|
|
|
| محمد حسان |
لفضيلة الشيخ محمد حسان
الدرس (6)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
هذا هو لقاؤنا السادس من شرحنا لأصول السنَّة للإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى:
يقول الإمام: (أُصُولُ اَلسُّنَّةِ عِنْدَنَا:
اَلتَّمَسُّكُ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَاَلْاِقْتِدَاءُ بِهِمْ، وَتَرْكُ اَلْبِدَعِ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ فَهِيَ ضَلَالَةٌ، وَتَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ، وَتَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).
انتهيت بالأمس بفضل الله -جل وعلا- من الشطر الأول من هذا الأصل الثالث؛ ألا وهو (تَرْكُ اَلْخُصُومَاتِ).
ونحن الليلة -بإذن الله- على موعد مع الشطر الثاني من هذا الأصل، وهو (تَرْكُ الْجُلُوسِ مَعَ أَصْحَابِ اَلْأَهْوَاءِ).
أصحاب الأهواء: أصحاب البدع والضلالات.
قال عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما: "لا تجالس أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب".
قال عبد الله بن عمر كما في مقدمة صحيح مسلم، قال الإمام مسلم: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول مَن قال في القدر بالبصرة معبد الجهني، فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجَّين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر -يقصد القدرية النفاة- فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر، قال: فوفِّق لنا عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- داخلًا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سيَكِلُ الكلامَ إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن -ينادي على عبد الله بن عمر- إنه قد ظهر قِبلَنا ناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم -أي يبحثون عن غوامضه وخوافيه ودقائق مسائله، وذكر من شأنهم معظمًا مفخمًا لهم- ويزعمون ألا قدر وأن الأمر أُنف.
اسمعوا ماذا قال عبد الله بن عمر -وهذا هو الشاهد- قال عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبًا فأنفقه، ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر"، ثم ساق الحديث الطويل المعروف، حدثني أبي عمر بن الخطاب...، إلى آخره.
قال: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم، وأنهم برآء مني".
وقال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه: "إياكم وما يُحدث الناس من البدع، فإن الدين لا يذهب من القلوب بِمَرَّةٍ، ولكن الشيطان يُحدث له بدعًا حتى يُخرج الإيمان من قلبه"، أي حتى يُخرج الشيطان الإيمان من قلب العبد.
قال: "ويوشك أن يدع الناس ما ألزمهم الله من فرضه في الصلاة والصيام والحلال والحرام، ويتكلمون في ربهم، فمن أدرك ذلك الزمان فليهرب".
انتبه! قيل: يا أبا عبد الرحمن، فإلى أين؟
قال: "لا إلى أين"، أي أنا لا أقصد الهرب إلى مكان.
قال: "لا إلى أين، وإنما يَهْرَبُ بقلبه ودينه، لا يُجالس أحدًا من أهل البدع".
قال الحسن وابن سيرين: "لا تُجالسوا أهل الأهواء، ولا تُجادلوهم ولا تسمعوا منهم".
أنا تعمَّدت أن أبدأ بهذه الأقوال لسلفنا الصالح لأبيِّن أن هجر المبتدع له أصل في الشرع، بل الأصل في الشرع أن يُهجر المبتدع، لكنَّ هذا الهجر يحتاج إلى فقه دقيق -يا أبنائي ويا إخواني- ويحتاج إلى وعي عميق، والمرجع في هذه المسألة الشائكة ينبغي أن يكون لأهل العلم الكبار الذين يُحدِّدون المصالح والمفاسد، والذين يَقْدُرُونَ كل حكم وكل مسألة بقدرها، الذين يعرفون الأدلة ومراتب الأدلة، ويعرفون العام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبيَّن، ويحققون مناطات الأدلة التي لابد منها للرد ردًّا صحيحًا بين دلالات النصوص القرآنية والنبوية والواقع.
قال شيخي ابن القيم -لله درُّه: "لا يجوز للعالم أو الحاكم أو المفتي أن يفتي في مسألة إلا بعلمين:
- الأول فهم الواقع.
- والثاني: فهم الواجب في الواقع".
أي فهم الأدلة الشرعية التي تنسحب على هذا الواقع المدروس أو المبحوث أو المسئول عنه.
فمسألة هجر المبتدع أصلها في كتاب الله -جل وعلا- في قول الله -تبارك وتعالى: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [الأنعام: 68].
هذه الآية صريحة في تحريم مجالسة أهل الباطل وأهل البدع وأهل الأهواء والضلال.
قال القرطبي -رحمه الله: "في هذه الآية ردٌّ من كتاب الله -عز وجل- على من زعم أن الأئمة الذين هم حجج وأتباعهم لهم أن يخالطوا الفاسقين ويُصَوِّبوا آراءهم تَقيَّة".
فلا يجوز للأئمة و لمن هم حجة في القوم وفي الخلق وبين الناس، أن يجالسوا أهل البدع والأهواء والضلال، إلا إن كان ذلك من أجل أن يذكِّروهم بالله، وأن يقيموا عليهم الحجة -كما سأبين الآن بإذن الله -تبارك وتعالى- من كلام أهل العلم.
وقالت عائشة -رضي الله عنها- بعدما تلت قول الله -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7]، قالت عائشة -والحديث في البخاري ومسلم- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّ الله، فاحذروهم».
دليل جميل ربما تستمعون إليه لأول مرة، دليل نبوي رائع في المسألة.
قالت أم المؤمنين -والحديث في الصحيحين: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيت الذين يتَّبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّ الله، فاحذروهم».
وابتغاء المتشابه: بإجماع أهل العلم من سلوك أهل البدع والضلال، ابتغاء المتشابه والبحث عن المتشابه وترك المحكم سبيل واضح لأهل البدع والضلال، وقد حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- منه بقوله: «أولئك الذين سمَّ الله؛ فاحذروهم».
لكن السؤال الخطير -يا إخواني ويا أبنائي- وأرجو أن تنتبهوا له جدًّا: متى يكون الرجل من أهل البدع والأهواء؟
هذا هو السؤال المهم؛ لأنني أرى إفراطًا شديدًا بين أبناء الصحوة والحركة الإسلامية في هذا الباب، فهم يحكمون على كثير من الناس بلا ضوابط بالبدع والأهواء والضلال، ولا يدري هؤلاء أنهم قد وقعوا في ظلم بيِّن، بل وعالجوا باطلًا بباطل، وردُّوا البدعة ببدعة -انتبهوا لهذا- ولا يدري كثير من هؤلاء أنهم عالجوا باطلًا بباطل، وردُّوا البدعة ببدعة.
فمتى يكون الرجل من أهل الأهواء؟
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -طيَّب الله ثراه- في مجموع الفتاوى المجلد 24 صفة 172 لمن أراد من أبنائنا أن يراجع هذه النصوص الليلة؛ لأنها في غاية الأهمية، واسمحوا لي سأطيل النفس فيها جدًّا، فأنا لست متعجلًا لإنهاء شرح الأصول في هذه الأيام، بل ربما -إن شاء الله تعالى- نعلن عن درس أسبوعي بعد انتهائنا من هذه الدورة مباشرة في هذا الجامع العامر؛ لأكمل -إن شاء الله عز وجل- شرح أصول السنَّة للإمام أحمد.
قال شيخ الإسلام -طيَّب الله ثراه: "مَن خالف الكتاب المستبين والسنَّة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يُعذر فيه، فهذا يُعامل ما يُعامَل به أهل البدع".
يا الله على دقة الألفاظ!
سأقولها ثلاث مرات حتى تسجلونها.
قال شيخ الإسلام مجلد 24، مجموع الفتاوى، صفحة 172، يقول: "مَن خالف الكتاب المستبين"، يعني أدلة بيِّنة واضحة ليست من المتشابه.
قال: "من خالف الكتاب المستبين والسنَّة المستفيضة -يعني مسألة متواترة- والسنَّة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يُعذر فيه"، وسأتكلم عن الخلاف الذي يُعذر فيه صاحبه، ولا يُحكم عليه حينئذٍ بالبدعية حتى ولو كانت بدعته تسمى في الأصل ضلالة، انظروا إلى دقة كلام أهل العلم.
قال: "من خالف الكتاب المستبين والسنَّة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يُعذر فيه، فهذا يُعامل ما يُعامَل به أهل البدع".
هل تدبرتم هذا النص الجميل؟
وقال شيخ الإسلام أيضًا -رحمه الله- في مجموع الفتاوى، المجلد 35، صفحة 414، يقول: "والبدعة التي يُعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشْتُهِرَ عند أهل العلم بالسنَّة مخالفتها للكتاب والسنَّة ، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة".
أقول مرة ثانية، يا رب نتعلم من هذا الدرس حتى نتريَّث قليلًا ونتقي الله في أقولنا وأحكامنا قليلًا، نريد أن نتقي الله في أقوالنا وأحكامنا على الآخرين حتى لا نقع في التبديع بظلم أو في التفسيق بظلم.
يقول: "والبدعة التي يُعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنَّة مخالفتها للكتاب والسنَّة، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية، والمرجئة".
يقول شيخنا ابن القيم: "إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع".
والله العظيم كلام يُكتب بأغلى من ماء الذهب.
قال: "إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع".
ثم يقول أيضًا في موضع آخر: "وهل أوقع القدري والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله؟".
فأنا لا أريد أيضًا أن نقع نحن أهل السنَّة في سوء فهم لمراد الله ومراد رسوله، يعني ما أوقع فِرَق البدع في بدعهم إلا سوء فهمهم لمراد الله ورسوله، فلا ينبغي أن نعالج هذا الباطل بباطل نقع فيه، وأن نعالج سوء الفهم بسوء فهم نقع نحن أيضًا فيه، وأنتم ترون حالة التشرذم والتهارج، وحالة الشقاق والنزاع بين أبناء العمل الإسلامي الآن بسبب غياب هذه الأصول، وقلَّ من إخواننا من أهل العلم مَن يؤصل مثل هذا لأبنائه وطلابه الآن، بل أنا أقولها لله ورزقي عليه -جل جلاله: إن من أخطر التحديات التي تواجه شبابنا الآن: مجاملة كثير من العلماء والمشايخ والدعاء لأبناء العمل الإسلامي على حساب المنهج..
أقولها مرة ثانية، وأدين بها لربي والله: إن من أخطر التحديات التي تواجه الحركة الإسلامية الآن: مجاملة كثير من العلماء والمشايخ والدعاة لأبناء الحركة الإسلامية على حساب المنهج.
يعني أنا خائف تنفضوا من حولي؛ فأتكلم في السياسة حتى يكثر الجمهور! أو سأجامل في مسألة من المسائل حتى لا ينفض الجمع على حساب صحة المنهج والمعتقد الذي أدين به لله! فهذا خلل كبير.
وفيه أثر رائع جدًّا لعلي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وإن كان في سنده ضعف من باب الأمانة العلمية، ذكره ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، كذا استدل به الإمام الشاطبي في الموافقات، لكن في سنده ضعف، قال علي -رضي الله عنه: "يا حملة العلم اعملوا به، فإن العالم من علم ثم عمل، ووافق علمه عملَه -أو ووافق علمه عملُه، كلاهما صحيح- وسيأتي أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، يخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يقعدون حِلقًا يباهي بعضهم بعضًا، حتى إن أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره، أولئك لا ترفع أعمالهم تلك إلى الله -عز وجل".
اللهم ارزقنا الإخلاص يا رب، ارزقنا الصدق في الأقوال والأعمال والأحوال.
والله العظيم مصيبة كبيرة! ولذلك أنا كنت أتعجب لما كنت أقرأ حديث رسول الله «إن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة...»، ويذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: «عالم»، كنت أعجب وأفزع وأقول: عالم تُسَعَّرُ به النار! لأنه ما ابتغى بعلمه وجه العزيز الغفار، وإنما ابتغى السمعة والفضائيات والشهرة، وصرف وجوه الناس إليه، فهذا أول مَن تُسَعَّرُ به النار يوم القيامة.
والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، ولا يتسع الوقت لذكر كل حديث.
وما أروع وأجمل والله أن نذكر كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- في كل موطن من المواطن.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -واحفظوا هذا الكلام: "والبدعة التي يُعد بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنَّة مخالفتها للكتاب والسنَّة ، كبدعة الخوارج والروافض، والقدرية -يقصد القدرية الجبرية والقدرية النفاة- والمرجئة".
وإن شاء الله ربما نتعرض لأصول هذه الفِرَق سريعًا في موطنه؛ لنعلم أن هذه الفِرَق لازالت موجودة بأصولها في هذه الأيام، وها نحن نرى خطرًا جديدًا -خطر المد الشيعي- ونرى بلادنا ولا حول ولا قوة إلا بالله تفتح صدرها لإيران في أمر يدمي القلب، وأنا لا أريد أن أتكلم في هذه المسألة الآن إلا بعد أن أراجع المسئولين مراجعة خاصة حتى أتحقق وأتثبت وأتبين، لكنني أخشى هذا المد الجديد في أي صورة من الصور، سواء كانت اقتصادية أو علمية أو إعلامية أو ثقافية؛ فضلًا عن أن تكون عقدية مذهبية، نسأل الله أن يحفظنا وأن يحفظ بلاد المسلمين.
يقول الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الماتع الاعتصام، المجلد الثاني: "وذلك أن هذه الفِرَق إنما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنًى كليٍّ في الدين".
انظر للعدل يا أخي سبحان الله! عدل عجيب من علماء أهل السنَّة وأئمة أهل السنَّة.
يقول: "وذلك أن هذه الفِرَق" يقصد الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة والمعتزلة.
يقول: "وذلك أن هذه الفِرَق إنما تصير فِرَقًا بخلافها للفرقة الناجية في معنًى كليٍّ في الدين، وقاعدة من قواعد الشريعة، لا في جزئيٍّ من الجزئيات"، يعني لا تعد فرَقًا؛ لأنها خالفت الفرقة الناجية، والفرقة الناجية هي ما كان عليه أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا تعد فِرقة لمخالفتها للفرقة الناجية؛ لأنها خالفت أهل السنَّة في جزئي من الجزئيات أو في فرعي من الفرعيات، بل خالفت أهل السنَّة والجماعة في الأصول والقواعد والكليات.
ولذلك أنا ذكرت أن مَن يزعم أن الخلاف بين أهل السنَّة وهذه الفرق كالقدرية والروافض والمرجئة في الفروع، فهذا لم يقرأ أصول أهل السنَّة ولم يقرأ أصول هذه الفِرَق.
ثم يقول الشاطبي -رحمه الله: "إذ الجزئي والفرع الشَّاذ لا ينشأ عنه مخالفة يقع بسببها التفرق شيعًا" الخلاف في مسائل الفروع أو في مسائل الأحكام خلاف سائغ، وخلاف معتبر، لا يجوز الإنكار فيه على المخالف، وقد ذكرت أمس كلام شيخ الإسلام: "الاختلاف في مسائل الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كلما اختلف مسلمان في شيء من مسائل الأحكام تهاجرا، لم يبقَ بين المسلمين عصمة ولا أخوة"، إنما الخلاف الموجود خلاف بين الفرقة الناجية وبين هذه الفِرَق في الأصول والكليات والقواعد العامة.
قال: "وإنما ينشأ التفرق عند وقوع المخالفة في الأمور الكليَّة، وأما الجزئي فبخلاف ذلك، بل يُعد هذا الخلاف الجزئي وقوع المبتدع في الخلاف الجزئي أو الفرعي- يعد له كالزلة والفلتة"، يعني لا نحكم عليه بأنه صار مبتدعًا أو صار ضالًّا؛ لأنه خلاف في أمر جزئي أو فرعي، وليس في أصول -قواعد- أو كليَّات.
اسمعوا هذا الكلام لشيخنا الشيخ الألباني -رحمه الله تعالى- في شريط له من سلسلة الهدى والنور، الشريط رقم 785، لمن أراد الرجوع؛ لأننا في زمن صار حتى بعض طلاب العلم يشككون في مشايخهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الشريط رقم 785 الوجه الثاني من الشريط يقول -رحمه الله: "المبتدع هو أولًا -لأنه يذكر شرطين- المبتدع هو: أولًا: الذي من عادته الابتداع في الدين -يعني صار الابتداع عنده عادة- وليس الذي يبتدع بدعة، يعني رجل وقع في بدعة لا نقول عليه صار مبتدعًا، وإنما نقول: وقع في بدعة. لكن المبتدع هو الذي اعتاد البدع، وصارت البدع ديدنا له.
يقول الشيخ: "ولو كان هو فعلًا ليس عن اجتهاد، وإنما عن هوى، مع ذلك هذا لا يسمى مبتدعًا".
ثم يقول: "وأوضح مثال لتقريب هذا: أن الحاكم الظالم قد يعدل في بعض أحكامه فلا يقال فيه عادل، كما أن الحاكم العادل قد يظلم في بعض أحاكمه، فلا يقال فيه ظالم، وهذا يؤكد القاعدة الإسلامية الفقهية: إن الإنسان بما يغلب عليه من خير أو شر". هذا كلام الشيخ، لما كنا نقول الكلام هذا، كانوا يقولون: من أين جئتم به؟! هذا كلام العلماء، وهذه أصول أهل العلم.
" كما أن الحاكم العادل قد يظلم في بعض أحاكمه، فلا يقال له ظالم، وهذا يؤكد القاعدة الإسلامية الفقهية: إن الإنسان بما يغلب عليه من خير أو شر، فإذا عرفنا هذه الحقيقة، عرفنا من هو المبتدع، فيشترط إذن في المبتدع شرطان -ولا زال الكلام لشيخنا رحمه الله- فيشترط إذن في المبتدع شرطان:
الشرط الأول: ألا يكون مجتهدًا وإنما يكون متَّبعًا للهوى.
والشرط الثاني: يكون ذلك من عادته ومن ديدنه".
واضح يا حبايب؟ أم "حبايب" بدعة؟
أعرف أن الدروس المنهجية تكون ثقيلة بعض الشيء، تريدون النار والجنة، ربنا يجعلنا من أهل الجنة، يا رب نجنا من النار، لكن هذه الدروس تحتاج إلى صبر، وهي في غاية الأهمية.
أقول الشرطين مرة ثاني:
قال -رحمه الله: "فيشترط إذن في المبتدع شرطان:
الشرط الأول: ألا يكون مجتهدًا وإنما يكون متَّبعًا للهوى".
المجتهد لا يمكن أبدًا إن أخطأ أن يُقال عليه مبتدع، أو يُقال: ابتدع. وفيه فرق بين اللفظتين، وسأذكر لكم وأنقل لكم كلامًا، يا الله! أحيانًا وأنا أجهز والله أصرخ من جمال كلام وعدل أئمتنا أئمة أهل السنَّة، وأصرخ في ذات الوقت بكاءً وألمًا على حالنا وواقع كثير من طلابنا وأبنائنا وإخواننا.
أين نحن من هذه الأصول العظيمة الكريمة، التي تربي الطلاب والأتباع على العدل والعلم والحق؟
شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: "مَن قال في الناس بغير علم فقد خالف قول الله -جل وعلا- ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، ومَن قال في الناس بغير عدل فقد خالف قول الله -جل وعلا: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ [المائدة: 8]".
انظر لكلام العلماء؟
وفيه أصل هنا لما نأتي نتكلم عن ضوابط هجر المبتدع الآن ستسمعون كلامًا رائعًا جدًّا.
من بين هذه الضوابط: العلم، والعدل، والحق
يا الله! ممكن آخذ في هذا الضابط محاضرة كاملة، وسامحوني، أنا لست مستعجلا أبدًا.
الشاهد: العلم والعدل والحق، سنسمع في هذا الضابط من ضوابط هجر المبتدع كلامًا لعلمائنا يُكتب بماء الدموع الخاشعة؛ لأنها عندي أغلى من ماء الذهب، الدموع من خشية الله تنجي صاحبها من النار، فهي أغلى عندي من ماء الذهب، اللهم ارزقنا البكاء من خشيتك يا رب العالمين.
انتبهوا! "يُشترط إذن في المبتدع شرطان -والكلام لشيخنا الألباني رحمه الله-
الشرط الأول: ألا يكون مجتهدًا وإنما يكون متَّبعًا للهوى".
لأنه حتى لو أخطأ وهو مجتهد فله أجر، وإن أصاب فله أجران.
الشرط الثاني: يكون ذلك من عادته ومن ديدنه.
الشرط الأول: ألا يكون مجتهدًا وإنما يكون متَّبعًا للهوى.
الشرط الثاني: يكون ذلك من عادته ومن ديدنه.
طيب، تعالَ نطرح السؤال الخطير جدًّا والكبير والمهم: ما هي ضوابط هجر المبتدع بعد هذه المقدمة المهمة؟ ما هي ضوابط هجر المبتدع؟
الضابط الأول: سلامة القصد وحسن النية.
لماذا أنت تهجرني؟ لِمَ تهجر أخاك؟ للدين، يا رجل خلي عندك دين، أنت لو فتَّشت ستجد الهوى، هذا رجل من أهل السنَّة، هذا أخ من إخوانك، هذا من العلماء، هذا من المشايخ الكبار منذ أربعين سنة ينافحون عن التَّوحيد السنَّة، لماذا تهجره؟ لماذا تبدِّعه؟ لماذا تنال من دعوته ومكانته في الأمة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله.
الضابط الأول: سلامة القصد وحسن النية.
قال -جل وعلا: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5].
وقال -جل وعلا: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: 110].
وقال -جل وعلا- في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمَن عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه» وفي لفظ ابن ماجة بسند صحيح: «أنا منه بريء، وهو للذي أشرك».
سلامة القصد.
اسمع الكلام الغالي: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، المجلد 28، إذا أردت ترجع للصفحة: 234 وما بعدها.
يقول: " فلا يَحِلُّ للرَّجل أن يتكلَّم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله تعالى".
والله العظيم كلام يخلع القلوب، والله العظيم أنا لو سألت: لماذا أتيت من بيتي أجلس معكم الآن؟ ولماذا أقول هذا الكلام؟ والعبارة حبستها لماذا؟ وأسأل نفسي في كل كلمة أقولها، وكل كلمة أحبسها وأمنعها، وكل تصرف وكل خطة وكل حركة، والله لغيَّرنا وبدَّلنا وما كان هذا هو الحال.
من أراد أن يتكلم في هذا الباب -باب هجر المبتدعين، وهجر أهل الأهواء، وهجر أهل الضلال- يقول: "لا يحل للرجل أن يتكلم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فإن تكلم في ذلك بغير علم أو بما يعلم خلافه، كان آثمًا، فلو تكلم بحقٍّ لقصد العلوم في الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حميَّة ورياءً، وإن تكلم لأجل الله -تعالى- مخلصًا للدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرُّسل".
أنا مستعد أكرر هذا الكلام إلى الفجر، إلى الفجر والله العظيم، لكن الفقرة هذه تكفي، ولن أزيد عن هذه الفقرة، سأقولها مرة ثانية، ولن أزيد عن هذه الفقرة في هذا الضابط، وعندي كلام كثير جدًّا لأهل العلم.
سلامة القصد وحسن النية، يقول: "فلا يَحِلُّ للرَّجل أن يتكلَّم في هذا الباب إلا قاصدًا وجه الله -تعالى، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله" ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
قال: "فلو تكلَّم في ذلك بغير علم" هذه أول مصيبة.
قال: "أو بما يعلم خلافه"، يعني أتكلم في فلان من أهل العلم وأهل الفضل وأنا أعلم علم اليقين أن الرجل على خلاف ما أقول، «من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال، وليس بخارج»، وفي غير هذه الرواية: قيل: وما ردغة الخبال يا رسول الله؟ قال: «عصارة أهل النار».
الشيخ فلان، والشيخ فلان، والشيخ فلان، هؤلاء على رءوسنا من فوق، هؤلاء مشايخنا، أقدح في هؤلاء الأجلاء الفضلاء لمجرد هوًى في قلبي، أو لمجرد حسد، أو لمجرد حقد، أو لمجرد ضغينة، أو لمجرد هوى؟! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أو لمجرد حتى مخالفة لهم في أمر من الأمور أو في حكم من الأحكام؟!
عالم من علمائنا في نازلة من النوازل المعاصرة -الثورة مثلًا- اختلف فيها العلماء المعاصرون على قولين، أنت تقول بقول من هذين القول من هذين القولين، لا يَحِلُّ لكَ أن تقدح في أصحاب القول الثاني من أئمة وعلماء أهل السنَّة من المعاصرين، هذا هو المنهج، إنما أُهدر كل حسنات الشيخ، وأمسح كل تاريخه في التعليم للتَّوحيد والدفاع عن السنَّة، والذود عن حِيَاضِ الحق لمجرد أنه قال قولًا في نازلة من النوازل المعاصرة اجتهد فيها بما يدين به الله -جل وعلا- وخالف ما تدين به أنت لله، تقدح في الشيخ وتمسح تاريخه مسحًا كاملًا؟!
هذا قمة الظلم، هذا ظلم بيِّن، وجور يؤلم القلب ويتعب النفس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يا أخي ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "لقد رأى محمدٌ ربه ليلة الإسراء والمعراج"، واستدل بحديث أبي ذر: «رأى نورًا».
السيدة عائشة قالت: "من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية".
انظر للرأيين، مختلفين تمامًا، اختلاف كلي بين الرأيين، ومع ذلك ما هُدم تاريخ ابن عباس، وما هُدم تاريخ عائشة، اجتهاد في مسألة.
وأنا أقول وقلت؛ لأن طالب أرسل لي سؤالًا، وأنا أسألكم وجاوبني، أريد جوابًا من طلبة العلم الآن: المسألة التي ذكرتها الآن -رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم- ربه ليلة الإسراء والمعراج- هذه المسألة تُبحث في مسائل العقيدة أم مسائل الفقه، أم مسائل المعاملات؟
في العقيدة، باتفاق، أحد من علمائنا قال غير هذا؟
مسألة من مسائل العقيدة، واختلف فيها الصحابة على قولين، بل على ثلاثة أقوال، لكن ما أؤكد عليه أن هذه المسألة ليست من أصول مسائل الاعتقاد، حتى لا تَخلط الأوراق، إنما هذه مسألة تُبحث باتفاق في مسائل العقيدة في باب العقيدة، ارجع إلى أي كتاب من كتب العقيدة لأئمتنا، سترى هذه المسألة في باب العقيدة وفي باب الاعتقاد، ولن تجدها أبدًا في باب الفقه ولا في باب الطهارة، ولا في باب المعاملات، لكنها مسألة ليست من أمهات وكليَّات وأصول مسائل العقيدة.
مسألة عذاب القبر ونعيمه: مسألة عَقَدِيَّة أم في الفقه أم في المعاملات؟ عقدية باتفاق أيضًا.
اختلف فيها العلماء على أقوال، اختلف أئمة السنَّة فيها على أقوال.
إذن، الأمر فيه سعة، لما يختلف عالمان من علماء أهل السنَّة ويجتهد كل واحد منهما رأيه بما يدين به لله -عز وجل- من خلال فهمه للقواعد الكلية والأصول، والأدلة ومراتب الأدلة، وتحقيق مناطات الأدلة، لا يجوز على الإطلاق أن يُنكر على هذا العالم اجتهاده؛ لأنه مأجور في الحالتين، إما أن يؤجر مرة إن أخطأ، أو مرتين إن أصاب، هذه أصول لابد من مراعاتها يا إخواني ويا أحبابي.
وهذا الكلام أصلته في سنوات طويلة في مسجد التوحيد في المنصورة، والذي يشرح صدره ربنا للحق هو الذي يستفيد بهذا، هذا الكلام ليس من جيبي، هذا كلام أهل العلم.
اسمع كلام شيخ الإسلام مرة ثالثة، يقول: " فلا يَحِلُّ للرَّجل أن يتكلَّم في هذا الباب إلا قاصدًا بذلك وجه الله -تعالى-، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فلو تكلم في ذلك بغير علم، أو بما يعلم خلافه، كان آثمًا" انظروا! هو ذاهب يدافع عن الحق ويذود عن حياض السنَّة، فيقع في إثم.
قال: "كان آثمًا".
والثانية أخطر: فلو تكلم بحق، لا، أنا عندي الحق، وفلان الفلاني هذا مبتدع، وفلان الفلاني هذا من أهل الضلال وأهل البدع وأهل الأهواء، أنا عندي حق وعندي الأدلة، لكن أنا قصدي ليس إعلاء الحق، ولا أن تكون كلمة الله هي العليا، هذا ليس قصدي، وليست نيَّتي، إنما قصدي أن أتأسَّد وأن أتنمَّر أنا، وأن أُظهر للناس أنني صاحب حق، وأنني أنا المنافح والمدافع عن حياض السنَّة المطهرة، وأن فلانًا من المبتدعين الضالين من أهل الأهواء.
انظر ماذا يقول فيه شيخ الإسلام: "فلو تكلَّم بحق لقصد العلو في الأرض أو الفساد، كان بمنزلة الذي يُقاتل حميَّة ورياءً"، عمله ليس خالصًا، ليس مقبولًا، دفاعه عن الحق غير مقبول مع أنه يتكلم بحق.
أما قلنا أنه لابد لقبول العمل من شرطين؟
الشرط الأول: الإخلاص.
والثاني: الاتباع.
ممكن أكون متَّبعا، ممكن أن يكون المنافح متَّبعًا للشرع وللحق ولله، ولكنه ليس مخلصًا، فيُردُّ عمله، بل ويحبط.
ومن الممكن أن يكون مُخلصًا لكنه ليس متَّبعًا للهدي، فيُرد عمله ويحبط.
قال: "وإن تكلم لأجل الله -تعالى- مخلصًا له الدين -اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين- كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء الرسل".
طيب، هذا هو الضابط الأول.
أريد أن أستدل باستشهادين في غاية الجمال لشيخ الإسلام، واستشهاد ربما أجزم لجلَّ مَن بين يدي ومَن يُتابع، ربما يستمع هذا الاستشهاد لأول مرة، من كلام عبَّاد بن الخوَّاص في سنن الدارمي في المجلد الأول كلام حين وقفت عليه كأني والله وقفت على كنز من الكنوز، والله كأني وقفت على كنز.
نسمع استشهادًا ثانيا لشيخ الإسلام -رحمه الله- والاستشهاد في كتابه الماتع درء تعارض العقل والنقل، أو في كتابه الماتع درءِ تعارض العقل والنقل؛ لأن الدكتور محمد جالس معنا، فحتى نضبط اللغة العربية، فكلاهما صحيح.
أنا قلت للدكتور محمد: لو وقفت لي على أي خطأ، قل لي، فكلنا تلامذة، لا تظن أننا كلنا مشايخ، نسأل الله أن يعلمنا وإياكم.
انظر ماذا يقول شيخ الإسلام.
يقول في كتابه القيم درء تعارض العقل والنقل -لمن يحب الرجوع إليه؛ لأن هذا الكتاب من أمتع ما قرأتُ عن شيخ الإسلام، المجلد السابع، صفحة 182، الكتاب عشرة مجلدات، من أمتع ما كتب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى- يا الله على عدل هؤلاء الناس! ثم يخرج واحد يتطاول على شيخ الإسلام -رحمه الله!
يقول: "لابد أن تُحرس السنَّة بالحق والصدق والعدل، لا تُحرس بكذب ولا ظلم، فإذا ردَّ الإنسان باطلًا بباطل، وقابل بدعة ببدعة، كان هذا مما ذمه السلف والأئمة".
مرة ثانية: "لابد أن تُحرس السنَّة بالحق والصدق والعدل" لن تُحرس إلا بهذا.
قال: "لابد أن تحرس السنَّة بالحق والصدق والعدل، لا تحرس بكذب ولا بظلم، فإذا ردَّ الإنسان باطلًا بباطل، وبدعة ببدعة، كان هذا مما ذمَّه السلف والأئمة".
اسمع هذا الاستشهاد الثالث: يا الله! سبحان الله! عبَّاد بن الخوَّاص في رسالته لأهل العلم، والكلام هذا موجود لمن أراد الرجوع إليه الليلة في مقدمة سنن الدارمي، المجلد الأول، صفحة رقم 509 في الطبعة الموجودة عندي؛ لأن الطبعات تختلف، المسألة رقم 675.
اسمع ماذا يقول لأهل العلم: "ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّنًا بعيبها، فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم".
ركز معي، أريدك أن تنتبه.
قال: "ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّنًا بعيبها، فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم
يقول: "ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّنًا بعيبها، فإن فساد أهل البدع ليس بزائد في صلاحكم".
يعني لا تتزين بين الناس بأنك من المنافحين عن السنَّة وهذا قصدك، وليس قصدك أن تكون كلمة الله هي العليا؛ لأنك حينئذ لا تَحرس السنَّة بالحقِّ والعدل والصدق، وإنما تَحرسها بالظلم والهوى.
انظر للكلام! قال: "ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّنًا بعيبها، فإن فساد أهل البدع ليس بزائدٍ في صلاحكم، ولا تعيبوها بغيًا على أهلها، فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يُداوي المرضى بما يبرئهم ويمرضه".
سأقوله مرة ثانية، ودعوني أقرها مرة كاملة ونعود إليها مرة أخرى، يقول: "ولا تعيبوا بالبدع تَزَيُّنًا بعيبها، فإن فساد أهل البدع ليس بزائدٍ في صلاحكم، ولا تعيبوها بغيًا على أهلها، فإن البغي من فساد أنفسكم، وليس ينبغي للمطبِّب أن يُداوي المرضى بما يبرئهم ويُمرضه، فإنه إذا مرض اشتغل بمرضه عن مداواتهم، ولكن ينبغي أن يلتمس لنفسه الصحة ليقوى بها على علاج المرضى، فليكن أمركم -وانتبه!- وليكن أمركم فيما تنكرون على إخوانكم نظرًا منكم لأنفسكم، ونصيحة منكم لربكم، وشفقة منكم على إخوانكم، وأن تكونوا مع ذلك بعيوب أنفسكم أعنى منكم بعيوب غيركم".
كلام جميل، كلام علماء ربانيين، وأنا لما أرى أخًا من إخواني على بدعة أو على معصية، أنا لو اقتربت منه بحال الْوَجِلِ الذي يخشى على نفسه، وبحال المشفق على أخيه، وبحال المبغِض للبدعة في ذات الوقت، سأكون مختلفًا في طرحي ونصحي ومعالجتي ونقاشي مع هذا الأخ تمام الاختلاف.
الشباب عندنا في قريتنا المتواضعة كان فيه مولد، وجاءني الشباب وقالوا لي: يا شيخ نحن رتبنا الليلة ترتيبًا جيدًا، لكن أتينا نأخذ منك الفتوى وتأذن لنا.
قلت: خيرًا إن شاء الله.
قالوا: والله نحن جهزنا مجموعات، مجموعة ستكون عند محول الكهرباء تقطع الكهرباء عند الخيمة، وعند كل وتد في الخيمة مجموعة من إخواننا، النور يقطع -هذه الإشارة- نقطع الأحبال ومجموعة ثانية معهم "شوم" ننزل على كل مَن في المولد نكسر رءوسهم ونفض المولد.
قلت: وماذا بعد؟
قالوا: جئنا نأخذ الفتوى نعمل أم لا.
قلت: وماذا بعد؟ المولد سيُقام الأسبوع الذي يليه، وكلكم ستدخلون السجن، ولم ننصر التَّوحيد ولم نبين للناس الحق والسنَّة!
قالوا: ما الحل؟
قلت لهم: الدعـوة بحكمة وأدب ورحمة وتواضع.
وبدأنا بفضل الله -تبارك وتعالى- حتى لما كتبت على المسجد عندي "مجمع أهل السنَّة" قالوا: حتى كاتب اسم أهل السنَّة" يعني من ليس له لحية لا يدخل هذا الجامع!
جئت على الشاب قلت لهم: لو أنتم تعتبرونني فعلًا شيخكم، لو وجدتم أي أب من آبائنا على بدعة لا أحد يكلمه كلمة، لكن يأتيني يقول لي، أنا سأعالجها، وإن شاء الله سأحوله للسنَّة، لكن لا تكلمه.
وجدت -ما شاء الله- الأخ يدخل بجرأة -وهذا أب من آبائنا ونحن صغار- يدخل الأخ بجرأة ويقول له: أنت مبتدع.
يقول له: ماذا تعني؟
يقول له: أنت مبتدع، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
يقول له: أنا في النار؟ يا با ابن الـ...
هؤلاء آباؤنا من ربونا ولكن لم يتعلموا!
فأنا أذهب إليه وأقبِّل رأسه، أرفع عنه الجهل، أعلِّمه بأدب، أعلِّمه بحق، والله العظيم يا إخواني -وأنتم جربتم هذا الكلام كله- يتحول في خمس دقائق إلى رجل من أهل السنَّة، والله لا أبالغ، سبحان الله! أنا صممت أن أذهب مولد السيد البدوي، صممت أذهب بنفسي، قلت لابد أن أصل إلى السند من أعلاه، أرى بعيني، وأسمع بأذني، وإخواننا هناك في مسجد عوَّارة قالوا لي: سنوصلك ولا تخف، فوصلت.
.... (قطع)
فقلت لها: لماذا؟
قالت: أنا آتي له بالنذر منذ خمس سنوات، وإلى الآن لا يريد يعطيني الولد!
هذا كلام خطير، بدعة شركية.
وسبحان الله! أنا عارف أنها جاهلة مسكينة ولا تعرف شيئًا، والله يا إخواننا أقسم بالله في دقيقتين اثنين: قالت: أعوذ بالله، أستغفر الله، والله لا أقصد هذا، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، يا رب ارزقني.
في دقيقتين تَحوَّلت، تغيَّرت، ولهذا دعونا نتحرك نعلِّم الناس بأدب وحكمة ورحمة وتواضع، ونرفع عنهم الجهل، بدلا من أن نصدر عليهم الأحكام ونحن في مساجدنا ومجالس علمنا وبيوتنا، إصدارنا للأحكام على غيرنا بدون أن نعلمهم الحق لن نغيِّر به الواقع على الإطلاق، لكن نتحرك برحمة يا إخوانا.
والله العظيم نحن لا نتعامل مع ملائكة بررة، ولا مع شياطين مردة، ولا مع أحجار صلدة، بل نتعامل مع نفوس بشرية فيها الحلال والحرام، فيها الخير والشر، فيها الإقبال والإحجام، فيها الطاعة والمعصية، فيها الفجور والتقوى.
والله ما وجدت -يا أبنائي ويا أحبابي- أعظم من الحلم، وأعظم من الرفق، وأعظم من الحكمة، وأعظم من الرَّحمة، وأعظم من الدعوة بالكلمة الرقراقة الرقية المهذبة الجميلة، ما أيسر الخشونة والفظاظة، وما أيسر التشدد، التشدد يجيده أي أحد، لكن ما أروع أن تتحرك بين والديك وأسرتك وإخوانك وأصدقائك وأحبابك، وبين شبابنا الآن الذي ابتعد كثيرًا عن هذا الحق بهذه الضوابط التي ذكرتها في الضابط الأول فقط من ضوابط هجر المبتدع.
ستسمعون كلامًا عجيبًا نحن على موعد غدًا -إن شاء الله- مع الضابط الثاني من ضوابط هجر المبتدع، وهو: هَجْرُ الْمُظْهِرِيْنَ للبدعِ الداعينَ إليها.
وسأدلل على هذا الضابط بكثير من أقوال أئمتنا وسادتنا.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم الحكمة والرَّحمة والأدب والتَّواضع، وأن يرزقنا وإيَّاكم الاتباع، وأن يكفينا وإيَّاكم شرَّ الابتداع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61