د. عبد الله الوصيف
مقاصد الشَّريعة (1)
بسم الله الرحمن الرحيم، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمُرسلين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله ومَن سار عن نهجه إلى يوم الدين.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أُرحِّب بالمشايخ: الدكتور الشيخ حسَّان، والدكتور الزَّهراني.
وبُودي أن تكون هذه الجلسة مُسامرةً، ولكن لا تُسعفني كلمات الشُّكر للمشايخ؛ لأنَّ هذه الكلمات مهما كانت لا تكفي للتَّعبير عن سعادتي بحضورهم.
مفهوم الثقافة باعتبار اللُّغة العربية، قد وردت بعض المُشتقَّات في العربية لمعاني الكلمة، منها: ما ورد في القرآن بمعنى اللِّحاق: ﴿إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً﴾ [الممتحنة: 2].
والثقافة تتصف بصفتي: الثَّبات، والانفتاح.
وتتسع هذه الثقافة الإسلامية لتستوعب الإنسانية جمعاء، متى أمكن تحقق الفَهم الواضح الجَلِي، وتطبيقه السَّليم السَّوي لأسس ومصادر الوحي الصَّحيح للثقافة الإسلامية: القرآن الكريم، والسُّنة النبوية الشَّريفة، وما استُمدَّ منهما من أحكامٍ وحِكَمٍ وَفْقَ المناهج العلمية السَّليمة، وبدون هذا الفهم الواضح الجلي والتَّطبيق السَّليم السَّوي لا يمكن أن تتحقق الثَّقافة على الوجه الأمثل الجامع المانع، وأن تكون لها المصداقية المُقنعة التي أمر بها الإسلامُ، وعرفها التاريخُ لقرونٍ طِوالٍ، ونحن نعرف كيف سادت الثقافة الإسلامية وانتفع بها الناسُ في كثيرٍ من القارات الأرضية شرقًا وغربًا، وجنوبًا وشمالًا.
أجل، لقد جاء الإسلامُ بدعوةٍ عامَّةٍ لكلِّ البشرية، لا تخصُّ أهلَ مكة ولا أهلَ الجزيرة العربية كما يزعم بعضُ المستشرقين، ولا تخصُّ زمانًا ولا مكانًا محدَّدًا، فهي دعوةٌ عالميةٌ كونيَّةٌ بحقٍّ، خالدة في أحكامها وحِكَمِها وآدابها وقِيَمها.
قال محمد إقبال -رحمه الله: "زمزم فينا، غير أنَّه مَن يُعَرِّفُنَا كيف نشرب زمزم؟"، إشارةً إلى: كيف نعرف السُّنن الكونيَّة ذات الأبعاد العالمية في الثقافة الإسلامية كما عَرفها أسلافنا من قبل، حتى ينتفع الناسُ في الحال وفي الاستقبال بها.
فنحن إذن نفتقر إلى جهدٍ علميٍّ دعويٍّ جماعيٍّ نيِّرٍ واعٍ يُؤدي إلى التَّقدم والرُّقي، ويكشف عن مفهوم العالمية، ويكشف عن مدى صلاحيتها للبشرية في كلِّ زمانٍ وفي كلِّ مكانٍ.
قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28، 29]، وقال تعالى في سورة القلم: ﴿وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ * وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ﴾ [القلم: 51، 52]، وجاء في سورة سبأ قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [سبأ: 28]، وقال في سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ [الفرقان: 1]، وفي سورة الأنبياء جاء قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، وفي سورة يوسف ورد قوله تعالى: ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ * وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لّلْعَالَمِينَ﴾ [يوسف: 103، 104]، وجاء في سورة الأنعام قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ﴾ [الأنعام: 19]، وقال تعالى في نفس السورة -سورة الأنعام: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 90].
وهذه الآيات كلها مكيَّة مما يدلُّ على أنَّ عالمية الرسالة قد تقرَّرت منذ نزول القرآن، وفي العهد المكي الذي تعرَّض فيه الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- وَصَحَابَتُهُ إلى الأذى الشَّديد من أهل مكة الذين كان أغلبهم يُعارضون الرِّسالة حتى لو خُصُّوا هم بها دون غيرهم.
ولم تنزل بالمدينة المنورة سوى آية واحدة من سورة الأحزاب، وهي قوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، وهذه الآية تُصرِّح بختم النبوة لكلِّ أهل الأرض جميعًا، وسيظل كتابُ الله وسُنَّةُ رسوله الدُّستور الأشمل والأعم للناس كافَّةً لمَن شاء منهم أن يستقيم.
هكذا نرى أنَّ مفهوم العالمية والكونيَّة بكلِّ معانيها من الشُّمول والعموم قد تقرَّر في الرسالة الإسلامية، وتقرَّر فيها مبدأ الحرية أيضًا، ومبدأ رفض الإكراه وحقّ الاختيار، ومبدأ تَحَمُّلِ المسئولية: ﴿فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ [الكهف: 29]، ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، وهكذا أسفر الصُّبح لذي عينين.
وبحسب ما تقدَّم يُمكننا تعريف الثقافة الإسلامية بأنَّها: المعرفة الجامعة لأصول النُّظُم العقدية والتَّشريعية، والقِيَم الخُلُقيَّة التي جاء بها الإسلامُ، وعمل الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- على نشرها وتجسيمها، وتابعه الصَّحابة من بعده، ودرج الخلفُ من بعدهم عليها، وخاصَّةً كبار الأئمة والمجتهدين ممن توافرت فيهم شروط الاجتهاد؛ فعملوا على تعميق وإبراز المفاهيم الكليَّة الكبرى؛ لتكون علامات مُضيئة على طريق السَّالكين من أبناء الأمَّة جيلًا بعد جيلٍ إلى أيام الناس هذه، أي عبر مسيرة الأمة الإسلامية كما نرى في عمل المجامع الإسلاميَّة اليوم والجامعات الإسلامية المتكاملة اليوم.
ناهيك أنَّ الأمة الإسلامية رُغْم سِعة ميادين حياتها وعمرها الطويل عبر الأمكنة والأزمنة قد استطاعت أن تجمع وتُوحِّد بين مختلف الأجناس في مختلف الأَصْقَاع.
أليس في هذا ردٌّ على مَن يدَّعي أنَّ العالمية في الثَّقافة للعَولمة الغربية؟!
أليس في هذا ردٌّ على الذين يستنسخون الثَّقافة الأجنبية من أبنائنا ويُسقِطونها علينا إسقاطًا؛ لتحويل مجرى تاريخنا الذي عرفناه طويلًا، خاصَّةً في تونس منذ نحو خمس وخمسين سنة، والأمَّة لولا إصابتها، ولولا الدور الكبير الذي رسَّخه الصَّحابة هنا في هذه الرُّبوع في القيروان وفي بلادٍ أخرى، ثم في جامع الزَّيتونة- لولا ذلك لانسلخت الأمَّة من هُويتها ودينها.
إذن ثقافتنا ما مُقَوِّماتها -الثقافة الإسلامية والثقافة الوطنية؟ ما مُقَوِّمات الثقافة الوطنية؟
مُقَوِّمات الثقافة الوطنية هي:
أولًا: ما ورد في أصول الإسلام من الثَّوابت، ثم ما استنبطه كبارُ المجتهدين من الأحكام والحِكَم من أجل رفض الخلاف والتَّناقض بين الأمم؛ لأنَّ غياب المعرفة العلميَّة بين الشباب ينتج عنه التَّناقضات، وينتج عنه المُعارضات، وينتج عنه التَّضارب، وهذا ما نراه -للأسف- في هذه الأيام بين بعض الشَّباب -هداهم الله- وهم مُخلِصون صادقون في أحاسيسهم؛ لأنَّهم يُسارعون في رفض بعضهم البعض، في حين أنَّ الإسلام يدعوهم إلى أن يكونوا أمَّةً واحدةً: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 92].
فكيف لا يُصلي الشَّباب معًا؟! وكيف نلتقي في الحفلات، أو في الاجتماعات الخارجية، أو في المقارِّ، أو في المناسبات، ثم نفترق في المساجد؟!
هذا لعمري شيءٌ فظيعٌ.
أنا أُوصي الشَّباب هنا بأن يتعلَّموا.
وقد اكتفيتُ بهذا في هذه المحاضرة؛ لأنَّ المحاضرة ستطول أكثر من ساعة، وأعرف أنَّ هناك مَن ينتظر غيري، كما استمعتُ منذ لحظةٍ للكلمة المأثورة: "زامر الحيِّ لا يُطرِب"، وإن كان هذا المثل خارجًا عن ثقافتنا وليس من الثقافة الإسلامية للأسف، لكنَّه كاللغة مفروضة علينا.
ألا تعرفون أنَّ لغتنا معظمها مُشوَّهًا باللغة الفرنسية؟ وأنَّ واجهات المحلات مشوهة؟ حتى الجوال البسيط الذي تُرسل رسالةً من خلاله فتكتبها بالأحرف الأجنبية؟!
من أين هذا يا أيُّها الإخوة؟
هو من تأثير الثَّقافة الأجنبية التي تأتينا بواسطة الاستشراق والاستعمار والتَّنصير، وهي التي تُؤثر في تفريق الصُّفوف، وتُعطِّل عوامل الوحدة، وتُحبِط العزائم، وتُفرِّق الصُّفوف.
علينا -أيُّها الإخوة- أن نلتفت إلى الثقافة الإسلامية، ولن نصل إلى الثقافة الإسلامية ما لم نتعلم العلوم الإسلامية، خاصَّةً القرآن الكريم وعلومه، والسُّنة النبوية وعلومها، وما استُمد منهما من العلوم والمعارف الأخرى؛ كي نصعد إلى الوعي الذي يقودنا إلى محبَّة بعضنا بعضًا، ألا يدعونا الإسلامُ إلى المحبَّة فيما بيننا، بل إلى محبَّة الآخرين؟!
الإسلام يدعونا إلى الانفتاح على غيرنا، وإنما ينهانا الله -سبحانه وتعالى- عن الذين اعتدوا علينا: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 8]، ويأتي النَّهي بعد ذلك عن الذين قاتلونا في الدين وحاربونا، أو حاربونا في اقتصادنا، أو عطَّلوا العمال وصرفونا عن النَّهضة بفوز هذه الثَّورة المباركة التي هي ثورة الشَّباب بالدرجة الأولى، أعني الشيوخ والشباب، فلا يجوز الاحتكار هنا، ولكن الشباب لديهم مستقبل، والثورة تهمهم كثيرًا وتهمنا معهم، فهم أبناؤنا وبناتنا.
فعلينا إذن أن نلتفت إلى معرفة الثقافة الإسلامية من حيث هي إسلامية.
لذلك أنا الآن سأُفسح المجالَ بحسب ما جاءني من التَّنبيه من الإخوة الذين لا ترونهم، ولكني أراهم يقولون: إنَّ الشَّباب والشيوخ ينتظرون التَّدخل من طرف بعض المشايخ الضُّيوف الذين نُرحِّب بهم كثيرًا ونُحبهم، وقد جاءوا لمُساعدتنا، فلتسمعوا منهم أكثر -بارك الله فيكم- وأُؤجِّل محاضرتي إلى حصَّةٍ أخرى؛ لأنَّها تتطلَّب وقتًا، وهي أيضًا خاصَّة ببعض المتعلمين من الجامعيين ومَن شاكلهم.
أعانكم الله ووفَّقكم، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=89