هل من الانصاف أن نتجاهل مزايا العصر الجاهلي؟
وكيف يمكن أن نبرر اختيار الله لأمة العرب للقيام بنشر الرسالة الخاتمة إذا خلت هذه الأمة من مزايا متفردة تمكنها من تحقيق شروط النهضة والريادة ؟
وكيف استثمر الإسلام هذه المزايا ؟
ولماذا يعتز العربي بيوم ذي قار وما سر كراهيتهم للكذب؟
مقدمة
ليس من الانصاف أن نتجاهل وجود مزايا متعددة في العصر الجاهلي وإلا كيف اختار الله العرب لنشر الدين الخاتم للبشرية،
المشكلة ليست في عدم وجود مزايا للعرب قبل الإسلام ،
بل في افتقادهم لمشروع نهضوي شامل يستثمر هذه المزايا لبناء قيم حضارية قادرة على الريادة والمنافسة.
مزايا الجاهلية:
أولاً: الإعتزاز والشرف
إن الله ما اختار خاتم رسله من العرب إلا إنهم كانوا ابعد أهل الأرض عن الفساد والانحلال التام الذي عم أقطار الأرض.
فقد كان العرب مع شركهم أحفظ أهل الأرض لصفات الرجولة لما اقتضته حياتهم من الوضوح والصراحة والبعد عن الالتواء والعقد النفسية، ولم يكن فيهم نفاق بل كانوا أعداء للإسلام واضحين في ذلك ثم كانوا بعد أن هداهم الله مؤمنين صادقين بخلاف غيرهم من الأمم الأخرى التي غرقت في الترف الجسمي والعقلي.
أ. الصدق والوفاء
كانوا يأنفون من الكذب ويعيبونه ، ويعتبرونه منقصة في شرفهم ولهذا كانت الشهادة باللسان كافية للدخول في الإسلام.
ولا أدل على أنفتهم من الكذب قصة أبي سفيان مع هرقل عندما دعا هرقل أبا سفيان وجماعته، ووفد دحية، إلى مجلسه بين حاشية تحيط به من عظماء الروم، ثم دعا بترجمانه وسأل أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فأجاب أبو سفيان: أنا أقربهم نسباً. فقال هرقل: ادنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل (أي عن محمد) فإن كذبني فكذبوه! فهرقل يريد أن يتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأل أقرب الناس إليه نسبا، ليكون على معرفة تامة به، فاجاب أبو سفيان هرقل في حوار عجيب دون ان يكذب رغم العداوة الشديدة مع النبي ودعوته لأن الكذب حتى في أيام الجاهلية كانت مستنكرا، ، حتى أن أبا سفيان كان يقول تعليقا على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يأثر أصحابي عني الكذب لكذبته حين سألني عنه ولكني استحييت أن يأثروا الكذب عني فصدقته.
وقد عاب الناس الغادر وعيروا به، فإذا شتموا شخصاً، قالوا له: يا غُدَر.
وهذا يبين مدى تأثير صفة اشتهر بها النبي في قريش وهي الصادق الأمين.
ب. الكرم والجود
كان هذا الخُلُق متأصلا في العرب ، وهو الوجه الآخر لفضيلة الشرف وذلك لمواجهة شدة البيئة القاحلة وندرة المطر وصعوبة الحياة وهذا الواقع الصعب هو الذي جعل من الكرم والجود فضيلة بارزة ولو كانت الحياة سهلة لما تميزت فضيلة الكرم بهذه المكانة التي لا تضاهيها فضيلة اخرى غير الفروسية والجرأة وهي ايضا استجابة لشدة الحياة وصعوبة
وللجود تأثير عجيب على العرب وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ما سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاهُ، ولقد جاءه رجلٌ، فأعطاه غنماً بين جبلين ، فرجع إلى قومه فقال : يا قوم أسلموا ، فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا، فما يلبث إلا يسيرا حتى يكُون الإسلامُ أحب إليه من الدنيا وما عليها . رواه مسلم.
ج. التماسك الأسري
كانت القبيلة عنون الشرف والسؤدد وعلو المكانة والمنعة والعزةوالقبيلة العربية مجموعة من الناس ، تربط بينها وحدة الدم النسب ووحدة الجماعة.
وإن كانوا يبالغون في ذلك فتتحول إلى عصبية ممقوتة.
وكان الفرد يلتزم بما توجبه القبيلة ويعتبر ذلك سر قوها وقد قال دريد بن الصمة :
وكان من أسوأ الكوارث التي تصيب الجاهلي هو أن يخسر انتماءه ويُخلع من القبيلة فيمتهن قطع الطريق ومنهم في الجاهلية من يعرفون بالشعراء الصعاليك أمثال عروة بن الورد وتأبط شرا و الشنفري .
د. المروءة والنجدة
وكان العرب بفطرتهم أصحاب شهامة ومروءة، فكان من الشرف أن ينجدوا المحتاج، فكانوا يأبون أن ينتهز القوي الضعيف، وكانوا إذا استنجد بهم أحد أنجدوه ويرون من النذالة التخلي عمن لجأ إليهم
ومن ذلك حلف الفضول في نجدة المظلوم ،قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لَقَدْ شَهِدْتُ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا ، لَوْ دُعِيتُ إِلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتُ)
ومن عجيب قصص النجدة والمروءة أن رجلا من بني عامر بن كلاب استجار بعمير بن سلمى الحنيف ، وكانت مع الرجل امرأة جميلة، فرآها (قرين بن سلمى الحنفي) أخو عمير، فصار يتحدث إليها، فنهاها زوجها فلما رأى قرين ذلك وثب على زوجها فقتله، وعمير غائب، ، فلما قدم عمير أخذ أخاه وأبى إلا قتله أو أن يعفو عنه جاره، وأبى أخو المقتول أخذ الدية ولو ضوعفت، فأخذ عندئذ عمير أخاه وقتله لغدره وفاءً لجاره.
ه. شرف المرأة
ولا نجد الشرف يتمثل مثلما يتمثل لدى العربي في غيرته على أهل بيته حتى قيل أنه لا توجد لغة في العالم بها كلمة تعبر عن الكلمة العربية عرض ( بكسر العين وسكون النون) فالعربي يهون عليه دمه في سبيل حماية عرضه.
وكان العربي حريص على المرأة ويعتبر عرضها اغلى من النفس والمال والولد ولذا كانت القبائل عند الغزو تضع النساء في مؤخرة الجيش لأن الهزيمة في هذه الحالة تؤدي إلى النيل من الشرف فيكون حينها الموت إلى العربي في المعركة اهون عليه من الهزيمة فيشتد في القتال ،
يخطئ من يظن أن الزنا كان منتشرا بين نساء الجاهلية على إطلاقه وإنما كان في الإماء وأصحاب الرايات من البغايا، ويندر أن يكون في الحرائر، وليس أدل على هذا من أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخذ البيعة على النساء بعد الفتح: «على أن لا يشركن بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين» «قالت السيدة هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان: أَوَتزني الحرة؟!.
وقد انعكس هذا الخلق على المجتمع المسلم ، ورأينا في السيرة النبوية كيف انتفض المسلم عندما جاءت امرأة من العرب قدمت بجَلَب لها(ما جُلِبَ من إِبلٍ وغنمٍ ومتاعٍ للتجارة ) فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديًا، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وكانت سببا في إجلاء بني قينقاع عن المدينة، وقد تكرر ذلك أيام المعتصم عندما نادت امرأة وامعتصماه. فأرسل المعتصم رساله إلى أمير عمورية قائلا له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم اخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي.
تابع مزايا الجاهلية
ثانياً: التديــــن
كان للدين شان هام في الجاهلية ويتضح ذلك من عدة ممارسات رغم شركيتها إلا أنها تدل على مكانة الدين عندهم ومنها :
ـ كثرة الأصنام سواء في مكة أو عند قبائل العرب وعدم سفرهم قبل استشارتها وتقديمهم القرابين والهدايا لها.
ـ حرمة الأشهر الحرم التي يؤدون عبادتهم فيها وموسم الحج في ذو الحجة
ـ بعضهم كان يطوف في البيت عاريا تعظيما لله بزعمهم حيث يقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها
ـ مكانة قريش بينهم باعتبارها تقوم بخدمة الحرم والحجيج
ـ حرص قيادات قريش على إطعام الحجيج وكسوة الكعبة
ـ ومحاولة القبائل العربية التصدي لجيش أبرهة في طريقه لمحاولة هدم الكعبة واعتبار أبا رغال رمزا للخيانة والغدر بسبب تعاونه مع أبرهة .
مظاهر التدين
أ. تعظيم الكعبة
ومن تعظيمهم أنهم كانوا لايسكنون منطقة الحرم في مكة ، ويعظمون أن يبنوا بها بيتًا، ، فأذن لهم قصي بن كلاب أن يبنوا في الحرم، وقال لهم: إنكم إن سكنتم حول البيت هابتكم العرب ولم تستحل قتالكم. فقالوا: رأينا تبعٌ لرأيك وأنت سيدنا؛ فابتدأ وبنى دار الندوة، وهي أول دار بُنيت بمكة فكانوا لا يعقدون أمرًا من الأمور إلاّ فيها.
ودفاعهم عن الكعبة واضح عندما قاد أبرهة الحبشي حملة لهدم الكعبة في الحادثة المشهورة ،
وقصة الخلاف على وضع الحجر الأسود شهيرة حيث اختلفوا في من ينال شرف وضع الحجر السود بعد إعادة بناء الكعبة ، التي اشترطوا ان يكون المال المخصص لبنائها من مال حلال لم يخالطه مال حرام.
ب. احترام الأشهر الحرم
قال تعالى :{إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمٰوٰت وَٱلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36]. وهي ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، والرابع شهر رجب ، ويعتقد كثير من الناس خطأ أن رمضان من الأشهر الحرم!!
والأربعة الحرم حرمها العرب في الجاهلية، وسبب تحريمهم القعدة والحجة ومحرم هو أداء شعيرة الحج، فكانوا يحرمون قبله شهراً ليتمكنوا من السير إلى الحج ويسمونه القعدة لقعودهم عن القتال فيه، ثم يحرمون ذا الحجة وفيه أداء مناسكهم وأسواقهم، ثم يحرمون بعده شهراً ليعودوا إلى ديارهم. وحرموا شهر رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والإعمار، فيأمن قاصد البيت الغارة فيه.
وكانوا لا يستبيحون القتال في الأشهر الحرم ، حتى إن الرجل يلقى فيها قاتل أبيه وأخيه فلا يتعرض له، استعظاماً لحرمة هذه الأشهر التي هي هدنة تستريح فيها القبائل فتنصرف إلى الكيل والامتيار والذهاب إلى الأسواق وهي آمنة مستقرة لا تخشى اعتداءً ولا هجوماً مفاجئاً.
ج. تعظيم قريش
ويظهر ذلك في تقدير مكانة قريش بين العرب ، حيث نصرهم الله قبل البعثة على أبرهة الحبشي ولم تنزل سورة باسم قبيلة غير قريش
ومن اسباب ذلك
ـ مجاورتهم بيت الله تعالى، وإيثارهم سكن حرمه على جميع بلاد الله، وصبرهم على لأواء مكة وشدتها، وخشونة العيش بها.
ـ و ما تفردوا به من الإيلاف والوفادة والرفادة والسقاية والرياسة واللواء والندوة.
ـ و كونهم قبلة العرب وموضع الحج الأكبر ، يؤتون من كل وفجٍ عميق ، فترد عليهم الأخلاق والعقول ، والآداب والألسنة ، واللغات والعادات ، فيشاهدون ما لم تشاهده قبيلة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الناس تبع لقريش في هذا الشأن ، مسلمهم تبع لمسلمهم ، وكافرهم تبع لكافرهم . والناس معادن ، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) صحيح البخاري
د. بساطة الدين
فكانوا يتعاطون ببساطة مع امر الدين هذا يناسب طبيعة الصحراء المفتوحة والمكشوفة، وكانوا يتعايشون رغم اختلاف أديانهم ما بين اهل كتاب وحنفاء وأهل شرك و مجوس..
هذا الدين الذي يقوم على عبادة الأصنام لا يصمد لمنطق وغير مقنع وهم يعترفون أن هذه الأصنام إنما تقربهم إلى الله زلفى، ولذا من الطبيعي أن يظهر الموحدون الذين رفضوا هذه السذاجة ، وجعلت قبولهم للإسلام أسهل ، فلو نزل الإسلام على اليهود والنصارى لكان تغييره أصعب لوجود بقة من حق فيه ..!!
وهذه المفارقة الكبيرة بين سذاجة عبادة الأصنام وبين الإسلام الحق برؤيته الشاملة للوجود ورسالية الحياة جعلته يتغلغل في أعماقهم ويفدونه بالمهج و الأرواح راضين مبتسمين
ميزان الحلقة:
لا يخلو مجتمع من مزايا يمكن البناء عليها نحو الأفضل
http://www.suwaidan.com/node/6604