د. عمر بن عمر
مقاصد الشريعة (3)
﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]، ﴿سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].
اللَّهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علمًا، وصلِّ اللَّهمَّ وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
أُحييكم بتحية الإسلام: فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أمَّا بعد، فقد تحدثنا البارحة عن أنَّ هذا الدِّين له مقاصد، وأنَّ ربنا -سبحانه وتعالى- ما أنزل هذه الشَّريعة عبثًا، وإنما أنزلها لحكمةٍ وغايةٍ، وبيَّن هذه الغاية في قوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
ونقف في هذه الليلة -بإذن الله تبارك وتعالى- عند نقطةٍ صغيرةٍ ولكنَّها كبيرة، وهي الحديث عن المقصد الأول من مقاصد هذا الدين، وهو: جلب المصلحة ودَرْء المفسدة.
وعبَّر عنه ابنُ عاشور -رحمه الله- بحفظ نظام الأمَّة واستِدَامة صلاحه بصلاح المُهَيمِن عليه، وهو الإنسان، أي أنَّ هذا النظام في هذا الكون لا يصلح إلا بصلاح الإنسان.
فنقف لحظاتٍ مع المصلحة، والمصلحة ضدّ المفسدة.
هل هناك مَن لا يعرف -يا شباب- المصلحة؟ تعرفونها أم لا؟
المصلحة ضد المفسدة، وإذا رجعت إلى المعاجم وجدت أصحابها يقولون: المصلحة ضدّ المفسدة، والمفسدة ضدّ المصلحة.
والمصلحة هي: النَّفع، وهي الخير، وهي ما يُحبه الإنسانُ ويلتذُّ به، فهذه مصلحة، وكلُّ واحدٍ يعرف المصلحة، فإذا كلَّمت أيَّ إنسانٍ في هذا الكون وقلت له: ما تعمل؟
يقول لك: أعمل في مصلحتي.
تمشي من هذا الطريق لأنَّ مصلحتك في هذا الطريق.
تدرس الشَّريعة؛ لأنَّ مصلحتك في الشَّريعة، ولو درست الطب فذلك لأنَّ مصلحتك في الطب.
فكلُّ إنسانٍ في هذا الكون إنما يتحرَّك بناءً على تحقيق مصالحه، حتى فرعون، وقد تحدَّثنا عنه البارحة، واليوم نتحدَّث عنه أيضًا، وقد أكثر الله الحديثَ عنه وعن موسى في كتابه الكريم أكثر مما تحدث عن نبينا محمدٍ؛ لنأخذ من ذلك العِبْرة، ففرعون عندما يتحرك وعندما يسوس قومَه وعندما يتكلم وعندما يُعطِي رأيًا فذلك بناءً على مصلحةٍ، حتى إنَّه لما جاء موسى -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- قال فرعون فيما حكاه لنا ربُّنا -سبحانه وتعالى- في كتابه: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26].
سبحان الله!
فرعون في نظر نفسه هو مُصلِح.
وموسى في نظر فرعون هو مُفسِد.
لا إله إلا الله! انظر للقيم كيف انقلبت!
فرعون مصلح! ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]. هذا فرعون.
لكن ربي -سبحانه وتعالى- ماذا قال عنه؟
﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى﴾ [طه: 79].
المنافقون فيما حكاه لنا ربُّنا -سبحانه وتعالى- ماذا يقولون؟
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11]، فالمُفسِد والمنافق يعتبر نفسَه مُصلِحًا.
فكلُّ إنسانٍ في هذا الكون يتحرَّك بناءً على المصلحة، ولكن هل كلُّ مصلحةٍ هي مصلحة؟
لا، المصلحة المُعتَبرة هي ما بيَّنها ووضَّحها ربُّنا -سبحانه وتعالى.
لهذا عندما تحدَّث عن الخمر والميسر قال: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219].
هذا معناه أنَّ الخمر فيها منفعة، فيها مصلحة، والقمار فيه مصلحة، لكن هل هذه المصلحة مُعتَبرة عند ربنا؟
لا، ولهذا فإنَّ الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك بيَّن أنَّ الخمر رغم ما فيها من مصلحةٍ، ورغم ما فيها من منفعةٍ إلا أنَّها في شرع الله حرام، مَفسدة ينبغي تجنُّبها.
لماذا؟
لأنَّ العبرة بالغالب، فالعمل إذا امتزجت فيه المصلحة مع المفسدة فالعبرة كما قال الشَّاطبي بالغالب، فننظر إلى الجانب الغالب؛ وقد قال الشَّاطبي: "قلَّ أن تجد في هذه الدنيا مصلحةً محضةً" أي مصلحة خالصة ما فيها مفسدة.
حتى إذا جئنا للأكل؛ مصلحة أو ليس مصلحة؟
مصلحة، ولكن فيه شيءٌ من المفسدة أو لا؟
أنت حتى تأتي بالأكل يلزمك أن تتعب حتى تأتي بالخبز والخضار، وتحضر، وتحضر، وتتعب حتى تصنعه المرأة، وتعبت قبل ذلك حتى جمعت المهرَ وتزوَّجت، وأنت تأكل مرةً تعضُّ لسانك، ومرةً تأتي لتأكل والطعام ساخن يحرقك، ومرةً يغص الإنسان بالأكل، ففيه نوعٌ من المفسدة، ولكن الغالب عليه المصلحة.
ولهذا الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: 31]، لماذا لا تسرفوا؟
لأنَّ الإسراف فيه مفسدة، فمن الممكن أن تأكل وتأكل وتأكل وتملأها، قال: "املأها للضيق".
أين الضِّيق؟ تعرفون الضيق أم لا؟
معناها: املأها إلى هنا.
فصاحبه يسأله: إذا ملأتها للضيق؛ ماذا تفعل بالماء؟
قال: "الماء زرقوا تزريق"، أي سيجد مكانًا.
قال له: والهواء؟
قال: الله يجعل له طريقًا.
أنت تتكلم في الهواء؟! المهم املأها.
سيدنا -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، وَإِنْ كَانَ وَلَابُدَّ فَاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ»، فقسَّمها، ولكن هذا أخونا ما فعله فيه مضرَّة، ولهذا نهانا الشَّارعُ عن ذلك -عن الأكل الكثير.
وكما يقول الأطباء: "المعدة بيت الدَّاء، والحمية رأس الدَّواء".
ورمضان قريب، نسأل الله العلي القدير أن يُبلغنا رمضان، ورمضان جعله الله لنا نوعًا من أنواع الحمية، تعرفون ما معنى الحمية؟
معناها بالعربي: الرِّجيم.
فربنا جعل لنا هذا الشَّهر حتى يتغير نظامُ الإنسان، وترتاح المعدة قليلًا، ولكن لا نصوم في النهار وفي الليل نملأها للضيق، لا تملأها للضيق، وإنما «بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ».
فالشَّاهد: أنَّ أي مصلحةٍ -وضربنا مثالًا بالأكل فهو مصلحة- فيها شيءٌ من التَّعب، والتَّعب هو المفسدة.
إذا قلنا: الصلاة مصلحة، ولكن فيها تعب أم لا؟
فيها تعب، ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]، فالصَّلاة ليست هيِّنةً، وإنما تحتاج الرُّجولة، وتحتاج إلى إرادةٍ وعزيمةٍ حتى يثبت عليها الإنسانُ ويستمر عليها، ويُحافظ عليها، وما حافظ عليها إنسانٌ إلا كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: «إِلَّا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ تَكُنْ لَهُ نُورًا وَلَا بُرْهَانًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَحُشِرَ مَعَ فِرْعَوْنَ وَقَارُونَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ».
فالرسول -صلى الله عليه وسلم- أعطانا أربعة أصنافٍ:
- فرعون: معناه الرُّؤساء الذين لا يُصلون، فهم مع فرعون.
- والوزراء مع هامان.
- ورجال الأعمال مع قارون، هل تعرفونه أم لا؟
﴿وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ﴾ [القصص: 76]، ليست الكنوز؛ وإنما مفاتيح ديار الكنوز يتعب في حملها الرِّجال.
لما قالوا له: ﴿لَا تَفْرَحْ﴾ [القصص: 76]، لا تفرح هنا ليس الفرح الذي نعرفه، لا تفكروا في مجال الدُّهن الذي سمعتم عنه البارحة، دهن البارحة ليس دهن الشَّحم واللِّيَّة.
﴿لَا تَفْرَحْ﴾ هنا بمعنى: لا تتكبر، وتذكَّر أنَّ هذا المال يا قارون هو مال الله، فالله -سبحانه وتعالى- هو الغني، يُغنِي مَن يشاء ويُفقِر مَن يشاء، يبسط الرزقَ لمَن يشاء ويقدر.
فلما قيل له في ذلك أنَّ هذا المال مال الله كما قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ﴾ [الحديد: 7]، وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33].
فالمال مال الله، والإنسان مُستَخْلَفٌ فيه، والله -سبحانه وتعالى- مُختَبرك وناظر ما أنت فاعل فيه، ويوم القيامة يُسأل الإنسانُ كما أخبر المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ؟ -فيما أمضيت عمرك يا ابن آدم- وَعَنْ شَبَابِهِ -فترة الشباب- فِيمَ أَبْلَاهُ؟ وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ؟»، تعلَّمت علمًا، سمعت كلمةَ خيرٍ، طبَّقتها أم لم تُطبقها؟ والسؤال الأخير: «وَعَنْ مَالِهِ -وفيه سؤالان- مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ؟ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ؟».
السؤال الأول: من أين أتيت بهذا المال؟ من أين اكتسبت هذا المال؟
إن كان من حلالٍ فأبشر بالخير، وإن كان من حرامٍ فبئس المسعى، فيتجاوز إذا كان حلالًا.
السؤال الثاني: فيمَ أنفقته؟
فإن كان في خيرٍ فأبشر، وإن كان في غير ذلك فيا خيبةَ الأمل.
ولهذا لما قِيل لقارون: لا تفرح، لا تتكبر، فالمال مال الله، قال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ﴾ [القصص: 78]، أي بفضل تفكيري وتدبيري جاءني هذا المال.
والأزمة الاقتصادية الأخيرة -والعالم ما زال يعيش في أزمةٍ- جعلت كثيرًا من أصحاب الأموال -الذين كانوا في عليين- في لحظةٍ واحدةٍ في أسفل سافلين -والعياذ بالله- في الحضيض؛ لأنَّ هذا المال بيد الله يُؤتيه مَن يشاء: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ﴾ [آل عمران: 26]، وإذا ما فهمتم الآية فالآن في ظروفنا في تونس لن تفهموها. لماذا؟
ما جرى لنا يُوضِّح تمامًا هذه الآية، فقومٌ كانوا أعزَّةً -كانوا فوق- فأذلَّهم الله -سبحانه وتعالى- وأناسٌ كانوا في السُّجون فأعزَّهم الله، وهذا ابتلاءٌ لهم، والابتلاء بالخير أشدُّ وأعظم من الابتلاء بالشَّر، فليتقوا الله ربهم، ولنتَّقِ كلنا ربنا -سبحانه وتعالى- ولنتذكر أنَّ هذه النعمة التي نحن فيها إنما هي من عند الله، فمُقابلها الشكر: ﴿لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
فهذه المصلحة، فكلُّ إنسانٍ إذن يتحرَّك في إطار هذه المصلحة، لكن ربنا -سبحانه وتعالى- بيَّن أنَّه ليس كلُّ مصلحةٍ مصلحةً، وإلا فالرِّبا فيه مصلحة أم ما فيه؟
نعم فيه مصلحة، أعطيك مئة دينار وترجع لي مئة وعشرون، فيها أم ما فيها؟
فيها، ولكن هل الله -سبحانه وتعالى- اعتبر هذه المصلحة مصلحة أم اعتبرها حربًا على الله؟
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ﴾ [البقرة: 278، 279]، إعلان الحرب -والعياذ بالله.
ونحن نتكلم عن المصلحة سُئِل أحدهم: هل يجوز للإنسان أن يبني بيتًا بمالٍ ربوي؟ يستدين حتى يبني بيتًا.
فأجاب بالإيجاب وقال: يجوز له ذلك.
فكان عندي برنامج في قناة الشَّارقة من فترةٍ، فاتَّصل كثيرٌ من الناس: يا شيخ، ما حكم الاستدانة بالرِّبا لبناء بيتٍ؟
فأجبت بالتحريم: حرام.
فقال لي أحد السَّائلين: يا شيخ، فلان أفتى بكذا.
فقلت: يا أخي، إذا كان الشيخ فلان أفتى لك، لماذا تأتي تستفتيني؟! اذهب للشيخ فلان، لا ناقةَ لي ولا جمل، لا سلطةَ لي عليك، افعل ما تشاء. لكن قلبه فيه شكٌّ، ليس مرتاحًا للفتوى.
ولهذا فإنَّ سيدنا -صلى الله عليه وسلم- قال: «اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ»، وفي حديثٍ آخر قال: «وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَخَشِيتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ».
فهو غير مرتاحٍ للفتوى فيحب أن يسأل شيخًا آخر، كما نقول: "يدبسها في رأسي".
يقولون: "أُقَلِّد عالم وألقى ربي سالم"، فهو يحب أن يُحملني المسئولية، وأنا لا أفتي بجوازه. لماذا؟
لأنَّ هذا ربا، وهو إعلان الحرب على الله، وكما يقولون عندنا في المثل التونسي: "عاش ما كسب، مات ما خلف"، ربي يوم القيامة لن يُحاسبك لماذا لم تَبْنِ بيتًا؟! لا تخافوا فهذا السؤال غير واردٍ، ولكن لو استعملت مالًا حرامًا سيسألك عليه.
فعندما نتحدث ما المصلحة؟ ونحب أن نعرف هل هذه مصلحة أو ليست بمصلحةٍ؟
يقول شيخُ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "ليس العاقلُ مَن يعرف الخيرَ من الشر، وإنما العاقلُ مَن يعرف خيرَ الخيرين وشرَّ الشَّرين".
قال: مسألة الخير والشَّر هذه يعرفها أيُّ إنسانٍ، فالطَّلبة حين أشرح لهم أحيانًا أقول لهم: حتى القطة -ونقولها بلغتنا "القطوسة"- تعرف المصلحة من المفسدة أم لا؟ كيف ذلك؟
فحين تضع طعامك ويأتي القط ويأخذ لحمًا من غير ما تُعطيه، ماذا يفعل؟
يهرب فورًا. لماذا؟
لأنَّه يعرف أنَّه عمل خطأ، لكن حين تُعطِيه أنت لحمًا ماذا يعمل؟
يقعد بجانبك ويأكل، معنى هذا أنَّ القط يعرف أنَّه عمل مصلحة أو عمل مفسدةً، وأنت يا ابن آدم لا تعرف المصلحة من المفسدة؟!
فكلُّ إنسانٍ يعرفها، لكن من تلبيس إبليس، ولهذا قال شيخ الإسلام: "العاقل هو الذي يعلم ويعرف خيرَ الخيرين وشرَّ الشَّرين".
فإذا كانت هناك خيارات كثيرة ومصالح كثيرة فاختر الأحسن، كما قال ربي -سبحانه وتعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ [الزمر: 18].
معناه أنَّ كلامي فيه غَثٌّ وسَمِينٌ، فيه كلمة خائبة، وكلمة كذا، فأنت أيها المُستمع دورك ومسئوليتك أن تُنَقِّي وتُصفِّي وتُغَرْبل وتختار ما فيه الحُسنى، بل ما هو أحسن وأفضل.
وهكذا في حياتنا على المسلم أن يختار، وهذا الاختيار حتى نعرف المصلحة من المفسدة كما يقول ابنُ قيِّم الجوزية -رحمه الله: "هو مذلَّة أقدام، ومضلَّة أفهام".
أي قد تزل القدمُ فينحرف عن المصلحة، أو يضل عقله؛ فلا يختار الأصوبَ والأصلح، أو لا يختار المصلحة.
فمن توفيق الله -سبحانه وتعالى- أن يختار المسلم المصلحة دون غيرها، وقد يُخطئ الإنسان -سبحان الله- كما قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ»، فكلُّ إنسانٍ يُخطئ، فبعض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- في غزوة أُحُدٍ أخطئوا عندما أمر الرُّماة ألَّا يُغادروا المكان -الجبل- مهما كانت الظُّروف ولو تخطَّفتهم الطير، لكن لما انتصر المسلمون وبدأ المسلمون المجاهدون في جمع الغنائم إذ بإخواننا الذين كانوا في أعلى الجبل بعيدين عن متاع الدنيا وحُطام الدنيا، وبعيدين عن الغنيمة؛ يخافون أن تضيع منهم، فما كان منهم إلا أن نزلوا وغادروا المكانَ ظنًّا منهم أنَّ ذلك الفعل هو مصلحة، وإلا لو كانوا يعلمون الغيبَ لما نزلوا مهما كانت الظروف، ولكنَّهم لما نزلوا ولما لم يستجيبوا لله -سبحانه وتعالى- ولرسوله حصل ما حصل في تلك الغزوة، وأُصيب فيها رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي- وكذلك استشهد فيها حمزةُ وغيره من الشُّهداء -رضي الله عنهم أجمعين.
فالله -سبحانه وتعالى- ليُبيِّن لعباده المصلحة بيَّنها لنا في كتابه أو في سنَّة نبيه -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكن قد تكون في زماننا مصالح، هذه المصالح لا نجد لها ذِكرًا في كتاب الله ولا في سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنجتهد، وقد حثَّنا ديننا على الاجتهاد، وفي حديث معاذ -رضي الله عنه- لما أرسله رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لليمن قال: «بِمَ تَحْكُمُ؟».
قال: بكتاب الله.
قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟».
قال: فبسنَّة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟».
قال: أجتهد رأيي ولا آلُو.
وإن كان في الحديث كلام إلا أنَّ الأمَّة تلقته بالقبول، فأجتهد، فواجب المسلم اليوم أن يجتهد ليعلم المصلحة من المفسدة، وأن يتثبَّت ويتروى في المسألة كما قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾ [الحجرات: 6].
الشاهد: قوله ﴿فَتَبَيَّنُوا﴾.
وفي آيةٍ أخرى قال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6]، وفي قراءة: ﴿فَتَثَبَّتُوا﴾.
فلابد من التَّروي والتَّثبت، ولا تُغمِض عينك وتقول: هذه مصلحة وهذه مفسدة؛ لا، اصبر، تأكد، اجتهد، واستخدم عقلك الذي ربي -سبحانه وتعالى- أعطاه إيَّاك، والذي ميَّزك به عن سائر الكائنات، وبه فضَّلك وبه كلَّفك، فلابُد أن تجتهد وتتثبت، فتُطيل التَّأمل هل هذا الفعل فعلًا فيه مصلحة أو ليس بمصلحةٍ؟
تتثبت وتتأكد؛ لأنَّ عدم التثبت قد يُؤدي إلى اعتبار المصلحة مفسدة، والمفسدة مصلحة، وإذا عكسنا فمعنى هذا أنَّ المجتمع يمشي إلى هاويةٍ. لماذا؟
لأننا قلبنا الموازين، فصارت المصلحةُ مفسدةً، والمفسدة مصلحةً، وانقلبت الموازين، فمعنى هذا أنَّ المجتمع يسير في داهيةٍ -والعياذ بالله.
أمَّا إذا تثبتنا وتأكَّدنا؛ فذلك يعني أنَّ الأساس أساسٌ متينٌ، وأنَّ المجتمع يمشي على الصِّراط المستقيم، ونظل -بإذن الله- كما قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: «لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»؛ لأنَّهم يعلمون الحقَّ من الباطل، ويعلمون المصلحة من المفسدة، حتى ولو زيَّن الشيطانُ وأتباعه المفسدة بما شاءوا، فالخمر مشروبات رُوحية: ﴿كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا﴾ [الكهف: 5].
والرِّبا فوائد، هل هناك أحد لا يُحب الفائدة يا شباب؟! أتحبون الفائدة أم لا؟
كلنا نحب الفائدة، لكن إذا انقلبت الموازين وأصبح الرِّبا فائدةً فبئست الفائدة.
فقال: لابُد من الاجتهاد.
ثم الأمر الآخر: الحذر من الوَهْم.
فالإنسان أحيانًا قد يتوهم أنَّ هذا الفعل مصلحةٌ، بناتنا ننبههنَّ خاصَّةً مع معسول الكلام، ويجيئها ويضحك عليها بكلمتين، وبيت الشعر قال: "والغواني يغرهنَّ الثَّناء".
فتغتر بكلامه، وتتصور أنَّه فارس أحلامها، وأنَّه هو الذي جاء على حصان أبيض ويأخذها ويمشي؛ فتُسلِّم نفسها إليه، وإذا به بعد ذلك يُصبح ذئبًا لابسًا جلد خروف -نحن نقول "علوش"- صغير وَدِيع حمل.
وإذا كلمتها أمُّها تقول: أنا أعرف مصلحتي.
تعرف مصلحتها! صارت جامعيةً وتقرأ في الجامعة وأمها مسكينة ما قرأت، وبعد مدةٍ يقع الفأس في الرأس وتقول: يا ليتني!
فلابُد من الحذر، ولهذا ربنا -سبحانه وتعالى- في كتابه عندما تحدَّث عن مثل هذه المسألة قال: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39].
فالأمر الثالث: الحذر من الهوى:
فحتى نتبين أنَّ هذا الفعل وهذا الأمر مصلحة أو ليس بمصلحةٍ فلابُد من الحذر من الهوى، والهوى ما ذُكِر في كتاب الله إلا مقرونًا بالذَّم، فربي لا يُحِب الهوى، فالهوى مذموم، والإنسان أحيانًا كما قيل: "النفس طمَّاعة فعوِّدها القناعة"، فالنفس تميل إلى الشَّهوات، فمن الممكن أن يلعب الهوى في النفس، وأنَّ هذا شيخي وهذا أستاذي أو هذا مذهبي أو هذا كذا؛ فقد يلعب الهوى في النفس؛ فينحرف الإنسانُ عن الحقِّ، وينحرف عن المصلحة -والعياذ بالله.
فلابُد من الحذر من الهوى، علمًا بأنَّ الشريعة إنما أُنزِلت لإخراج الناس عن دواعي أهوائهم.
وإلى لقاءٍ آخر، أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، اللَّهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبِّت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللَّهم أرنا الحقَّ حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطلَ باطلًا وارزقنا اجتنابه، اللَّهم اغفر لنا أجمعين، وألِّف بين قلوبنا، ووحِّد على الحقِّ كلمتنا، واجمع شملنا، وبلِّغ مما يُرضيك آمالنا، وتوفَّنا وأنت راضٍ عنا يا رب العالمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين: ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الصافات: 180- 182].
والسَّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=89