هل أحكام التاريخ ظالمة في تقييمها للرموز والشخصيات ؟
وما هي أسباب تشويه بعض الشخصيات التاريخية ؟
وكيف نصل لقواعد عادلة في تقييم الأشخاص والحكم عليهم؟
ولماذا تبالغ الروايات في ذكر محاسن الشخصيات ؟
وهل الأخطاء الصغيرة تبرر هدم هذه الشخصيات؟
المقدمة:
من أخطر مهام التاريخ: "الحكم على الأشخاص"، فالمؤرخون من خلال تأريخهم يتعرضون للأشخاص بالمدح أو الذم فيحكمون على صورة التي ستتناقلها الأجيال حول هذه الشخصية، فكم من أشخاص هم اليوم يقدمونهم مثل في السوء مع أنهم لا يستحقون ذلك بسبب ظلم التاريخ لهم ، وكم من أشخاص على قمة المدح والثناء بسبب حكم التاريخ، رغم أنهم لا يستحقون ذلك
وسنخصص هذه الحلقة للتعريف ببعض القواعد لتقييم الأشخاص حتى نفهم لماذا ظلمت بعض الشخصيات التاريخية بسسب غياب مثل هذه القواعد
مباديء التقييم
1. العدل حتى مع الخصوم
قال تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) المائدة:8
فهناك من يقبل الفكرة إذا جاءته ممن يحب ويعترض عليها إذا جاءته نفسها من المخالف. وهذا يعني ضرورة البعد عن الهوى والميول الشخصية والطائفية والتحزب في تقييم الرجال.
2. عدم الحكم على النيات
التقييم يكون لظاهر عمل الشخص أما السرائر فالله وحده يعلم حقيقتها.
3. التقييم بالإنجازات وليس التقوى
فالتقوى ميزان الآخرة وهو نعم الميزان لكن ميزان الدنيا هو إعمارها والانجاز فيها وترك الأثر الواضح والعلامة الفارقة ، وهذا ليس له علاقة بتفضيل الأشخاص بل له علاقة بتقويم الأشخاص.
4. معرفة الرجال بالحق
كما قال سيدنا علي "لا يعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف رجاله" فاعرف الحق تعرف أهله.
وبعض علماء السلطان إذا جاءت الفكرة من الحاكم بحثوا عن أدلتها في كتب السياسة الشرعية وإذا جاءت نفس الفكرة من دعاة الإصلاح بحثوا عن ما يناقضها في كتب التحذير من الفتن !!
مصادر التقييم
1. المصادر المعتمدة فقط
فلا تقبل الأخبار الواردة في كتب الأدب للحكم على الأشخاص بل يستأنس بها فيما لا تعارض فيه مع كتب التاريخ والتراجم فلا يعقل أن تنقل كتب التاريخ عن شخص يتصف بالتقوى ثم تنقل لنا كتب الأدب عن حضوره مجالس شرب ومجون.
2. منهج الجرح والتعديل
يستمد علم الجرح والتعديل شرعيته من باب صون الشريعة وقصد النصيحة للرسول صلى الله عليه وسلم، وعامة المسلمين، لا طعناً في الناس على جهة التنقيص المجرد عن المصلحة الشرعية، ولا غيبة لأعراضهم فيما ليس مباحاً من هذا الجانب.
كما جاز الجرح في الشهادة "الشهود " جاز في الرواية "الرواة " فالتثبت في أمر الدين أولى من التثبت في الحقوق والأموال.
3. لا يقبل تقييم الخصوم
أسلم حبر اليهود الأعظم عبدالله بن سلام، ولم يكن قومه يعرفون؛ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت؛ وإنهم إن يعلموا بإسلامي بهتوني، فأرسل إليهم، فسلهم عني"، فأرسل إليهم. فقال: «أي رجل ابن سلام فيكم؟» قالوا: "حَبْرُنا، وابن حبرنا؛ وعالمنا، وابن عالمنا"، قال: «أرأيتم إن أسلم، تسلمون؟» قالوا: "أعاذه الله من ذلك". قال: فخرج عبد الله، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، فقالوا: "شرُّنا وابن شرنا؛ وجاهلنا وابن جاهلنا"؛ فقال: "يا رسول الله، ألم أخبرك أنهم قوم بهت!"
4. لا يقبل تقييم ذوي الأهواء
قال ابن قتيبة :(وقد رأيت هؤلاء أيضا حين رأوا الغلو في حب علي وتقديمه على من قدمه رسول الله ص وصحابته عليه وادعاؤهم له شركة النبي ص في نبوته وعلم الغيب للأئمة من ولده وتلك الأقاويل .. ورأوا شتمهم خيار السلف وبغضهم و تبرأهم منهم قابلوا ذلك أيضا بالغلو في تأخير علي كرم الله وجهه وبخسه حقه ولحنوا ونسبوه إلى الممالأة على قتل عثمان رضي الله عنه وأخرجوه بجهلهم من أئمة الهدى إلى جملة أئمة الفتن ولم يوجبوا له أسم الخلافة لاختلاف الناس عليه وأوجبوها ليزيد بن معاوية لاجماع الناس عليه واتهموا من ذكره بخير وتحامى كثير من المحدثين أن يحدثوا بفضائله رضي الله عنه أو يظهروا ما يجب له وكل تلك الأحاديث لها مخارج صحاح وجعلوا ابنه الحسين رضي اله عنه خارجيا شاقا لعصا المسلمين حلال الدم) فنظر كيف اوصل الغلو في علي والغلو في مناصرة بني أمية إلى سوء تقييم الرجال.
قواعد التقييم
1. عدم التعميم
فكثيرا ما ينتقد فعل شخص ثم تنسب هذه المثلبة لكامل جماعته او حزبه او قبيلته او دينه، وغاب عنهم قوله تعالى: [وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى] وأن [كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ].
2. فهم الظروف المحيطة
قال ابن القيم: (الكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، ومايدعو إليه ويناظر عنه) [مدارج السالكين (3/521)].
3. عدم الاغترار بالمظاهر
مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟) قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ. قَالَ ثُمَّ سَكَتَ
فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: ( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا؟) قَالُوا: حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا)(البخاري)
رفض المبالغات
في رواية أن عليا رضي الله عنه كان يصلي ألف ركعة في اليوم والليلة، وقد رد عليها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في منهاج السنة فقال: فالذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي في اليوم والليلة نحو أربعين ركعة وعلي رضى الله عنه أعلم بسنته وأتبع لهديه من أن يخالفه هذه المخالفة لو كان ذلك ممكنا، فكيف وصلاة ألف ركعة في اليوم والليلة مع القيام بسائر الواجبات غير ممكن؟!فإنه لا بد له من أكل ونوم وقضاء حقِّ أهلٍ وقضاء حقوق الرعية وغير ذلك من الأمور التي تستوعب من الزمان إما النصف أو أقل أو أكثر. والساعة الواحدة لا تتسع لثمانين ركعة وما يقارب ذلك إلا أن يكون نقراً كنقر الغراب.
تقييم الأشخاص
1. عدم المثالية
المبالغة في بطولات الشخصيات التاريخية يحول بعضها إلى أساطير وبعضها الآخر إلى آلهة،
وهذه المثالية تجعل فريق يبرر كل الأخطاء لمن يحب من الشخصيات حتى لا تخدش الصورة المثالية له .
وفريق آخر بسبب النظرة المثالية ممكن أن يسقط لديها تقدير واحترام أي شخصية بمجرد زلة بسيطة لأنه افترض الكمال فيها.
2. الموازنة بين الإيجابيات والسلبيات
لا وجود في التاريخ لمن هو ملاك كامل او من هو شيطان كامل بل الانسان مزيج من الاثنين وبعضهم يقترب من الملائكة في أفعاله ويغلب عليه الخير وبعضهم يقترب من الشياطين في أفعاله ويغلب عليه الشر.
• وانظر إلى موقف الرسول _صلى الله عليه وسلم_ من الصحابي المجاهد خالد بن الوليد فقد وصف عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد لما قاد المسلمين في مؤتة بعد أن كادت الروم تجتاحهم بأنه سيف من سيوف الله، لكنه لما أخطأ في معاملة بني جذيمة حين قالوا صبأنا صبأنا، وهم يقصدون أسلمنا لكنهم لم يحسنوا القول، فلم يقبل منهم ذلك ظناً أنهم لم يسلموا، فقتل منهم وأسر، فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه فقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) .
3. تقدير من بذل الجهد
ليس من طلب الحق فأخطأه ، كمن طلب الباطل فأصابه ومن الظلم المساواة بين الشخصين
طلب الله من الانسان بذل الجهد وليس النتيجة ، لكن الناس تعلي قدر من يأتي بالنتيجة ولو كانت من صنع غيره وتنسى من بذل الجهد لكنه لم يقطف الثمر وشخصيات كثيرة في التاريخ ظلمت بسبب هذا الميزان.
4. تجاوز الأخطاء الصغيرة
في واقع الحياة شخصية المثالي شخصية خيالية لا وجود له وتنافي أن الأرض دار ابتلاء وامتحان.
ومن كثرت محاسنه تُغفر له السيئة، {إن الحسنات يذهبن السيئات}، وهو منهج قرآني نبوي فلا يخلو أحد من سيئات ومساوئ وأخطاء، فهي الطبيعة البشرية، ومن الإجحاف والظلم أن يؤخذ المحسن كثير الإحسان بخطأ أو سيئة فكما جاء بالحديث "إذا بلغ الماء قلتين لا يحمل الخبث"، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم" حين جهز جيش العسرة.
ميزان الحلقة:
قال ابن دقيق العيد: أعراض الناس حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها المحدثون .
http://www.suwaidan.com/node/6596