ندوات تلفزيونية - قناة الرسالة - العقيدة والإعجاز - الدرس (16-36) مقومات التكليف : الشهوة -2- تحكم الشهوة بالإنسان - خصائص الماء
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2007-12-28
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا في رحمتك في عبادك الصالحين.
الشهوة مقوِّمًا للتكليف:
1 – مَن هو عبدُ الشهوة ؟
أيها الإخوة الكرام، مع درس السادس عشر من دروس العقيدة والإعجاز، وفي الدرس الماضي بدأنا موضوع " الشهوة "، والشهوة إحدى مقومات التكليف، هناك تساؤل عند معظم الناس أنه لولا الشهوات لما وقع الناس في المعاصي والآثام، وقد يأتون ببعض الشواهد أن النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
(( تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ ))
فالإنسان عبدٌ للدينار، وعبدٌ للدرهم، وقد يكون عبداً لبطنه، وقد يكون عبداً لفرجه، وقد يكون عبداً للخميصة لثيابه.
الحقيقة أن هذا الحديث يشير إلى فئة من الناس عبدت شهواتها من دون الله، وقد أكد الله هذا المعنى فقال:
﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ﴾
( سورة الفرقان الآية: 43 )
وكما تعلمون أن العبادة نوعان، هناك عبيد، وهناك عباد، العبيد جمع عبد القهر، والعباد جمع عبد الشكر، فالإنسان الذي عرف الله، بمبادرة منه، وأحبه، وأطاعه وأقبل عليه، والتزم بمنهجه، وأحسن إلى خلقه، هذا عبد الشكر، وجمعه عباد.
﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾
( سورة الفرقان الآية: 63 )
بينما الذي ركب رأسه، وتحكمت به شهوته، وعبد شهواته من دون الله فهذا عبد القهر، هو عبد لله، لأنه مقهور، لأنه في قبضة الله، ففي أية ثانية ينتهي عند الله، فهذا عبد القهر جمعه عبيد.
﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾
( سورة فصلت الآية: 46 )
2 – الشهوة حيادية:
كما قلت في درس سابق: الشهوة حيادية، لأنك مخير يمكن أن تكون الشهوة سلماً ترقى بها إلى أعلى عليين، ويمكن أن تكون الشهوة نفسها دركات يهوي بها الإنسان إلى أسفل سافلين، هي حيادية، ولا أدلّ على ذلك من هذا المثل الذي استخدمه كثيراً:
الوقود السائل في المركبة إن وضع في المستودعات المحكَمة، وسال في الأنابيب المحكَمة، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب ولَّدَ حركة نافعة، السائل هوهو، إذا صُب على المركبة أعطى شرارة أحرقت المركبة ومَن فيها، فكما أن هذا الوقود السائل قوة محركة نافعة رائعة، هو قوة مدمرة ماحقة، هكذا الشهوة، اعتقد اعتقاداً يقينياً أن الشهوات حيادية، فهي سلَّمٌ ترقى بها إلى أعلى عليين، ودركات يهوي بها الإنسان أحياناً إلى أسفل سافلين.
ضربت مثلا، إنسان يتزوج امرأة صالحة تسره إن نظر إليها، تطيعه إن أمرها، تحفظه إذا غاب عنها، ينجب منها أولاداً أبراراً، وبنات مؤمنات يتزوجن شباب مؤمنين، تجد الأسرة رائعة، أحفاد وأحفاد الأحفاد أناس صالحون، تربيتهم عالية، وعناصر طيبة في المجتمع، رأس هذه الأسرة له مكانة مرموقة جداً، مع أنّ أصل هذا المشروع علاقة جنسية ، أليس كذلك ؟
والإنسان قد يفتح ملهى ليليا، يمارَس المعاصي والآثام، يسمح لرواد هذا الملهى أن يقعوا في الزنا والحرام، وما إلى ذلك، تجد هذا المكان بؤرة فساد، والأصل علاقة جنسية.
فالشهوات حيادية، يمكن أن ترقى بها إلى أعلى عليين، وبالشهوة يمكن أن يهوي الإنسان إلى أسفل سافلين، والشهوة هي هيَ.
3 – الحظوظ الدنيوية حيادية:
الشهوات حيادية، والحظوظ حيادية، والذكاء حيادي، فقد تكون ذكياً فتستخدم هذا الذكاء في نشر الحق، وقد تكون ذكياً فتستخدم هذا الذكاء في إفساد البشر، وفي جمع الأموال الطائلة من طريق غير مشروع.
الوسامة قد تكون في خدمة الحق، لأن الإنسان إذا كان وسيماً أعانته وسامته على تحقيق أهدافه في الحياة، وقد تكون هذه الوسامة سبباً لوقوع هذا الشاب في آلاف المعاصي والآثام.
طلاقة اللسان، وجميع الحظوظ حيادية، وجميع الشهوات حيادية، وجميع الأعطيات الإلهية حيادية، أعطاك الله مالا، فإما أن ينفق في طاعة الله فترقى به إلى أعلى عليين، أو أن ينفق المال في إفساد الناس، وفي ممارسة شهوات لا ترضي الله.
الوجاهة: قد تكون في منصب رفيع فتستخدم هذا المنصب لإحقاق الحق، وإبطال الباطل، فترقى بهذا المنصب إلى أعلى عليين، وقد تستخدم هذا المنصب لتجميع أموال طائلة بطريق غير مشروع،فتهوي إلى أسفل سافلين ف، الحظوظ، والشهوات، والأعطيات الإلهية كلها حيادية، لأنك مخيَّر فكل شيء حيادي، ترقى به أو تهوي به.
لذلك قرأ بعضهم هذه الآية، وهي قوله تعالى:
﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾
( سورة الفجر ).
جاء الجواب الإلهي الرادع:
﴿ كَلَّا ﴾
( سورة الفجر الآية: 17 ).
ليس كذلك، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء.
سؤال أطرحه كثيراً: هل المال نعمة ؟ نعم، ولا، هل الفقر نعمة ؟ نعم، ولا ، كيف ؟ المال نعمة إذا كان كسبه مشروعاً، وأنفق في طريق مشروع.
واللهِ زرت شخصا والد صديقي في العيد قبل سنوات، قال لي: أنا عمري 96 سنة، وقد أجريت البارحة فحوصا كاملة، والنتائج كلها طبيعية، في سن 96، قال لي: والله لا أعرف الحرام، لا حرام النساء ولا حرام المال، من عاش تقياً عاش قوياً.
4 – طاعة الله تجلب الأمن والسعادة والطمأنينة:
أيها الإخوة، الدنيا جميلة بطاعة الله، الدنيا مسعدة بطاعة الله ، هذا الذي يطيع الله عز وجل أعطاه الله عز وجل حقًّا عليه.
عَنْ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ فَقَالَ:
(( يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا... ))
[ متفق عليه ]
أنت أيها المؤمن، يا من تحضر هذا الدرس، ويا من يسمع هذا الدرس، إذا أطعت الله فيما أمرك أنشأ الله لك حقاً عليه، ألاّ يعذبك.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
( سورة فصلت الآية: 30 ).
والله أيها الإخوة، أنا لا أصدق أن يجتمع في قلب المؤمن خوف، أو قلق، أو إحباط أو سوداوية، الله عز وجل طمأنك في القرآن الكريم قال لك: إنني أدافع عنك، الله في عليائه يدافع عنك.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾
( سورة الحج الآية: 38 ).
﴿ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً ﴾
( سورة البقرة الآية: 296 ).
يؤتيك الرضى، أنت راضٍ عن الله، يؤتيك الأمن، وهي أغلى نعمة على الإطلاق.
﴿ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴾
( سورة قريش ).
يؤتيك السعادة، يؤتيك السكينة.
فلذلك أيها الإخوة، الشهوات حيادية، بالعكس لولا الشهوات لم ترقَ إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنة، تصور أن كل شيء مباح، بمَ تتقرب إلى الله ؟ فإذا وجِدت محرمات، فبغض البصر تتقرب إلى الله، وبترك دخل مشبوه تتقرب إلى الله، وبضبط اللسان تتقرب إلى الله، الغيبة محرمة، والنميمة كذلك، والإيقاع بين الناس، والكبر، وارتكاب خمسين معصية باللسان، فإذا اجتنبت كل هذه المعاصي، ضبطت سمعك، ضبطت بصرك، ضبطت لسانك، ضبطت حركتك، ضبطت يديك، ترقى إلى الله.
فلذلك أؤكد لكم لولا الشهوات لما ارتقينا إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنات، هذه الجنات التي تجري من تحتها الأنهار.
﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾
( سورة الرعد الآية: 35 ).
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
( سورة الحاقة ).
5 – في الإسلام تنظيم للشهوة، وليس فيه حرمان:
أيها الإخوة، أنا أخاطب الشباب، أنت في بداية حياتك، إياك أن تعتقد، أو أن تتوهم أن هناك في الإسلام حرمانا، ليس في الإسلام حرمان، فيه تنظيم، فما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناةً نظيفة تسري خلالها، الشعور بالحرمان لا أصل له في الدين، لأن هذا الدين دين الفطرة، وأيّة شهوة أودعها الله فيك جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، حتى شهوة العلو في الأرض موجودة في كل إنسان، لها أسماء متعددة، يسميها علماء النفس تأكيد الذات، يسميها بعضهم الشعور بالتفوق، يسميها بعضهم الآخر السيطرة، هذه الشهوة التي أودعها الله في الإنسان يمكن عن طريق طلب العلم، والعمل الصالح أن تروى، وأن تكون في موضع تكريم لك، ألم يقل الله عز وجل:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
( سورة الشرح ).
ما مِن إنسان يطلب العلم إلا وله مكانة عند الله عز وجل، نحن في العمرة يأتي إلى هذا المسجد ملايين مملينة كل عام، يقولون: يا سيدي، يا رسول الله، أشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وكشفت الغمة، وجاهدت في الله حق الجهاد ، وهديت العباد إلى سبيل الرشاد، لأنه عرف الله، وحمل لواء الدعوة.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا ﴾
( سورة الأحزاب )
ثم تقف أمام الصديق، تقول له: يا صاحب رسول الله، يا من قال النبي بحقك: ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر، ما ساءني قط.
تقف أمام قبر سيدنا عمر، يا أيها الفاروق، لو كان نبي بعدي لكان عمر.
هؤلاء الذين صدقوا، وآمنوا، واستقاموا، وأخلصوا، وأحسنوا، رفع الله ذكرهم، والذين عارضوا وكذبوا أين هم ؟ في مزبلة التاريخ، أبو جهل، هل يقول أحد: سيدنا أبو جهل !!؟ مستحيل.
أيها الإخوة الكرام، الشهوة هي هي، ترقى بها أو تهوي بها، هي حيادية، وأنت مخير، أو لأنك مخير هي حيادية، أية شهوة أودعها الله فيك ترقى بها إلى أعلى عليين.
6 – حركةُ الشهوة، والشرع أعطاها حيزا محدودا:
لكن هناك شيء آخر: ما من شهوة أودعت فيك إلا لها قناة نظيفة تسري خلالها ، لذلك مستحيل وألف ألف مستحيل أن تطيعه وتخسر، ومستحيل وألف ألف مستحيل أن تعصيه وتربح، أنت معك منهج، الآن الفكرة الدقيقة جداً الشهوة حيادية، لكن الحركة فيها 180 درجة.
أنت في طريق عن اليمين وادٍ سحيق، وعن اليسار وادٍ سحيق، تركب مركبة، المقود بيدك، لكن المقود فيه حركة واسعة، 90 درجة، و90، الـ90، الأولى على الوادي، والـ90 الثانية على الوادي، هلاك محقق، المقود يتحرك 180 درجة، 90 نحو اليمين، و90 نحو اليسار، والطريق عرضه 60 مترا، يتحمل تحريك المقود زاوية مع اليمين ثلاثين، وعلى اليسار ثلاثين، لكن الـ60 مسموح بها، الـ60 تبقى على الطريق، إذا حرفتَ المقود ضمن الـ60 درجة تبقى في الطريق، إذا تجاوزت هذا الرقم يكون صاحب هذه المركبة في الوادي، وقد انتهت حياته.
الشهوة حركتها واسعة، والمنهج أعطاك حيز محدود، الدين كله، فلسفة الدين كلها أن تأتي حركتك في هذه الدرجات الـ60، المال ممكن سرقة، ممكن اغتصاب ممكن احتيال، ممكن تزوير، ممكن مكر، ممكن كذب، ممكن غش، ممكن، ممكن في مليون ممكن، وفي كسب مشروع أساسة الأمانة والإتقان، ما دام المقود بالـ60 درجة أنت على الطريق، سالم، غانم سالم، فإذا الحركة تجاوزت هذه الدرجات الستين في الوادي ما هو الدين ؟ الدين هو الضبط، أن تضبط حركتك بدافع شهواتك وفق منهج الله، وفق الحيز الذي سمح الله لك به، هذا هو الدين، هذه هي الاستقامة، هذا هو العمل الصالح، أن تأتي الحركة وفق منهج الله، أو أن تبقى حركة المقود بالستين درجة، الستين تبقى على الطريق، أكثر إلى الوادي، يمنة أو يسرى.
لذلك قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
( سورة آل عمران الآية: 14 )
الجنة كلها لمن ضبط شهواته، يقولون: حضارة المسلمين أساسها ضبط الذات، وحضارة الغربيين أساسها السيطرة وضبط الطبيعة.
حقل البترول في قعر بحر الشمال كيف حُفرت هذه الأبيار في قعر البحر ؟ وكيف لم يدخل الماء المالح إليها ؟ وكيف حصنت ؟ وكيف أودعت الأنابيب ؟ وكيف صب الاسمنت فوق المال ؟ شيء مذهل، استخرجوا النفط من قعر الشمال، وصلوا إلى القمر، وصلوا إلى المريخ، وصلوا إلى المشتري، نقلوا الصورة في العالم كله، نقلوا الصوت ، والعالم الآن قرية، وهناك إنجازات علمية مذهلة، الغرب سيطر على القرية، أصبح العالم سطح مكتب، فبقطعة صغيرة تخاطب العالم كله.
كنت في عرفات، طُلب مني كلمة على الفضائية السورية، ألقيت حديثا سُمع في الخمس قارات، أمامي قطعة تكلمت بها هذا الكلام عُمم على خمس قارات، شيء لا يصدق، وإنجاز مذهل.
7 – ضبطُ الشهوة ثمنُ الجَنة:
أيها الإخوة الكرام، ما من شهوة جعلها الله في الإنسان إلا وجعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، أما ضبط إيقاع الحركة فوفق60 درجة بالضبط، جاءت الآية الكريمة:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
( سورة النازعات )
ثمن الجنة هو الضبط، ثمن الجنة أن توقع الحركة وفق الحيز الذي سمح الله به ، فلك أن تأكل من طعام حلال، أي اشتُري بمال حلال، وهذا المال الحلال اُكتسب وفق الصدق والجهد الحقيقي، لا وفق الكذب والاحتيال.
(( أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ))
[ رواه الطبراني عن ابن عباس ]
لك أن تتزوج امرأة تروق لك بالحلال، لا تخجل بهذا، هذا شيء شرعي، بل إن النبي عليه الصلاة والسلام أشار فقال:
(( وفي بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ ))
[ رواه مسلم عن أبي ذر ].
شيء غير معقول ! لو كانت في الحرام كان عليك وزر، إذاً هو في أجر، من هنا يرقى المؤمن بالشهوة مرتين، يرقى مرة شاكراً، ويرقى مرة صابراً، مثل المنشار يعمل طالعًا ونازلاً، شاكراً، وصابراً.
أنت تمشي في الطريق، مرت امرأة متبذلة متفلتة فغضضت بصرك عنها وقلت: إني أخاف الله رب العالمين، ارتقيت، دخلت بيتك نظرت إلى امرأتك، مِن حقك أن تنظر إليها، شكرت الله على أن الله أكرمك بزوجة، ترقى إلى الله شاكراً.
تركت مالا حراما ترقى إلى الله صابراً، عملتَ عملا مشروعا، وكسبتَ مالا حلالا، واشتريتَ به طعاماً وشراباً وثياباً ترقى إلى الله شاكراً، ترقى بها مرتين، ترقى بها صابراً، ترقى بها شاكراً.
مرة ثانية: لولا الشهوات لما وصل الإنسان إلى رب الأرض والسماوات، لولا الشهوات لما كانت جنات.
لابد أن تدَعَ بينك وبين المعصية هامش أمان:
الآن مع فكرة فرعية، الزنا محرم، الله عز وجل قال لك:
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى ﴾
( سورة الإسراء الآية: 32 ).
الحكمة الإلهية ما قال الله: لا تزنِ، قال:
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى ﴾
أي: اجعل بينك وبين هذه المعصية الكبيرة هامش أمان.
أوضِّح هذا بمثلٍ: تيار كهربائي 8000 فولت، وزير الكهرباء يضع لوحة: ممنوع الاقتراب من التيار، لأن للتيار ثمانية أمتار، مَن دخل في حرم التيار أصبح فحمة سوداء، فلا بد من ترك مسافة بينك وبين التيار، لأن قوة جذبه كبيرة جداً، وهناك شهوات قوة جذبها كبيرة، الله منع الخلوة، منع صحبة الأراذل، منع إطلاق البصر، منع مقدمات الزنا، فمن ابتعد عن مقدمات الزنا كرمه الله، وحماه من الزنا.
(( من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ))
[ متفق عليه ].
(( وإن لكل ملك حمىً، ألا وإن حمى اللَّه محارمه ))
[ متفق عليه ].
لا بد من أن تدع بينك وبين الزنا والمحرمات هامش أمان، تصور الشهوات المحرمة كنهر عميق مخيف له شاطئ مائل زلق، له شاطئ مستوٍ جاف، النهر هنا، بطولتك كمؤمن أن تمشي هنا، شاطئ مستوي جاف متمكّن، أما هذا الشاطئ فزلق ومائل، احتمال السقوط فيه كبير، من هنا جاء قول سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: " الشريف هو الذي يهرب من أسباب الخطيئة ".
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى ﴾
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ﴾
( سورة الإسراء ).
﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا ﴾
( سورة البقرة الآية: 187 ).
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾
( سورة الأنعام الآية: 152 ).
يجب أن تعرف مقام الله، الإيمان كله أن تخاف مقام الله.
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
( سورة الرحمن ).
جنة في الدنيا، وجنة في الآخرة:
﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾
والله أحد العلماء يقول: " مساكين أهل الدنيا، جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها، ولم يذوقوا أطيب ما فيها، أطيب ما فيها القرب من الله عز وجل "، بدليل:
﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾
( سورة الروم الآية: 7 ).
الله عز وجل أثبت لهم علماً بظاهرها.
يقول عالِم آخر: " بستاني في صدري، ماذا يفعل أعدائي بي ؟ إن أبعدوني فإبعادي سياحة، وإن حبسوني فحبسي خلوة، وإن قتلوني فقتلي شهادة، ماذا يفعل أعدائي بي ؟ ".
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن كبير جدا:
بصراحة الفرق بين المؤمن وغير المؤمن ليس فرقاً بين إنسانين، الأول يصلي والثاني لا يصلي، لا، الفرق أعمق من هذا بكثير، بين إنسان متوازن، سعيد، متفائل، آمن، موفَّق، محفوظ، منصور، متقدم، متطور، وبين إنسان خامل، يائس، قلق، حذر، كئيب، معه إحباط، الفرق كبير جداً.
أنا أتمنى أن نوقن يقيناً قطعياً أن الفرق ليس شكلياً، هناك فرق شكلي أحياناً، يكون جسمُ الطالب غير وسيم، لكن الأول، والثاني أطول، الفرق فقط في الطول، وهذا فرق بسيط، هذا الفرق بين المؤمن وغير المؤمن فرق كبير جداً، فرق في البنية، فرق في النوع، فرق في الحالة النفسية، الفرق في الثقة بالله، الفرق في التوازن، الفرق في السعادة.
هناك معنى دقيق، الله عز وجل لما قال:
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم ﴾
( سورة الحاقة ).
السؤال هنا: ما لم تؤمن بالله العظيم فلن تستقيم على أمره، إبليس آمن بالله، لكن ما عظّمه، قال:
﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾
( سورة ص الآية: 82 ).
﴿ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾
( سورة الأعراف ).
قال:
﴿ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾
( سورة الأعراف الآية: 12 ).
فالبطولة أن تؤمن بالله العظيم، فالأمر ينصب على تعظيم الله عز وجل، فلذلك الإنسان إذا لم يؤمن بالله العظيم لمَ يستحق النار ؟ سؤال عميق جداً، يستحق الإنسان النار إن لم يؤمن بالله العظيم، لأنه عندئذٍ لا يطيعه، وكل إنسان ما آمن بالله لا بد من أن يعتدي على الآخرين.
أوضح مثلٍ، الذي أراد التفلت في شهواته، فهذه فتاة لا تحل له، يمكن أن تكون أمًّا، تكون زوجة صالحة، أمًّا راقية جداً، لما أفسدها انحرفت، فشقيت في الدنيا والآخرة، وهو سبب شقائها، معنى ذلك:
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
( سورة المؤمنون ).
لو ما آمنت بالله العظيم، وبقيت مستقيماً فلا مشكلة، لكن إذا ما آمن الإنسان بالله العظيم ففي الأعم الأغلب سوف ينحرف، وانحرافه يعني العدوان، أن يأخذ ما ليس له، فهذا ملمح دقيق في الآية، أن الإنسان إن لم يؤمن بالله العظيم فلا بد من أن ينحرف عن منهج الله القويم.
الإنسان مخيَّر في أعماله:
الآن كل ما يقال أن الشيطان أغوانا، الشيطان أفسدنا، الشيطان وسوس لنا، الآية الصارخة لحاسمة القاطعة، هذه الآية:
﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ﴾
( سورة إبراهيم الآية: 22 ).
ما مِن إنسان يضل إنسانا، لكن في الظاهر إنسان يضل إنسانا عنده رغبة في الانحراف، أما في الأصل فالإنسان مخير.
الآية الثانية:
﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾
( سورة الحجر الآية: 42 ).
أيها الإخوة الكرام، هذه الشهوات سبب رقينا إلى الله، هذه الشهوات سبب دخولنا الجنة، هذه الشهوات سلم نرقى به، هذه الشهوات حيادية، ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، إذاً: لولا الشهوات لما ارتقينا إلى الجنة، هي نعمة أم نقمة ؟ هي نعمة.
هناك شعراء لا ينطلقون لا من كتاب ولا من سنة، قال أحدُهم:
خلقتَ الجمال فتنةً وقلت يا عبادي اتقون
***
هذا كلام شعراء.
﴿ وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ ﴾
( سورة الشعراء ).
موازنة سريعة بين صنفين:
الآن مع موازنة سريعة:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا ﴾
( سورة القصص الآية: 61 ).
إنسان انضبط، غض بصره، ضبط لسانه، ضبط أذنه، ضبط دخله، ضبط إنفاقه، أوقع حركته بـ 60 درجة، بقي على الطريق، مات على هذا الحال، هذا إنسان عند الله مكرم، قال تعالى:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
( سورة القصص الآية: 61 ).
بينهما بون شاسع:
﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴾
فلذلك هذه الشهوات تحقق للإنسان لذائذ، واللذائذ آنية، ومتناقصة، وتعقبها كآبة، أما الإيمان فيحقق سعادة، اللذائذ حسية، تأتيك من الخارج وآنية، ومتناقصة، تتبعها كآبة.
أيها الإخوة، إذاً: حينما يتعرف الإنسان إلى الله عز وجل يوقع حركته انطلاقاً من شهواته وفق الحيز الذي سمح الله به، عندئذٍ يسلم.
العمل الصالح له أثرٌ مستقبلي:
بالمناسبة في الإنسان سلامة وسعادة، بالاستقامة على أمر الله يسلم، لكن بالعمل الصالح يسعد، والفرق كبير بين السلامة والسعادة، أما الإنسان لو انكب على الشهوات وحدها، يقول بعض الفلاسفة: " إذا اتخذت الشهوة مبدأ انقلبت إلى ألم "، والذين يحرصون على شهواتهم دون غيرها، ولا يلتفتون إلى شيء آخر هؤلاء أشقى الناس، وإنّ أشقى الناس في الدنيا أرغبهم فيها، وأسعد الناس في الدنيا أبعدهم عنها، الإنسان له هدف كبير، له هدف نبيل، هدف عظيم أن يعرف الله، أن يقدم عملا صالحا لأمته، هذا الهدف، وهذا العمل يَسْمُوَان به، فيشعر نفسه إنسانا مقدسا، إنسانا عند الله مقربًا، أما إذا التفت إلى شهواته فالشهوات ليس لها أثر مستقبلي، وإذا غرق الإنسان في الملذات، وفي الطعام الطيب، وفي النزهات، هذه اللذائذ كلها لا تصنع له مكانة، ولا قيمة، ولا مستقبلاً.
ملأ أحدُهم حوض الحمام بماء فاتر، وجلس فيه، سُر به، هل تعلم شيئًا ؟ هل يصبح طبيبا ؟ هل يصبح تاجرا كبيرا ؟ الاستمتاع بالحياة ليس له أثر مستقبلي، أما العمل الطيب فله أثر مستقبلي، فإذا عاش الإنسان لشهوته يشقى بها، وإن أشقى الناس في الدنيا أرغبهم فيها، أسعد الناس في الدنيا أبعدهم عنها، لذلك ورد في بعض الأحاديث عَن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ:
(( إِيَّاكَ وَالتَّنَعُّمَ فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ لَيْسُوا بِالْمُتَنَعِّمِينَ ))
[ أخرجه أحمد ]
التنعم وحده يفضي بالإنسان إلى الشقاء، لذلك أعلى نسب انتحار في العالم في دخل أصحابها فلكي، وأكاد أقول: مشكلة الإنسان الآن أنه إنسان بلا هدف، الله عز وجل قال:
﴿ أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
( سورة الملك )
حدِّدْ هدَفك في الحياة:
الذي أتمناه على الإخوة الكرام أنْ حدِّدْ هدفك، واجعل هذا الهدف الله، إلهي أنت مقصودي، ورضاك مطلوبي، لو اخترت هدفاً آخر أقلّ من إمكاناتك بعد بلوغه تشقى، وتشعر بالفراغ وبالملل، لو اخترت أيّ هدف أرضي، ما دام بعيداً عنك لعلك تحلم به، فإذا وصلت إليه، وأحطت به، واستوعبته انتهى تأثيره، فيبدأ الشقاء.
فلذلك من اختار الله عز وجل اختار الحق الأبدي الأزلي.
من الإعجاز العلمي في القرآن: الماء:
1 – الماء أصل الحياة:
الآن ننتقل إلى موضوع في الإعجاز العلمي، الحقيقة هناك موضوعات ثلاثة، قد يعجب أحدكم أن الحياة على وجه الأرض متعلقة بها، لولاها لما كانت حياة على وجه الأرض، هذا الموضوع هو الماء.
﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾
( سورة الأنبياء الآية: 30 ).
2 – من خصائص الماء التمدد والانكماش:
ليس الماء وحده، خصيصة فيه، خصيصة واحدة فيه، يتميز بها، وينفرد بها من بين كل عناصر الكون، هذه الخصيصة أن الماء شأنه كشأن أي عنصر، بالتسخين يتمدد، وبالتبريد ينكمش، وأيّ عنصر حتى الحجر، حتى المعادن كلها، حتى الغاز، حتى السوائل كلها، أي عنصر في الأرض تسخنه يتمدد، تبرده ينكمش، الأصل في ذلك أن الحرارة تسرع حركة الذرات، وإن تسرعت حركة الذرات تباعدت، فانقلب الجسم من صلب إلى لزج، إلى سائل، إلى غاز، وذرات الحركة في الغاز كثيرة جداً ومتباعدة، فالغاز ليس له حجم ثابت، ولا شكل ثابت، أما السائل فله حجم سائل، لكن شكله غير ثابت، أما الصلب فله شكل وحجم ثابتان، والشكل والحجم ثابت في الجماد، الشكل متبدل، الحجم ثابت في السوائل، الشكل والحجم متبدل في الغازات.
تنتقل المادة من حالة صلابة إلى سيولة، إلى حالة غازية بحسب التسخين، وبالعكس إذا كان الشيء سائلا فبرّدناه يجمَّد، كالثلج، والشيء الغازي إذا بردناه يصبح سائلا، اسطوانات الغاز تجد فيها سيولة لأننا بردناها، والتبريد يساوي الضغط، والتسخين يساوي رفع الضغط، فكل عنصر في الأرض بالتسخين ورفع الضغط يتمدد، وكل عنصر في الأرض بالتبريد وبالضغط ينكمش، إلا الماء، الماء فله استثناءات بدرجة واحدة، درجة زائد أربع، أنت تأتي بوعاء ماء في بدرجة 40، فضضته للـ35 طبيعي 20 ـ 25 ـ 20 ـ 10 ـ 5 ـ 4 ـ تنشأ آلية معاكسة، يتمدد.
فهذا الماء لأنه يتمدد بدرجة زائد أربع فهناك حياة في الأرض، لو انكمش زادت كثافته ما الكثافة ؟ نسبة الوزن لا الحجم، الآن البسمار كثافته عالية، يغوص، أما الفلين لا يغوص، فكلّ شيء كثافته أقلّ من الماء يطفو، وكل شيء كثافته أكبر يغوص.
لو أن الماء إذا تجمد انكمش فزادت كثافته يغوص، وفي بعض الحقب تتجمد جميع البحار، من قعرها إلى سطحها، فإذا تجمدت انعدم التبخر، وإذا انعدم التبخر انعدمت الأمطار، وإذا انعدمت الأمطار مات النبات، ومات الحيوان، ومات الإنسان، فكل حياتنا وحياة النباتات والحيوانات وجميع الكائنات أساسها أن هذا الماء في درجة زائد أربع تنعكس آليته من الانكماش إلى التمدد.
بالمناسبة الماء إذا تمدد فليس هناك قوة في الأرض تقف أمامه، الآن تقتلع الصخور عن طريق تجميد الماء، يحفر صخر، أربع ثقوب، يوضع فيها ماء، ويبرد، تقتلع الصخرة مكعبة من الرخام من أصل الجبل بهذه الطريقة، وأشد أنواع الخلائط المعدنية فيه محرك سيارة، إذا تجمد الماء ينفجر المحرك ويتصدع.
3 – الماء من النِّعم الربانية الكبرى:
فلذلك أيها الإخوة، هذا الماء من نعم الله العظمى، أولاً: هو شفاف، ثانياً: لا طعم له، لو كان له طعم معين، وجميع الأطعمة، وأنواع الطبخ، والمشروبات بهذه الطعمة، تخرج من جلدك، ما له طعم، ولا رائحة، ولا لون، لو كان لونه زهرا فكل شيء صار زهرا، ويتبخر بدرجة 14، شديد النفور، مهما تكن المسامات ضيقة يدخل منها، ويتبخر بدرجة متدنية، غليان بدرجة معتدلة.
هناك خصائص أنا أعتبر الماء أحد الآيات الكبرى الدالة على الله عز وجل، لولا الماء لما كانت حياة، ولولا أنه يتمدد في الدرجة زائد أربع لما كانت حياة:
﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾
والإنسان 70% من وزنه ماء.
4 – سبعون بالمئة من جسم الإنسان ماء:
كملاحظة طريفة: لو ضغطنا الإنسان بمكبس ينزل منه 70% من وزنه ماء، والباقي تصنع لوحَ صابون من دهنه، وبسمار حديد، وعود ثقاب، مجموع ثمنه المادي لا يزيد على 20 ليرة سورية، 70% ماء، والمواد الأخرى سعرها منخفض جداً ، وقد أقسم الله بعمر النبي فقال:
﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾
( سورة الحجر ).
خاتمة:
الإنسان له قلب يكبر، ولا ترى كبره، يتعاظم على كل عظيم، ويصغر ولا ترى صغره، يتضاءل أمام كل حقير.
اسمعوا هذه الكلمة: المؤمن إذا عرف الله فهو أكبر من أكبر مشكلة في الحياة، فإذا ما عرف الله فهو أصغر من أصغر مشكلة في حياته، إن عرفت الله فأنت أكبر من أكبر مشكلة، وإن لم تعرفه فأنت أصغر من أصغر مشكلة.
فليتك تحلــو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غــضاب
ولـيت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين الـــعالمين خراب
إذا صح منك الوصل فالــكل هين وكل الذي فوق التراب تراب
والحمد لله رب العالمين
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=5530&id=189&sid=799&ssid=807&sssid=836