الحقوق محفوظة لأصحابها

مشاري الخراز
بسم الله والحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه

اليوم بإذن الله لن نخرج من هذه الحلقة إلا وقد أتقنا كيف نتلذذ بالصيام ، قد يقول قائل اسمح لي.. أنتم الآن تبالغون .. الصيام تعب وجهد وعطش .. كيف أحس بلذة في التعب؟!!! نعم من الممكن أن أصبر لكن استمتع بالصيام هذا مستحيل !! من قال إنه مستحيل؟

هل تعرف توماس؟ توماس هذا شاب فرنسي عمره أربع وعشرون عاما نشأ في عائلة غير متدينة بل أبوه وأخوه ملحدان لا دين لهما أصلا وكان لتوماس صديق فرنسي مسلم من أصول عربية وكان هذا المسلم يصوم شهر رمضان فكان توماس يتساءل عن التعب الذي يعانونه من الصيام لماذا يفعلون ذلك؟

في يوم من الأيام تحدى المسلم توماس بصيام ثلاث أيام فقط من شهر رمضان فقبل توماس التحدي وفعلا صام ثلاث أيام بل أنه فعل أكثر من هذا .. لقد بدأ بالبحث في الكتب عن علاقة المسلم بربه وعن الراحة التي يجدها المسلم خلال الصيام وكان يسأل أصدقائه المسلمين عن مشاعرهم وهم يصومون ماذا يحسون ونفاجأ أن توماس هذا صام بعدها رمضان كاملا وبعد ذلك اطمئن للإسلام ووجد فيه لذة لم يجدها في غيره. يقول توماس نفسه يقول: سبب دخولي للإسلام هو الفضول الذي بداخلي عن كيفية امتناع المسلمين عن الأكل والشرب طوال النهار يوميا ولمدة شهر كامل ومع ذلك يحسون بالراحة ، إي والله إذا كان هذا وهو غير مسلم أحس بحلاوة الصيام فيكف تستبعد أن تحس به أنت ، إن كثيرا من الناس يظن أن اللذة والسعادة أن تأكل فقط.. أن تشرب.. هذا غير صحيح ، هناك مواضع يكون ترك الطعام فيها أحلى من الطعام بكثير . أرأيتم هذا الذي يقوم بالريجيم أليس هو يترك ألذ الطعام والشراب ويتعب ولكن والله إن اللحظة التي يقيس فيها نفسه بالميزان ويرى نتيجة تعبه تساوى كل لقمة لذيذة في العالم بل إن فرحته بإعجاب الناس به بعد أن تغير وزنه وعبارات الإطراء والمدح التي يسمعها منهم هذه لذة نفسية وفرحة أكبر بكثير من مجرد طعام نأكله ثم نجوع مرة أخرى ،فإذا كان الإنسان يحس بلذة الطعام في لسانه إذا أكله فكيف يمكن للصائم أن يحس بلذة الصيام وهو لم يضع شيئا في فمه منذ الفجر، كيف؟!!! إنه سيحس بهذه اللذة في قلبه واللذة العابرة التي تمر على الإنسان لا تُقارن أبدا بلذة الروح التي توصلك إلى السعادة وانشراح الصدر.

قد تقول لي أنا أعرف كيف استمتع بالطعام إذا أكلته لكن إذا كنت لا آكل فكيف أحس باللذة في قلبي ؟!! الجواب: إذا كان الجسد سيحس باللذة إذا أعطيته طعامه الذي خُلق له فكذلك الروح ستحس بلذة الصيام إذا أعطيتها طعامها الذي خُلقت لأجله ، فما هو غذاء الروح؟ الروح تتغذى على المشاعر القلبية فكما أن اللسان هو بوابة دخول الغذاء للجسد وهو محل تذوق لذة هذا الغذاء فإن القلب هو لسان الروح وهو البوابة التي من خلالها يدخل الغذاء إليها منه وبالقلب تتذوق الروح طعم المشاعر القلبية ، فهناك مشاعر قلبية جميلة كما أنه توجد أكلات غذائية جميلة ، فإذا توقفت عن الطعام والشراب في رمضان فإن اللذة لم تتوقف بل إنها ستزيد إذا أتقنت فن إدخال لذة مشاعر القلبية على الروح سوف يكون أمرا عظيما.

أعرف أن السؤال المطروح الآن هو : ما هي هذه المشاعر القلبية التي يمكن أن أتذوقها ليتحول صيامي من تعب إلى لذة وراحة ؟ جواب هذا السؤال سؤال آخر أطرحه عليك: لماذا تصوم أصلا؟ سؤال غريب ، أليس كذلك؟ لا والله فعلا لماذا تصوم ؟ بعضهم يقول لأن كل الناس يصومون .. هذا السبب يجعل الأمر لا له علاقة بالقلب .. أنت قد جعلت الصيام الآن شيء من العادات وهذا لا يجعل للتعب أي حلاوة .. البعض الآخر يقول أنا أصوم لأنه لا بد أن أصوم ..الصيام واجب. هذا السبب طيب ولكن هل هذا كل شيء؟ توجد مراتب أعلى من هذا بكثير.. إذا أردت أن تتلذذ بالصيام فيجب أن تستحضر أنك تصوم لأجل محبوبك الذي تحبه لأن التعب إذا كان من أجل المحبوب لا يكون تعبا بل يكون متعة وسعادة.

عذابي فيك عذب *** وبعدي فيك قرب

أنت عندي كروحي *** بل أنت منها أحب

حسبي من الحب أني *** لما تٌحب أحب

هذه هي حال المحب مع محبوبه ، العربي مثلا تمرض محبوبته فيجلس بقربها ليمرضها ويعالجها فتقول له ابتعد أخاف أن أُعديك فيصر على البقاء ولسان حاله يقول:

وأحسب العدوى من غيركم هم وسقم *** ومنكم تأتي على أحلى من العسل

فإذا علمت أن الله تعالى يحب أن أصوم لأجله فأني سأفرح بما يحبه هذا المحبوب عندها سيتحول التعب إلى راحة كما أنك إذا كنت تسعى في تجهيز هدية إلى أغلى محبوب على قلبك فانك تخرج وتبحث في الأسواق وتتعب وربما تتأخر عن غدائك وعشائك بسبب هذا التجهيز ولكن الغريب انك لا تحس بهذا التعب بل انك تفرح وأنت تنتظر أن تسعد حبيبك بهذه الهدية خاصة إذا علم انك تعبت بها قد يقول قائل وهل الله عز وجل يحب منا أن نتعب؟

الجواب ربنا لا يحب تعبك لكي تتعب بل لكي تفرح فما يحصل لك في أثناء الصيام ارتفاع في إيمانك وتقوى وقوة التمسك بالدين والبعد عن المحرمات هو خير لك بكثير من وجبتين فقدتهما في النهار وأنت فقط ستؤجلهما إلى الليل فمن قال أن الصيام يزعج أصلا هذا علاج وراحة وسعادة ألسنا في كل عام تزيد سعادتنا في رمضان أكثر من بقية الأشهر مع أننا نعطش ونجوع في النهار بترك الطعام والشراب وأجسامنا تتعب في القيام والسهر في الليل ولكن مع هذا نحب رمضان ونشعر في السعادة فيه ما أحلى رمضان بل إننا دائماً نسمع من الناس أن رمضان قد مضى بسرعة ويا ليت أنه كان أكثر من شهر واحد كيف يجتمع هذا الفرح مع هذا التعب من يحل لنا هذه المعادلة الغريبة أنها ببساطة سعادة الروح التي كنا نتكلم عنها اطعم الروح وأما الجسد فأمره سهل هذا شيء ثانوي أهم شيء أن تكون أنت مرتاح وسعيد في حياتك فكلما قرصك الجوع فقل في قلبك يا ربي هذا الجوع لأجلك أنت لأني احبك فاللهم ارزقني حبك كما أنني أحببتك

قال تعالى { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّـهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّـهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّـهِ ۗ وَلَوْ يَرَ‌ى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَ‌وْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّـهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّـهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ }

﴿البقرة / ١٦٥﴾

نحب إلهنا ونفديه بأرواحنا وآباءنا وأمهاتنا فكيف لا نترك هذه الأكلات لأجلك والله ستشعر براحة عجيبة بعدها ليس لأنك أطعمت بطنك فأنت لم تأكل ولم تشرب ولكن لأنك أطعمت قلبك فوصل هذا الغذاء مباشرة إلى الروح وسعادة الروح لا تشبهها أي سعادة أخرى فيصبح الصيام له لذة

يقول ابن القيم :

" فإن اللذة تتبع الشعور والمحبة وكلما كان المحب أعرف بالمحبوب وأشد محبة له كان إلتذاذه بقربه ورؤيته ووصوله إليه أعظم "

اللهم لك الحمد وهذا هو طعم من نوع واحد فقط من أنواع كثيرة من أغذية الروح في الصيام خذ هذا طعم آخر عندما تكون وحدك وأنت في قمة العطش والجوع ولا يوجد أي شيء يمنعك إلى الثلاجة الآن فتأكل وتشرب دون أن يشعر بك احد تستطيع ولكنك لا تفعل لماذا حياء من الله استحي منك يا ربي

الم يحدث في السابق انك كنت لوحدك في خلوة وكانت هذه المعصية بين يديك فوقعت فيها ولم تستشعر نفس الحياء الذي شعرت فيه الآن الم يحدث هذا من قبل ؟

قد يقول بعضنا نعم والله حدث طيب هذه فرصة أن يكون بينك وبين الله مناجاة وحياء فتقول له الآن يا ربي أنا في خلوة لا يراني احد ومع هذا فلن آكل لن أعصيك لأني استحي منك فاغفر لي عندما كنت في خلوة لا يراني احد فعصيتك ولم استحي منك اكبر هذا يعتبر تعاملا راقيا مع الله تبارك وتعالى وهو سبحانه يحب أن تسأله لأعمالك الصالحة كلما أحسست بالجوع والعطش تستطيع أن تأكل وتشرب بدون أن يحس بك احد تستشعر الحياة وحرك لسانك بالدعاء لعل الله أن يغفر لنا ذنوبا سابقة ما استشعرنا فيها هذا الحياء الذي يملئ قلوبنا الآن

روى ابن كثير في تفسيره أن ادم عليه السلام ادم عليه السلام لما عصى الله تبارك وتعالى وذاق من الشجرة في الجنة فر هاربا فناده الله تعالى أفرارا مني

قال بل حياء منك يا الله

إنَّ أباكم آدمَ كان كالنخلةِ السَّحوقِ ستين ذراعًا كثيرَ الشَّعرِ مُوارَى العورةِ فلما أصاب الخطيئةَ في الجنةِ بدت له سوأتُه فخرج من الجنةِ فلقِيَته شجرةٌ فأخذتْ بناصيتِه فناداه ربُّه أفرارًا مني يا آدمُ قال بل حياءً منك واللهِ يا ربِّ مما جئتُ به

الراوي: أبي بن كعب المحدث:ابن كثير - المصدر: البداية والنهاية - الصفحة أو الرقم: 1/73خلاصة حكم المحدث: الحسن لم يدرك أبيا وروي من طريق أخرى أصح الصيام على ثلاث مراتب

المرتبة الأولى

صيام العامة:وهو الصيام عن المفطرات من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أما المحرمات فإنه لا يصوم عنها فهو يغتاب وينظر للمحرمات يصلي الصلاة بعد أن يفوت وقتها يصلي الفجر مثلا بعد أن تطلع الشمس يصلي الظهر بعد أن يصلي العصر وهكذا هؤلاء غالبا لا يحسون بلذة الصيام فمن قال ان الغاية من الصيام هي إيقاف الطعام والشراب فقط هذا غير صحيح

قال النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم

من لم يدَعْ قولَ الزُّورِ والعملَ به والجهلَ فليس للهِ حاجةٌ في أن يدعَ طعامَه وشرابَه

الراوي: أبو هريرة المحدث:الترمذي - المصدر: مختصر الأحكام - الصفحة أو الرقم: 3/334خلاصة حكم المحدث: حسن الغاية من الصيام هي أن تزيد عندنا التقوى لا أن نستمر بنفس المعاصي التي كنا عليها

قال تعالى

((

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ )) ﴿البقرة / ١٨٣﴾

ولهذا فان الصائم الذي يمتنع عن المفطرات ولا يمتنع عن المحرمات ينقص من أجره بحسب ما فعل من محرمات فإن زادت المحرمات أكثر نقص أجره أكثر بعض الناس من كثرة المحرمات التي فعلها في صيامه فإنه لم تبقى له حسنة

قال النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم

رُبَّ صائمٍ حظُّه من صيامِه الجوعُ والعطشُ ورُبَّ قائمٍ حظُّه من قيامِه السَّهرُ

الراوي: أبو هريرة المحدث:المنذري - المصدر: الترغيب والترهيب - الصفحة أو الرقم: 2/155خلاصة حكم المحدث: [إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما] أي أنه لم يحصل على اجر هل هذا يعني أن صيامه باطل لا صيامه صحيح لأنه لم يفعل أي مفطر من المفطرات فلا يطالب شرعا بإعادة الصيام ولكن موضوع الحسنات هذا شيء آخر لأنه إذا كان الصائم قد منعه الله تعالى من أشياء التي كانت مباحة عليه قبل الصيام كالطعام والشراب فكيف يتساهل في الأشياء التي هي في الأصل محرمة عليه حتى قبل الصيام فهل المقصود ترك المفطرات فقط أبدا

قال ميمون بن مهران أسهل الصيام هو ترك الطعام والشراب

النوع الثاني من الصيام

صيام أهل اليمين الذين يصومون عن المفطرات ويصومون عن المحرمات أيضا فيصوم بطنه ويصوم جميع أعضائه أيضا العين تصوم عن النظر اللسان يصوم عن الكذب والاستهزاء والشتم والمجادلة وعن الغيبة والنميمة حتى الأذنان تصوم عن سماع الغيبة والنميمة وعن سماع المحرمات هؤلاء يحسون بلذة لذة بالصوم لذة جزئية فصيامهم صيام أصحاب اليمين وهم الذين ينطبق عليهم

حديث النبي صلى الله عليه وعلى اله وسلم عندما قال

((من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ))

الراوي: أبو هريرة المحدث:الألباني - المصدر: صحيح النسائي - الصفحة أو الرقم: 2206خلاصة حكم المحدث: صحيح

أما أعلى مراتب الصوم وأكثره سعادة ولذة فهو الصوم الذي يصومه

وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (14)/ سورة الواقعة

قليل منا في هذا الزمان يصومون مثل هذا الصيام وهم الذين يصومون عن المفطرات وعن المحرمات ويصومون عن المباحات أيضا فيومهم كله مستحبات فهؤلاء لا ينامون طوال اليوم لا يلعب الكرة طوال النهار لا يجلس مجالس الحديث تضيع الأوقات فقط من اجل أن ينسى جوع الصيام أنهم يستغلون كل لحظة في المستحبات في الأذكار قراءة قران دعاء الاستماع إلى دروس النافعة المواعظ الطيبة بدل من مشاهدة ما لا ينفع طوال النهار فإذا كان النوع الأول تصوم بطونهم عن المفطرات

والنوع الثاني تصوم أعضائهم عن المحرمات فهؤلاء يصوم ميزانهم من أن يتوقف عن الحسنات فحسناتهم مستمرة حتى لو فعلو أي مباح فإنهم ينوون بها التقوى على طاعة الله فيتحول من مباح إلى مستحب فتجدهم يستشعرون مشاعر التي ذكرناها في أول الحلقة فتزيد حلاوة صيامهم على ما هم عليه من حلاوة إذا أتقنت هذه المشاعر وتفكرت فيها وتأملتها ثم عملت بها فسوف يتغير كل شيء فبحسب ما عندك من مشاعر اتجاه ربك وأعمال قلبية يكون تلذذك بالصيام وإلا فهل تظنون أن الفردوس الأعلى يدخلها أي إنسان نعم الجنة كثير من يدخلها أما الفردوس الأعلى لا لا يدخلها إلا النادرون وأنا متفائل بأنك ستكون منهم أخي الكريم وإنك ستكونين منهم أيضا أختي الكريمة بإذن الله تعالى

أسأل الله أن يجمعنا وإياكم في جنة الخلد في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا اللهم آمين والحمد لله رب العالمين