الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثانية
شرح متن أصول السنة
لفضيلة الشيخ محمد حسان
الدرس (7)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حيَّاكم الله جميعًا أيها الإخوة الفضلاء وأيتها الأخوات الفاضلات، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم وتبوأتم من الجنة منزلًا، وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت الطيب على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنه ولي ذلك ومولاه.
أحبيت في الله، هذا هو لقاؤنا السابع من شرحنا لأصول السنة للإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.
يقول الإمام: (يَقُولُ أُصُولُ اَلسُّنَّةِ عِنْدَنَا:
اَلتَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاَلْاِقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَتَرْكُ اَلْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَهِيَ ضَلَالَةٌ، وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ، وَالْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).
وقلت في اللقاء الماضي بأن هجر المبتدع له ضوابط، فأهل الأهواء هم أهل البدع، وهجرهم له ضوابط، المرجع في تحديد هذه الضوابط للعلماء الربانيين، للعلماء الصادقين، لا يجوز أبدًا لآحاد طلاب العلم أن يدخلوا هذا المعترك الصعب، وإنما المرجع في هذا الباب الكبير الخطير للعلماء، كما ذكرت في اللقاء الماضي بعض أقوال أهل العلم، وستستمعون الليلة إلى مزيد من هذه الأقوال التي توزن بالذهب؛ بل بأغلى من الذهب.
الضابط الأول الذي ذكرته بالأمس هو: سلامة القصد وحسن النية.
الضابط الثاني من ضوابط هجر المبتدع: هجر المظهرين للبدع الداعين إليها.
انتبه من هذين القيدين، هجر المظهرين للبدع الداعين إليها.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه في مجموع الفتاوى، مجلد 24 من صفحة 174 إلى ما بعدها، يقول -أختصر وأستشهد بما أوردت فقط: "رأى المسلمون أن يهجروا مَن ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها".
يعني أنا أخذت الضابط من كلام الشيخ بنصه: هجر المظهرين للبدع الداعين إليها.
يقول شيخ الإسلام -وأنا أعجب كيف ظُلِم هذا الإمام، وكيف اتهم بالإرهاب والجمود والرجعية والتطرف، إلى آخر هذه التهم المعلبة التي تكال للإمام من أئمة المسلمين- يقول: "رأى المسلمون أن يهجروا مَن ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها، والمظهرين للكبائر".
اسمع ماذا يقول: "فأما مَن كان مستترًا بمعصية أو مُسرًّا لبدعة -كلام دقيق- غير مُكفِّرة؛ فإن هذا لا يُهجر، وإنما يُهجر الداعي إلى البدع، إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يُعاقب مَن أظهر المعصية قولًا وعملًا، وأما مَن أظهر لنا خيرًا؛ فإنَّا نقبل علانيته، ونَكِلُ سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل علانيتهم ويَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى لما جاؤوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون، ولهذا كان الإمام أحمد ومَن قبله وأكثر من قبله ومَن بعده من الأئمة لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة ولا يجالسونه، بخلاف الساكت -أي عن البدعة- وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رُميَ ببدعة من الساكتين -أي عن البدعة- ولم يُخرجوا عن الدعاة البدع". مجموع الفتاوى، المجلد 24، صفحة 174، 175 لمن أراد من أبنائنا وطلابنا أن يرجع إلى هذا النقل المهم جدًّا.
إذن؛ يجب علينا أن نزِن بميزان القسطاس والعدل والحق.
الهجر نوع من العقوبة، ولا يعاقب إلا مَن أظهر المعصية بالقول والعمل، أما مَن أظهر لنا خيرًا بقوله وعمله فإنه لا يجوز لنا أبدًا أن نحاكم نيَّته؛ وإنما يجب علينا أن نحاكمه إلى قوله وعمله، وأن نَكِلَ سريرته إلى الله تعالى.
هل تعلمون أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر أسماء المنافقين إلى حذيفة بن اليمان، حتى ذهب فاروق الأمة الأوَّاب عمر بن الخطاب الذي أجرى الله الحق على لسانه وقلبه؛ ذهب إلى حذيفة يقول: "أنشدك الله يا حذيفة؛ هل سمَّاني لك رسول الله في المنافقين؟" رضي الله عنه.
النبي أعطى أسماء المنافقين لحذيفة، ومع ذلك كان يعاملهم على ظاهرهم ويكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى؛ بل لمَّا طلب منه عمر -رضي الله عنه- أن يقتل عبد الله بن أبيّ بن سلول قال النبي صلى الله عليه وسلم قولته الشريفة الجميلة حتى لا يتحدث الناس إن محمدًا يقتل أصحابه.
وتعلمون ماذا فعل مع رأس النفاق عبد الله بن أبي الذي قال: { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ}[المنافقون: 8]. والذي قال: سمِّن كلبك يأكلك. والذي قال: آذاني نتن حمارك. والذي قال: لا تنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا. والذي اتهم أم المؤمنين بالفاحشة وقال قولته الخبيثة، ورمى النبي صلى الله عليه وسلم في عرضه وشرفه.
وهو الطاهر الذي فاضت طهارته على العالمين، ورماه في حرمته وهو القائم -بأبي وأمي- على صيانة الحرمات في كل أمته، ومع ذلك تعلمون كيف كان يتعامل معه؛ بل لما جاءه ولده عبد الله بن عبد الله بن أبي يطلب منه أن يقتله إن أراد النبي صلى الله عليه وسلم رأسه، قال: (لا، بل نصاحبه بالمعروف) -صلى الله عليه وسلم.
ولما مات تعلمون ماذا صنع، جاءه ولده عبد الله وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه قميصه ليكفن فيه واله، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم قميصه، والحديث رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داوود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، وغيرهم من أصحاب السنن، ودواوين السنة.
أعطاه قميصه وكفنه فيه، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أدعوك لتصلي عليه.
فقام النبي ليصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب يشد النبي صلى الله عليه وسلم من ثيابه ويقول: "يا رسول الله على عبد الله بن أبي! أتصلي على عبد الله بن أبي الذي قال كذا وكذا يوم كذا وكذا؟!".
يقول عمر: "والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم"، وهذا لفظ أحمد في المسند.
يقول عمر: "والنبي يبتسم"، -صلى الله عليه وسلم-، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أخِّر عني يا عمر، لقد خُيِّرت فاخترت، قال الله { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أو لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة: 80]، ووالله لو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له لزدت على السبعين).
سبحان الله!
كما قال عباد بن الخواص: "ما يضيرك أنت إن وقع أخوك في بدعة أو وقع في معصية؟!"، ما الذي تستفيده أنت؟ لن تستفد شيئًا؛ بل اذهب إليه وانصحه بحلم ورفق لعل الله -عز وجل- أن يجعل هدايته وعودته إلى السنة على يدك.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عليه فعلًا؛ بل وتبعه إلى قبره؛ بل ولم يرجع حتى فرغوا من دفنه.
يقول عمر: "فعجبت من جرأتي على رسول الله، والله ورسوله أعلم".
يقول: "فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم إلا يسيرًا حتى نزل عليه قول الله تعالى: { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } [التوبة: 84].
كان ربك قادرًا -ولازال سبحانه- وانتبه من الألفاظ الدقيقة في العقيدة، نسمع بعضهم يقول: كان الله قادرًا؛ ولا زال.
كأنه يصف ربنا بالقدرة فيما مضى، وينفي عن ربنا القدرة فيما هو حال ومستقبل.
كان ربك قادرا -جل وعلا- ولازال، كان قادرًا أن ينزل الآية الكريمة على قلب المصطفى قبل أن يصلي عليه -جل جلاله.
فشيخ الإسلام هنا يؤصل تأصيلًا في غاية الأهمية والجلال، يقول: "رأى المسلمون أن يهجروا مَن ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع الداعين إليها، فأما من كان مستترًا بمعصية" استرني يا أخي، لماذا تفضحني؟!، ولم أصر أنا على فضحك؟! (مَن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)، وفي لفظ: (في الدنيا والآخرة). طالما أنه مستتر.
الإمام القرطبي له تأصيل جميل، يقول: "الناس صنفان: صنف اشتهر بين الناس بالخير، هذا إن زلَّ يجب أن يُستر. وصنف يُظهر المعصية ويدعو لها، هذا يُبكَّت بما فيه كي يحذره الناس"، ففرق بين النوعين، أخ معك من إخوانك من أهل السنة؛ بل من مشايخ أهل السنة الداعين للتوحيد الصحيح، الداعين إلى السنة الصحيحة، المحققين؛ إن زلَّ زلة -فهذا أمر وارد لأنه ليس ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا- يجب علينا جميعًا أن نستره، وأن نحفظ له كرامته، وألا نهدر محاسنه، أما مَن كان بين الناس فاحشًا متفحشًا بذيئًا عاصيًا مظهرًا للمعصية داعيًا إليه مستهينًا بحرمات الله تعالى، مستعينًا بحرمات المجتمع المسلم؛ هذا يُنصَح، فإن لم ينتصح؛ يُحذَّر الناس منه، ولا ينبغي أن تذكر في هذه الحالة محاسنه إن كانت له محاسن.
هذا أيضًا خلط وخلل، رجل ضال، مضل، مبتدع، فاسد، مفسد في الأرض، يدعو إلى المعصية، ويدعو إلى البدعة، ويدعو إلى الضلال، ويدعو إلى الشر؛ يطلع واحد "درويش" يقول لك: والله فيه كذا وكذا وكذا من الخير.
ليس في هذا الموطن؛ بل إن كان من المظهرين للبدع وللمعصية الداعين إليها؛ يجب على أهل العلم والفضل أن يحذروا الناس من شره ومن فساده.
أما أهل الخير، أما أهل الدين، أما أهل الصلاح، أما أهل العلم، أما أهل الدعوة؛ فإن زلَّ أحدهم فهو ليس ملكًا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلًا، إن ستر الله عليه؛ استر عليه، لا تفضحه، يا أخي بيتك من زجاج، وبيتي من زجاج، ومَن كان بيته من الزجاج لا ينبغي أن يقذف الناس بالحجارة؛ بل استر عليه ليسترك ربك في الدنيا والآخرة.
ما أحوجنا الآن إلى هذه المعاني الرقيقة التي غابت في مجتمعنا في ظل هذا الزخم الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي الضاغطة التي تفلَّت كثير ممن يدخلون عليها من أخلاق هذا الدين، وأخلاق سيد النبيين -صلى الله عليه وسلم.
، قلَّ مَن يدخل هذه المواقع ويراقب الله -عز وجل- قبل أن تنظر عينه نظرة، وقبل أن تخط يمينه أي كلمة.
بعض أولادنا وإخوننا يقولون لي: ادخل يا شيخ، فيه أشياء مفيدة.
قلت له: والله يا أخي لا أحتاجها، والله أبدًا، أدخل على أي موقع عيني تقع على مصيبة؛ أحرم لذة العلم ولذة العبادة سنة، والله يضيع منك كل شيء.
كثير من الطلبة يقول لي: يا شيخ أنا أجهز المحاضرة والخطبة وحافظ القرآن وأحفظ الحديث، وعندما أتكلم أنسى ثلاثة أرباع ما جهزته!
طبعًا لازم تنسى، أنت تظن أن هذا القلب يحمل هذا النور وفيه شيء من النجاسة؟! لا يمكن، لابد أن تطهر هذا الوعاء بالتوبة والطاعة.
قال عبد الله بن مسعود: "إني لأحسب أن الرجل ينسى العلم يعلمه بالذنب يعمله"، هي المعاصي، الذنوب، والجرأة على الدخول على المواقع والنظر إلى المفاسد والمصائب، واستحلال الغيبة، ونهش لحوم إخوانك، وانتهاك حرمات المسلمين وحرمات المجتمع؛ كل هذا لا تتصور أنك ستحرم من العلم، وستحرم من لذة قيام الليل، وستحرم من لذة قراءة القرآن، وستحرم من لذة البكاء من خشية الله؛ مستحيل.
رَأيتُ الذنوبَ تُمِيتُ القُلوبَ ** وقد يورث الذُّلَّ إدْمَانُها
وتركُ الذنوبِ حياة ُالقلوبِ ** وخيرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيانُها
اللهم أحيي قلوبنا يا أرحم الراحمين، هو القلب.
أنا أقول: القلب رمز الحياة، وحقيقة الإنسان، فهو في الدنيا جماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى، وله على جميع الجوارح اليد الطولى، فهو القائد والجوارح خدم له وحشم، وهو الملك والأعضاء جند له وتبع، اتحد شكله في كل البشر، واختلفت حقيقته بعدد البشر، فقلب أصفى من الدرر، وقلب أقسى من الحجر.
أكرر:
القلب رمز الحياة، وحقيقة الإنسان، فهو في الدنيا جماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى، وله على جميع الجوارح اليد الطولى، فهو القائد والجوارح جند له وخدم، وهو الملك والأعضاء تبع له وحشم، اتحد شكله في كل البشر، واختلفت حقيقته بعدد البشر، فقلب أصفى من الدرر، وقلب أقسى من الحجر، قلب يحوم حول السماء، وقلب يحوم حول الخلاء، قلب في أعلى عليين، وقلب في أسفل سافلين في درك الشياطين، { إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 89].
أنا متعمد أن أطعم الدروس المنهجية بشيء من اللطائف والرقائق، لأن الحقيقة أن كل ما يعنيني أننا نستفيد من دورس العلم لقلوبنا، وأن تقربنا من ربنا -جل جلاله- لا أحب أن أكون جافًّا في الطرح، لا أجيد الجفاف في الطرح الدعوي أبدًا ولا الطرح العلمي، أبدًا، لأن هذه ليست الغاية أبدًا، الغاية أنني أريد أن ترجع تحب ربنا، تحب قيام الليل، تخاف من الغيبة، تخاف من النميمة، تخاف من العقوق، تخاف من أكل الحرام، تخاف من المعصية، تحرص على طلب العلم، تحرص على الطهارة، هذا هو الهدف، هذه هي الغاية، وليست الغاية أن تنهي الكتب على يدي وترجع وأنت لم تستفد شيئا.
كم من مذكر بالله وهو ناسٍ لله -اللهم لا تجعلنا منهم- وكم من تالٍ لكتاب الله وهو منسلخ عن آيات الله، وكم من مخوفٍ من الله وهو جريء على الله!
ولذا؛ كان مالك بن دينار يقوم الليل يبكي وقبض على لحيته ويقول: "يا رب لقد علمتَ ساكن الجنة من ساكن النار؛ ففي أي الدارين منزل مالك بن دينار؟".
هل سألت نفسك هذا السؤال؟ نقول أننا نحب النبي صلى الله عليه وسلم، إن لم ندخل الجنة فمن يدخلها؟!
سبحان الله! اللهم ارزقنا حسن الخاتمة، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض يا أرحم الراحمين.
أريد أن أقول وأركز على هذا الأصل وهذا الضابط: أننا لا نهجر إلا مَن أظهر البدعة ودعا إليها، أما مَن عصى الله -عز وجل- واستتر؛ نستره، ومَن لم يدعُ إلى بدعة وأسرَّها؛ ما لم تكن البدعة مكفِّرة، وسأرجع الآن إلى ضابط مهم جدًّا من ضوابط الهجر وهو نوع البدعة، لأنه فيه بدعة مكفرة وبدعة مفسِّقة، وانتبه للتقسيم الثالث ربما تسمعه لأول مرة: وفيه بدعة يُعذر فيها صاحبها.
ما هذا يا شيخ، هل ستميع القضية؟! لا والله، ما في كلمة بدون دليل، وبدون تأصيل للسادة والأئمة الكبراء -رحمهم الله.
اسمع كلامًا لشيخي وحبيب قلبي شيخنا محمد بن صالح العثيمين، يُكتب بالذهب؛ بل بأغلى من الذهب، في التقسيم بين البدعة المكفرة والبدعة المفسِّقة، والبدعة التي يُعذر فيها صاحبها، وسيستدل لنا بإمامين جليلين كبيرين؛ ألا وهما الإمام النووي والإمام الحافظ ابن حجر.
اسمع كلامًا بديعًا، ستسمعون كلامًا أغلى من الذهب.
دعنا نقول إن الضابط الثاني باختصار: هجر المظهرين للبدع الداعين إليها.
الضابط الثالث: مراعاة أحوال الهاجرين والمهجورين قوة وضعفًا، قلة وكثرة.
ضابط مهم: مراعاة أحوال الهاجرين والمهجورين قوة وضعفًا، وقلة وكثرة.
انظر ماذا يقول شيخ الإسلام، يقول -رحمه الله تعالى- في الفتاوى، مجلد رقم 28، صفحة 206، يقول شيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين".
أنا سأهجرك، ومَن أنا؟! ما المشكلة؟! ليس لي أي قيمة لما أهجرك؟!
فهجر فلان من الناس قد لا يكون له أدنى تأثير على المهجور، فشيخ الإسلام يقول: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود بالهجر: زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر واختفائه؛ كان الهجر مشروعًا" الله الله الله!
صلى الله على محمد، النبي يقول: (ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه)، في كل شيء، مطلقا و اللهم ارزقنا الرفق والحلم والأدب والخلق، وخلِّقنا بأخلاق نبيك -صلى الله عليه وسلم.
اسمع الكلام الغالي لشيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود بالهجر: زجر المهجور وتأديبه"، فأنت لما تهجرني تقصد أن تزجرني عن البدعة وعن المعصية؟
قال: "فإن المقصود بالهجر: زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر واختفائه؛ كان الهجر مشروعًا".
اسمع الآتي: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك -أي بذلك الهجر- بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر في هذه الحالة؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف". واضح؟
أكرر، أنت استوعبت المعنى؟
يعني الهجر قد يكون أنفع في حالات، وقد يكون تأليف القلب أنفع في حالات، فلا يصح إذا كان تأليفك لقلب أخيك يصلحه أن تستخدم الهجر، ولا يصح أن تضيع الهجر إن كان هجرك لأخيك يزجره ويردعه عن المعصية والبدعة.
طيب الميزان الدقيق هذا مَن يُحدده؟ العلماء، هو العالم الذي يحدد المصلحة والمفسدة، وأين الراجح وأين المرجوح.
شيخنا ابن القيم ربنا ذكرني بكلام له، يا الله! فهو شيخي، وأنا بفضل الله أكاد أحفظ جلَّ ما قاله ابن القيم، قال: "إن النبي -صلى الله عليه وسلم- شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر" فإنكار المنكر أمر مشروع. لماذا؟
قال: "ليحصل من المعروف ما يحبه الله ورسوله" فهذه هي الغاية.
قال: "فإن كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر من المنكر؛ فهو أمر بمنكر، وسعي في معصية الله ورسوله" معي؟
يقول: "ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغيرها؛ بل لما فتح الله عليه مكة، وصارت مكة دار إيمان...".
يقول قائل: هذه حالة استضعاف يا مولانا، إنما نحن الآن في مرحلة أعز والقوة والخلافة.
خلافة ماذا؟! حتى لو في مرحلة الخلافة، ابن القيم يقول: " بل لما فتح الله عليه مكة، وصارت مكة دار إسلام وعَزَمَ النبي على هدم البيت الحرام، ورده على قواعد إبراهيم؛ لم يفعل النبي ذلك -مع قدرته على فعل ذلك- أن قريشًا كانت حديثة عهد بكفر، وقريبة عهد بإسلام".
ستفتن الناس! أنا ممكن تقول لي كلامًا، وتقول لابني كلاما، وتقول للأخ الفلاني والوالد الفلاني كلامًا آخرا
قالت عائشة كما في مقدمة صحيح مسلم: "أنزلوا الناس منازلهم".
قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تدركه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
قال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه: "حدثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون؛ أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟!".
لابد أن تكون فاهمًا، ممكن يأتي طالب علم على لفظة نبوية في حديث صحيح، ويقولها في الرِّيف وفي القرية -وهذا حدث، أنا أتكلم ورب الكعبة عن واقع- وهذه اللفظة في حديث، والحديث صحيح في مسند الإمام أحمد، واللفظة ثابتة، لكن اللفظة هذه لما تقال في بيئتنا اليوم تختلف تمامًا عن وقعها على القلوب والآذان حينما كانت تقال في البيئة النبوية.
فقام الناس عليه وضربوه في المسجد، ضربوه لعدم فهم مناط الدليل، الدليل صحيح لكنك لم تحقق المناط.
قال: "ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تدركه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
أنا قلت لكم من قبل أكثرة من مرة: كان عندي درس أسبوعي في المنصورة، وشباب ناس طيبين بعد انتهاء الدرس في زحام شديد، يا شيخ، يا شيخ...
قلت: نعم.
قال: أريد أسأل عن صحة حديث.
قلت له: تفضل تفضل.
قال: كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدهن.
قلت له: حديث صحيح.
فنظر لمن معه وقال: ألم أقل لكم؟!
أنا قلت: أحمد بن حنبل! أو ابن حجر!
فرد واحد آخر وقال: كان سيقتلنا يا شيخ محمد.
قلت: لماذا؟ خير!
قال: هذا الرجل دعانا للغذاء وأتى لنا بليَّة خروف ويقطع لنا بالسكين ويعطينا ويقول: (كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدهن).
يقول له: يا بني هذا حديث صحيح.
يقول: والله صحيح.
ويأخذ الرجل ويأكل حبًّا للنبي -عليه الصلاة والسلام.
هذه ليست طرفة والله، والله حقيقة ليست طرفة.
ويقطع له مرة ثانية فيقول له: كفى، فيقول: أترد له سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟!
يقول له: لا أقدر -صلى الله عليه وسلم- ويأكل.
قلت له: يا أخي، سامحك الله، كان -صلى الله عليه وسلم- لا يرد الدهن، أي لا يرد الطيب.
فقالوا له عبارة فعلًا كانت جميلة جدًّا مع أنهم ناس بسطاء، لكن عبارة كانت معبرة، قالوا: تقتلنا باسم النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا أقول: كم قتل الجهل أناسًا باسم الدين.
الخوارج كفروا عليًّا.
علي الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون بموسى غير أنه لا نبي بعدي) يكفر؟
علي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم (لأعطين الراية غدًا رجلًا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله) يكفر؟
الخوارج كفروه وبالدليل؟
بالدليل؟!
نعم يستدلون بالدليل، المشكلة ليست في الدليل، أنا قلت لك من قبل: الدليل ليس منتهى العلم؛ بل لابد من فهم الدليل، ومراتب الدليل، وتحقيق مناطات الدليل، حتى لا تستشهد بدليل عام لمناط خاص، وحتى لا تستشهد بدليل خاص لمناط عام، فتهلك وتُهلِك.
الشاهد: يقول شيخ الإسلام: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين"، أنت الهاجر، أنت لك قوة ولك ضعف، ولك مكانة، أو لك هيبة؛ إذن هجرك له تأثير، ولذلك يجب أن يبدأ بالهجر الأئمة والعلماء والدعاة الكبار المؤثرون.
قال: "وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم، وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر واختفائه كان مشروعًا -كان الهجر حينئذ مشروعًا- وإن كان لا المهجور ولا غيره"، لا الذي تهجره ولا غيره من أبنائك في المجتمع الذي تعيش فيه.
قال: "وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك -أي بذلك الهجر- بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف -أي ليس له تأثير على المهجور- بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته؛ لم يُشرع الهجر حينئذٍ، بل يكون التأليف -أي التأليف للقلب- لبعض الناس أنفع من الهجرو والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف".
واضح يا إخواننا؟
أود والله أن لو سمع كل أبناء الحركة الإسلامية والصحوة -أو كما كان يقول الشيخ ابن عثيمين : اليقظة- التعبير أجمل بكثير منا طبعًا.
أبناء اليقظة الإسلامية أودُّ أن لو -لا أقول "أتمنى" لأن اللفظة لا تصح لغة، وأنتم تدرسون لغة، والطلبة سيمسكون عليَّ أخطاء ويقولون الشيخ أخطأ!
أود لو سمع كل أبناء يقظتنا الإسلامية والحركة الإسلامية على اختلاف انتماءاتهم مثل هذه الدورس في ظل هذا لاواقع الذي تعرفونه جميعًا، أسأل الله أن يسترنا وأن يستر إخواننا جميعًا.
وأنا أشهد الله يا إخواني أمامكم أني حتى مَن يُسيء إليَّ ورب الكعبة أدعو الله له، والله -وسأسأل عن هذا القَسَم- أدعو الله له، لمن يسيء إليَّ من إخواني من أهل السنة، أدعو الله له وأقول: لا أكافئ مَن عصى الله فيَّ بأكثر من أن أطيع الله فيه.
جاء رجل إلى أبي الدرداء فأفرط في سبِّه -وأنا تعلمت هذا منه، من الصحابي الجليل- أفرط في سبِّ أبي الدرداء، فالتفت إليه أبو الدرداء وقال: "يا أخي، لا تفرط في سبِّنا ودع للصلح موضعًا، فإنَّا لا نكافئ مَن عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه".
جميل، ربنا سيعفو عنك، وسيغفر لك، وسيسترك، وسيكرمك، وسيرفع ذكرك، وسيعلي شأنك، نسأل الله أن يفرج كربنا وكرب بلادنا وبلاد المسلمين، وأن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء، وأن يفرج كرب أهلنا في سوريا وفي كل مكان؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الضابط الرابع -وانتبه له جدًّا، وهذا كلام مهم جدًّا لطلبة العلم: معرفة نوع البدعة.
لأننا نخلط، ولا نفرق بين البدع المكفِّرة، والبدع المفسِّقة، والبدع التي يُعذر فيها أصحابها، نحن لا نفرق!
معرفة نوع البدعة: هل هذ بدعة مكفرة؟ أم مفسِّقة؟ أم بدعة -وانتبه لما أقوله- أم بدعة يعذر فيها صاحبها حتى وإن سميت ضلالة.
فهي لازم تسمى ضلالة، وكل بدعة ضلالة، لكن نفرق بين الأقسام هذه.
اسمع شيخنا الذي أشرف بأني تربيت على يديه -الشيخ ابن عثيمين..
واسمحوا لي أن أذكر موقفًا واحدًا للشيخ محمد، لأن فعلًا القصة ليست أن تقرأ في كتب؛ لا، تجلس بين أيدي الربانيين.
الشيخ محمد -رحمه الله- كنت أذهب إليه بعدما ألزمني أن أبقى في مكتبتي في القصيم، بعد سنوات من الطلب قال: لا تأتي، اجلس في مكتبتك،فإن استشكلت عليك بعض المسائل فاجمعها وائتني.
فكنت أعدُّ له مجموعة من المسائل التي تستشكل عليَّ وأذهب إليه مرة في الأسبوع في صلاة العصر.
فذهبت إليه يومًا وانتظرته حتى فرغ من أذكار الصلاة، وكان يكره أن يكلمه أحد قبل أن ينهي أذكار الصلاة.
ثم قبَّلتُ رأسه، وكنتُ أقبِّلُ يده مع كرهه لذلك، لكني كنت أقبِّل يده، ثم أخذني من يدي وخرج، وكان نعله إلى جواره، فأخذ نعله وخرج، وكنا في صيف حار جدًّا ومن يعلم منكم حرارة القصيم سيعي ما أقول.
فلما الشيخ أخذني من يدي أنا استحييت أنا أقول له: آخذ حذائي يا شيخنا، استحييت.
وبمجرد أن خرج يا أحبائي من سلم المسجد ونزل على أول درجة ونزلت أنا على أول درجة، رأيت السمكة التي تُشوى وهي حيَّة؟ حرارة شدية لا تطاق، الدرجة الأولى والثانية والثالثة، والشيخ لم ينتبه أنني حافٍ لا ألبس الحذاء!
نزلنا على الرصيف -نار الله الموقدة- والله لا أنسى هذا أبدًا، ثم التفت إليَّ ويقول: اطرح ما عندك.
أطرح ماذا؟ أنا نسيت كل شيء! والله نسيت كل المسائل التي جئته من أجلها! سبحان الله!
ثم نظر، قال: خير! فنظر إلي وقال: أين حذاؤك؟
قلت: يا شيخ، أنا استحييت أن آتي بحذائي حينما أخذت بيدي خرجت معك.
فوقف وخلع حذاءه، ووضعه تحت إبطه، ومشى إلى جواري حافيًا، ثم بكي وقال لي قرابة سبع أو ثمان مرات: تذكر حر النار، تذكر حر النار، تذكر حر النار...، وظل يرددها وعلا صوته حتى بكى وأبكاني.
كان مربيًا ربانيًّا، نسأل الله أن يجمعنا به في جنات النعيم مع إمام النبيين وسيد المرسلين.
انظروا إلى أهل العلم وأهل التربية وأهل الأدب وأهل الفضل، وأهل الخلق؛ والله العظيم كنت أناقشه لكن بأدب، فإذا استحسن ما أقول، يقول: أحسنت يا مصري، أحسنت يا مصري، هذا جميل. وهو عالم كبير.
اليوم الواحد فينا ربما لا يقبل أن يناقشه شيخ مثله، وإن خالفه ربما يهجره، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم ارزقنا الصدق والإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال.
انظر ما يقوله شيخنا في شرحه للأربعين النووية صفحة 292، الشيخ شرح رياض الصالحين شرحًا رائعًا ماتعًا، خمسة مجلدات، وشرح الأربعين النووية.
يقول في شرحه على الأربعين: "الضلالات تنقسم إلى: بدعة مكفِّرة، وبدع مفسِّقة، وبدعة يُعذر فيها صاحبها، ولكن التي يُعذر فيها صاحبها لا تخرج عن كونها ضلالة"، هي البدعة ضلالة سواء كانت مكفِّرة أو مفسِّقة أو يعذر فيها صاحبها، فكل بدعة ضلالة، لكن انظر للحكم.
قال: "ولكن يُعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصدٍ".
يقول: "الضلالات تنقسم إلى: بدعة مكفِّرة، وبدعة مفسِّقة، وبدعة يُعذر فيها صاحبها، ولكن الذي يُعذر فيها صاحبها لا تخرج عن كونها ضلالة، ولكن يُعذر الإنسان إذا صدرت منه هذه البدعة عن تأويل وحسن قصدٍ، وأضرب مثلًا -والكلام لشيخنا- بحافظين معتمدين موثوقين بين المسلمين، وهما: الحافظ النووي والحافظ ابن حجر -رحمهما الله تعالى- فالنووي لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجدًا من مساجد المسلمين إلا ويُقرأ فيه كتاب رياض الصالحين، وهذا يدل على القبول -انظر ماذا يقول شيخنا- ولكن رحمه الله أخطأ في تأويل آيات الصفات، حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن النووي مبتدع؟ -شيخنا يسأل- فهل نقول إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة -أي قوله في تأويل الصفات بدعة- لكن هو غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأوِّل، والمتأوِّل إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفِّر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر".
انظر لكلام العلماء، طبعًا الشيخ لم يأتِ بهذا الكلام من كيسه، أو من عند نفسه؛ بل يستدل، وانظر إلى استدلاله، يقول: "أرأيتم الرجل الذي ضلت راحلته حتى أيس منها -والحديث في الصحيحين- واضجع تحت شجرة -أنا أقرأ كلام الشيخ، وإلا فالحديث له نص آخر- ينتظر الموت، فإذا بالناقة على رأسه -يعني تقف إلى جوار رأسه- فأخذ بها، وقال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. يقول الشيخ: وهذه الكلمة كلمة كفر، لكن هو لم يكفر. إذ قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه: (أخطأ)، لم يقل: "كفر"، وإنما قال النبي: (أخطأ من شدة الفرح).
أرأيتم الرجل يُكرَه على قول الكفر قولًا أو فعلًا هل يكفر ؟ -يسأل الشيخ، ويقول: الجواب: لا، القول كفر، والفعل كفر، لكن هذا القائل أو الفاعل ليس بكافر، لأنه مكره، ثمر يقول: رأيتم الرجل الذي كان مسرفًا على نفسه فقال لأهله: إذا أنا متُّ فأحرقوني وذروني في اليم -والحديث أيضًا في الصحيحين من حديث أبي هريرة، و"في اليم" أي البحر- فوالله لئن قدر عليَّ ربي ليعذبنِّي عذابًا ما عذَّبه أحدًا من العالمين، وظن أنه بذلك ينجو من عذاب الله. وهذا شكٌّ في قدرة الله -عز وجل- و يقول الشيخ: والشك في قدرة الله كفر، ولكن هذا الرجل لم يكفر، جمعه الله -عز وجل- وسأله: لماذا صنعت هذا؟ قال: مخافتك يا رب. وفي رواية: من خشيتك. فغفر الله له.
إذن الإمام النووي أوَّلَ في الصفات، حتى تعرف طالب العلم الصغير مثلي ومثلك، لما رب العزة يمنّ علينا بمنهج السلف في مبحث الأسماء والصفات تسجد لله شكرًا أن وفقك لهذا الحق.
فمنهجنا الذي ندين لله به في مبحث الأسماء والصفات: أننا نثبت لله -جل وعلا- كل ما أثبته لذاته من الأسماء الحسنى والصفات العلا، ونؤمن بكل ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى والصفات العلا، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تشبيه، ولا تمثيل، قال تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11]، قال تعالى: { فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ } [النحل: 74]، قال تعالى: { أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ } [البقرة: 140].
رأيتم النعمة الكبيرة هذه؟ مَن أنا بجوار النووي؟! مَن أنت بجوار النووي؟! مَن أنا بجوار الحافظ ابن حجر؟! مَن أنت بجوار الحافظ ابن حجر؟!
لكن انظر إلى فضل الله علينا أن يمنَّ علينا بمعتقد السلف الصالح، بمعتقد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة في مبحث الأسماء والصفات، وهو باب -كما أقول: باب ضلَّت فيه أفهام، وزلَّت فيه أقدام وأقلام.
أخ يسأل عن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان: سنة، في حديث عبد الله بن عمرو في صحيح مسلم: (إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم صلوا عليَّ...)، إلى آخر الحديث، ثم قال: (ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلَّت له شفاعتي). اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد.
أما الحافظ الثاني: فهو ابن حجر.
وابن حجر -يقول الشيخ رحمه الله: أحيانًا يسلك مسلك السلف، يعني في مبحث الأسماء والصفات، وأحيانًا يمشي على طريقة التأويل التي هي في نظرنا تحريف.
يقول الشيخ: مثل هذين الرجل هل يمكن أن نقدح فيهما؟ أبدًا -هكذا يقول- أبدًا، لكننا لا نقبل خطأهما، خطؤهما شيء واجتهادهما شيء آخر.
إذن هذا التأويل ناشئ عن اجتهاد أخطأ فيه، لكن خطأهما شيء، واجتهادهما يؤجران عليه أجرًا، وهو شيء آخر.
الشيخ يقول -رحمه الله: أقول هذا لأنه نابتة قبل سنتين أو ثلاث تهاجم هذين الرجلين هجومًا عنيفًا -يقصد الإمام النووي والحافظ ابن حجر- وتقول -أي هذه الفئة وأنتم تعرفونها- وتقول: يجب إحراق فتح الباري، وإحراق شرح صحيح مسلم.
الشيخ يقول: أعوذ بالله، كيف يجرؤ إنسان على هذا الكلام، لكنه الغرور والإعجاب بالنفس واحتقار الآخرين.
يقول: والبدعة المكفِّرة أو المفسِّقة لا نحكم على صاحبها أنه كافر أو فاسق حتى تقوم عليه الحجة، لقول الله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } [الإسراء: 15]، ولقول الله تعالى: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165].
بل أنا أزيدك وأقول: إقامة الحجة لا تكفي، وقد فرَّق شيخ الإسلام ابن تيمية بين إقامة الحجة وفهم الحجة، ممكن تقوم عليَّ الحجة لكن لم أفهم! لم أستوعب! لابد أن تقيم عليَّ الحجة، أن ترفع عني الجهل والخطأ والإكراه والتأويل، لابد أن ترفع عني الجهل والخطأ والإكراه والتأويل، أفهم الحجة.
إذن شيخ الإسلام يفرِّق بين إقامة الحجة، وفهم الحجة، لأن البعض يتعجل، كأنك تريدني أزل، تريدني أخطئ، لا، فهمني، ارفع عني الجهل، ارفع عني الخطأ، علمني الحق، ارفع عني التأويل، أنا متأول، وقد وقع بعض الصحابة في التأويل.
الشاهد: يقول شيخنا -رحمه الله: "فعلينا أن نتَّئد، وألا نتسرع، وألا نقول لشخص أتى ببدعة واحدة من آلاف السنن إنه مبتدع، وهل يصح أن ننسب هذين الرجلين وأمثالهما إلى الأشاعرة ونقول هما من الأشاعرة؟
الشيخ يقول: والجواب: لا، لن الأشاعرة لهم مذهب مستقل له كيان في الأسماء والصفات والإيمان وأحوال الآخرة.
يقول: فإذا قال قائل بمسألة من مسائل الصفات بما يوافق مذهبهم -أي مذهب الأشاعرة- فلا نقول: إنه أشعري.
أرأيتم لو أن إنسانًا من الحنابلة اختار قولًا للشافعية، فهل نقول إنه شافعي؟ والجواب: لا، لا نقول إنه شافعي، فانتبهوا لهذه المسائل الدقيقة ولا تتسرعوا، ولا تتهاونوا باغتياب العلماء السابقين واللاحقين، لأن غيبة العالم ليست قدحًا في شخصه فقط؛ بل في شخصه وما يحمله من الشريعة، لأنه إذا ساء ظن الناس فيه؛ فإنهم لن يقبلوا ما يقول من شريعة الله، وتكون المصيبة على الشريعة أكثر.
ثم إنكم ستجدون قومًا يسلكون هذا المسلك المشين؛ فعليكم بنصحهم -يا طلبة العلم- فإذا وُجد فيكم مَن لسانه منطلق في القول في العلماء؛ فانصحوه وحذِّروه، قولوا له: اتَّقِ الله، أنت لم تُتعبَّد بهذا".
ما رأيك في هذا الكلام؟ كلام أغلى من الذهب.
أختم بكلام لشيخنا الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ -حفظه الله- في شريط جميل له جدًّا، اسمه الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء، أرجو أن تسمعوه، شريط جميل، الفتوى بين مطابقة الشرع ومسايرة الأهواء للشيخ صالح بن عبد العزي آل الشيخ -حفظه الله- وأسأل الله أن ينفع به.
الوجه الثاني في الشريط، يقول الشيخ: "أيضًا إذا كانت المسألة متعلقة بالعقائد، أو كانت المسألة متعلقة بعالم من أهل العلم في شأنه في أمر من الأمور؛ فإنه هنا يجب النظر فيما يؤول إليه الأمر -يعني النظر إلى مآلات الأقوال ومآلات الأفعال- من المصالح ودفع المفاسد.
يقول: ولهذا؛ ترى أئمة الدعوة -رحمهم الله- من وقت الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف بن حسن -وهو أحد الأئمة المشهورين- والشيخ محمد بن إبراهيم، إذا كان الأمر متعلقًا بعالم أو بإمام، أو بمَن له أثر في السنَّة؛ فإنهم يتورعون ويبتعدون عن الدخول في ذلك".
فيه كلام آخر طويل، لكن سأكتفي بهذا حتى أختم بقول مهم جدًّا للشيخ عبيد الجابري في رسالة له باسم أصول وقواعد في منهج السلف الصالح، القسم الثاني، صفحة2، يقول: "فجميع أقوال الناس وأعمالهم ميزانها عندنا شيئان: النص والإجماع -النص القرآن والنبوي والإجماع- فمن وافق نصًّا أو إجماعًا؛ قُبِلَ منه، ومَن خالف نصًّا أو إجماعًا رُدَّ عليه ما جاء به من قولٍ أو فعل كائنًا مَن كان، ثم إذا كان هذا المخالف أصوله سنَّة، ودعوته سنَّة، وكل ما جاء عنه سنَّة؛ فإن خطأه يُرَدُّ ولا يُتابَع على زلته، وتُحفظ كرامته. وإن كان ضالًّا بمتدعًا لم يعرف للسنَّة وزنًا، ولم تقم له عنده قائمة مؤسِّسًا أصوله على الضلال؛ فإنه يُردُّ عليه كما يُردُّ على المبتدعة الضلَّال، ويُقابَل بالزَّجر والإغلاظ والتحذير منه، إلا إذا ترتَّبت مفسدة".
نكتفي بهذا الضابط.
وإن شاء الله تعالى غدًا سأتكلم عن الضابط الخامس من ضوابط الهجر، وهو: العدل.
العلم والعدل والرحمة، وستسمعون كلامًا ربما هذا الضابط يحتاج مني إلى محاضرتين، الضابط الخامس ممكن يحتاج إلى محاضرتين أو ثلاثة، وإن شاء الله -عز وجل- بإذن الله سيكون أسبوعيًّا بعد ذلك، يوم الاثنين من كل أسبوع -بإذن الله- بعد العشاء في الشتاء، وبعد المغرب في الصيف، رحلة الشتاء والصيف، أسأل الله أن يتقبل منَّا ومنكم صالح الأعمال.
والضابط السادس سيكون التفريق بين الرد على أهل البدع والرد على أهل السنة.
رزقني الله وإياكم الاتِّباع، وجنبنا وإياكم الابتداع، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأقم الصلاة.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61