإخشيدية
ـ الدولة الفاطمية
ـ الدولة الأيوبية
ـ المماليك وأحداث الحملات الصليبية
ـ الدولة العثمانية
ـ الفترة الحديثة منذ محمد علي والاحتلال البريطاني ونهاية الدولة الملكية في مصرفي عهد فاروق
ـ ثم الدولة العسكرية الثورية بمجالس قيادة الثورة (موضة) تلك الفترة السياسية ثم الحكم الجمهوري الوراثي
ـ ثم احداث الربيع العربي
فهذه كلها دليل على التدافع الحضاري وقيام الدول وسقوطها.
المحتوي الأدبي
ـ الروايات:تلك التي تستند إلى وقائع حقيقة او تاريخية أو حتى مجرد خيال وشخصيات لا وجود لها يحرص فيها الأديب على تحقيق المتعة و اتقان الحبكة الروائية حتى ولو أدى ذلك إلى تغيير بعض الحقائق التاريخية كما سنرى في الحلقة القادمة.
ـ القصص : التي تستهدف تارة إلى تحقيق مجرد المتعة وتارة إلى تحقيق هدف تربوي وقد يغفل الأديب أحيانا عن عرض بعض سلبيات الشخصيات العامة والرموز الوطنية أو التاريخية من أجل تقديم رموز وطنية مثالية للناشئة.
ـ الشعر:
الذي يتناول مواضيع عديدة كالفخر والمدح والرثاء والهجاء .
وقد يمدح الشاعر من لا يستحق طمعا في الصلة وقد يهجو شخصية عظيمة بسبب موقف شخصي لا علاقة له بالحقيقة
ـ النثر والخواطر:
وفيها يعبر عن مشاعره بغض النظر عن تطابقها مع الحقيقة
ـ السجع والمقامات: وهو هنا يحرص أشد الحرص على الصنعة اللغوية وإظهار قدراته البلاغية وغير معني بمدى مطابقة البيان لحقيقة الحال.
منهجية المؤرخ
تقديم حقائق ومعلومات واقعية : ومهما كانت تلك الحقائق والمعلومات مريرة او مزعجة أو تناقض فكر المؤرخ فالمطلوب هو التعاطي المحايد مع المعلومات التاريخية وتقديمها للجمهور كما هي دون محاولة تحسينها أو التخفيف من هولها.
ومن ذلك قصة محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم الثقفي، الذي اشتهر بفتوحاته في شبه القارة الهندية ويجهل الكثير منا نهايته الحزينة .
فبعد مولده بثلاث سنوات أصبح الحجاج الثقفي واليا على العراق فعين القاسم والد محمد واليا على البصرة.
ونشا محمد جنديا فقائدا فذا وبدأ قيادته للجيوش وعمره 17 عاما فقدم ملحمة رائعة تستحق أن تروى في شبه القارة الهندية وفتح بلاد السند ( باكستان حاليا) .
لكن نهاية أصغر قائد إسلامي في التاريخ كانت حزينة لا تليق بالأبطال، وربما يتجنب ذكرها من يحب إبراز الجانب المشرق فقط من التاريخ الإسلامي فعندما مات الحجاج بن يوسف ثم مات الوليد بن عبد الملك، وتولى الخلافة أخوه سليمان بن عبد الملك الذي الذي كان يحقد على الحجاج لخلافات بينهم على الخلافة ولّى سليمان على العرّاق صالح بن عبد الرحمن ليحل محل الحجاج، وكان الحجاج قد قتل أخا صالح؛ لأنه يؤمن بفكر الخوارج، فانتقم صالح من أنصار الحجاج، وانصبّت نقمته على البطل محمد بن القاسم فأتى به مقيّداً وسجنه وعذّبه حتى مات تحت التعذيب سنة 95هـ، وعمره 23 سنة! هذه النهاية جعلت حتى أعداءه من البوذية في الهند يبكون عليه لشهامته وشجاعته !!.
ـ استخدام المنهج الموضوعي : فليس من المهنية إدخال التوجه الشخصي او العامل الذاتي في توجيه الدراسة ومخرجاتها ، بل يتعامل بعيدا عن التصورات المسبقة في ذهنه تجاه الموضوع إذا دلت الحقائق التاريخية على عكس ذلك ، فنفوره من حقبة تاريخية لا يعطيه الحق في إخفاء حسناتها لو وجدت ، وحبه لحقبة اخرى لا يعطيه الحق في إخفاء سيئاتها إذا تأكدت.
ـ المؤرخ تهمه الحقيقة : فهو أبدا باحث عن الحقيقة ويجتهد في مقارنة المعلومات والمراجع وتحليل الوثائق وصولا لتلك الحقيقة وتمحيص رواياتها ورواتها.
منهجية الأديب
ـ تقديم انعكاس لواقع حقيقي أو افتراضي : فليس مهما أن تتطابق المعلومات الموجودة في الأدب مع الحقيقة التاريخية ولا يضر الأديب اختلاق الشخصيات التاريخية من أجل استكمال حلقات الحبكة واستكمال الناقص من المواقف والأحداث بذكر ظروف وأسباب ونتائج قد لا تكون صحيحة تاريخيا.
ـ استخدام المنهج الذاتي : فالأديب عندمل يخاف من السلطة المستبدة يهرب إلى التاريخ ليتمكن من قول ما يريده فيستطيع التعبير عن مكنون نفسه تجاه السلطة المستبدة دون أن تناله يد الرقابة.
ـ تهمه الحبكة الدرامية : فهو غير معني بالحالة الراكدة والجامدة للحقائق التاريخية بل يسعى إلى مناطق الدراما والشجن في الحدث التاريخي لتقديم حبكة ناجحة حتى لو ادى ذلك إلى تضخيم بعض الأحداث الهامشية و تهميش بعض الأحداث الرئيسية.
أدوات المؤرخ والأديب
أدوات المؤرخ
ـ التعبيرات الحقيقية : لدرجة مراجعة نص الكلمات والانتباه إلى مدى تداول مثل هذه الكلمات في الحقبة الزمنية محل الدراسة والبحث فالأديب عندما يتحدث عن العهد الأموي ونجد في روايته كلمات مثل اسطنبول والباب العالي والانكشارية فلا يتوقع أن تكون معبرة عن الدولة الأموية فمثل هذه الكلمات وجدت في حقبة الدولة العثمانية
ـ المنطق والتحليل:فما يرفضه العقل والمنطق لا يمكن ان يقبله الباحث حتى لو كان محببا إلى نفسه ، ومثال ذلك قولهم أن الشيخ كان يختم في الليل والنهار سبعين ألف ختمة. ولو قلنا أن الختمة القرآنية تحتاج تجاوزا إلى ساعة على الأقل ، فالشيخ يحتاج إلى حوالي ثمان سنوات ليتم ختم 70 ألف ختمة!!
ـ المقارنة والترجيح : فهناك روايات متناقضة تسقط بالمقارنة والترجيح مثل ان تكون الرواية تتناقض مع روايات أقوى سندا أو تتناقض مع تواريخ واضحة مثل أن يكون الرواي الأول لم يلتقي بالرواي الثاني الذي أخذ عنه لوفاة الراوي الأول قبل ولادة الراوي الثاني
ـ الوصف العلمي : فالوصف العلمي هو الذي يلتزم الدقة في الوصف والاعتماد على الوثائق او الآثار أو الروايات المسندة أو التي لا تتناقض مع غيرها .
أدوات الأديب
ـ التعبيرات المجازية:
فالمؤرخ عادة ما يقول أن هذا الشخص عرف بالكرم والجود بينما الأديب يفضل أن يقول أن بابه مفتوح للفقراء
المؤرخ يمكن أن يقول جمعوا لهم ألف فارس بينما الأديب يمكن أن يقول سدت فرسانهم الأفق ..
ـ البيان والبلاغة : بهدف مطابقة الكلام لمقتضى الحال حيث يبالغ الأديب في الوصف للتعبير عن حالة شعورية محددة مثل أن يقول طار من الفرح و الانسان بطبيعته لا يطير ..
ـ العاطفة والمبالغة : بحيث يتم عكس الأمور فبدلا من أن يقول المؤرخ أن هذه الشخصية عرفت بالفضل يقول الأديب أن الفضل يسير حيث سار فلان ، فشبه الفضل بإنسان له القدرة على السير
ـ الوصف التصويري الأدبي: ومن أراد أن يتعرف على نماذج رائعة من التصوير الأدبي فلديه رائعة الرافعي وحي القلم
ميزان الحلقة:
المؤرخ همه الحقيقة وسلاحه الموضوعية والأديب همه الكلمة وسلاحه اللغة
http://www.suwaidan.com/node/6618