شرح متن أصول السنة
لفضيلة الشيخ محمد حسان
الدرس (3)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه نستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب70، 71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله -تعالى-، وخير الهدي هدي نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
حيَّاكم الله جميعًا -أيها الإخوة الفضلاء وأيتها الأخوات الفاضلات- وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنة منزلًا.
وأسأل الله الكريم -جل وعلا- الذي جمعنا في البيت الطيب على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدعاة وإمام النبيين في جنته ودار مقامته، إنَّه ولي ذلك ومولاه.
أحبتي في الله، هذا هو لقاؤنا الثالث من لقاءات شرح أصول السنة للإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.
ونحن الليلة -إن شاء الله تعالى- مع الأصل الأول من أصول السنة، ولن يتسع الوقت أبدًا في عشر محاضرات لشرح أصول السنة، فأنا لا أحب هذا الشرح المجمل، وإنما أحب أن أقف مع كلمات الإمام بتأنٍّ لنستخرج منها الفوائد والجواهر واللآلئ والدرر، فما أحوجنا الآن إلى كل جملة؛ بل إلى كل لفظةٍ من ألفاظ إمام أهل السنة في عصر الفتن والبدع والمحن -أسأل الله أن يجنبنا وإياكم الفتن والبدع، وأن يرزقنا وإياكم الاتباع، فإنه ولي ذلك والقادر عليه.
يقول الإمام -وأرجو أن تحفظوا الأصول، وإذا وقفنا كل ليلة مع أصل أو أصلين في بعض الأصول؛ فأظن -إن شاء الله تعالى- أن الحفظ حينئذ سيكون سهلًا وميسورًا.
قال الإمام -رحمه الله تعالى: (أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم)، هذا هو الأصل الأول.
أكرره مرتين:
(أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم)، هل انتهيتم من كتابة هذا الأصل؟
(التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم).
تعالوا بنا -كعادتي- لنؤصل للمسألة تأصيلًا لغويًّا وشرعيًّا.
فما معنى "الصَّحابة" لغة واصطلاحًا؟ وما هي مكانة الصَّحابة؟ وما واجبنا تجاه الصَّحابة؟
هذه أصول في غاية الأهمية، ونحتاج إليها الليلة، وأرجو أن تتدبروا كل لفظة.
صحب، يصحب، صحبة، وصحابة: أي عاشره، من العِشْرة.
والصحْبُ: جمع الصَّاحب.
والأصحاب: جماعة الصَّحب.
والصَّاحب: المعاشِر.
والجمع: أصحاب.
والصحبة: مصدر، صحب، يصحب، صبحة.
والصَّحابة: مصدر قولك: صاحبك الله، وأحسن صَحَابَتَكَ.
والصاحب: الملازم الذي كثرت ملازمته، ومنه قول الله -تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ﴾ [التوبة: 40].
الصاحب: الملازم الذي كثرت ملازمته، ومنه قول الله -تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ﴾ أي الذي لازمه في سفر الهجرة ﴿لَا تَحْزَنْ﴾.
ومنه قوله -تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بمَجْنُونٍ﴾ [التكوير: 22].
وقد سمَّاه الله -جل وعلا- صاحبهم تنبيهًا لهم على أنهم صحبوه وعرفوه، وعرفوا ظاهره وباطنه من خلال خُلُقِهِ، فما وجدوا به خبلًا، وما وجدوا به جنونًا.
هذا هو التأصيل اللغوي لمعنى الصَّحابة.
أما التأصيل الاصطلاحي -كما قال الحافظ ابن حجر وغيره-، قال: الصحابي: "هو كل من لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآمن به ومات على الإسلام".
فاللقاء وحده لا يكفي، فهناك من لقي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومات مشركًا، ولم يؤمن به -عليه الصلاة والسلام.
شرط اللقيا هو أول شروط الصحبة.
الصَّحابي: هو من لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآمن به.
لابد من شرط الإيمان بالله ورسوله، لكن هذان الشرطان وحدهما لا يكفيان، فهناك من لقي النبي ولم يؤمن به، وهناك من لقي النبي وآمن به ثم ارتدَّ، فلا يُعد صحابيًّا.
لابد إذن من الشرط الثالث وهو: الموت على الإسلام، على دين النبي -عليه الصلاة والسلام.
إذن؛ الصَّحابي -احفظ مني: هو من لقي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وآمن به ومات على الإسلام.
أول أصل من أصول السنة: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والاقتداء بهم.
أرجو أن أُأَصِّلَ لكم في هذه المحاضرة المهمة جدًّا الآن أصلًا أنا أراه في غاية الخطورة والجلال، تعمدت أن أبدأ به اللقاء بعد التأصيل اللغوي والاصطلاحي لمعنى الصَّحابة، أرجو أن تحفظوه، وأن تنقلوه لإخوانكم من المسلمين في كل مكان، ألا وهو: ليس من حق أي أحد أن يتكلم عن أصحاب رسول الله.
يعني الحديث عن الصَّحابة ليس حق أي أحد.
الحديث عن الصَّحابة له شروط؟ نعم، هذا ما أريد أن أأصله الليلة.
ليس من حق أي رجل زائغ العقيدة، مشوَّش الفكر، مريض القلب؛ أن يتكلم عن الصَّحابة. هذا ما أريد أن أأصله الليلة، وأرجو أن تنتبهوا له.
ليس من حقِّ أي أحد مريض القلب، زائغ العقيدة، مشوَّش الفكر؛ أن يتكلم عن الصَّحابة. فالحديث عن الصَّحابة يتطلب صفاءً في النية، يتطلب صفاءً في العقيدة، وإخلاصًا في النية، وأمانة في النَّقل، ودقَّة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذَّابين والوضَّاعين.
أكرر -هذا كلام في غاية الأهمية: ليس من حقِّ أي أحد مريض القلب، زائغ العقيدة، مشوَّش الفكر؛ أن يتكلَّم عن صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالحديث عن الصَّحابة يتطلب صفاءً في العقيدة، وإخلاصًا في النية، وأمانة في النقل، ودقَّة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذَّابين والوضَّاعين.
هذا أصل مهم جدًّا؛ لأن كثيراً من الناس يتكلمون عن الصَّحابة بلا هذه الضوابط، قد يكون مخلص النية، لكن ليس سليم العقيدة، لا يعرف مكانة الصَّحابة ولا يعرف عدالة الصَّحابة ، قد يكون مخلص النية سليم العقيدة، لكن ليس دقيقًا في النَّقل، وليس عميقًا في الفهم، ليس من علماء الحديث مثلًا ليقف على صحة الروايات التي تتحدَّث عن أخطر حِقبة من حِقَب التاريخ بعد موت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وحتى قُتِل علي -رضي الله عنه- بعد ذلك، فلا يستطيع أن يُمحِّص الروايات، ولا يستطيع أن يحقق الروايات سندًا ولا متنًا، ويكتفي بمجرد وجود الرواية عند أئمة أهل السنة ممن أرَّخوا، وينقل الرواية ويبني عليها أحكامًا دون أن يحقق صحة الرواية سندًا ومتنًا؛ لأن التاريخ الإسلامي لم يُدوَّن إلا بعد انتهاء دولة بني أمية، وبدأ تدوينه في تاريخ أمراء بني العباس، وقام على تدوين التاريخ في أخطر حِقَبِهِ ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: طائفة المنتفعين الذين يأكلون بأقلامهم، وهؤلاء زوَّروا تاريخ بني أمية كله أو جُلَّهُ لصالح أمراء بني العباس من أجل أن يتقربوا إليهم، فنقلوا روايات تسيء لهذه الحِقبة.
والطائفة الثانية انقسمت إلى فرقتين:
• فرقة الخوارج.
• وفرقة الروافض.
كل طائفة أو كل فرق من الفرقتين لها روايات، فالخوارج لهم روايات تقدح في علي -رضي الله عنه- وتنال منه، والروافض لهم روايات تُؤَلِّهُ عليًّا -رضي الله عنه- وتنال أيضًا منه.
وأنا أعجب لسؤال طالب من طلابنا أرسله لي بالأمس يقول لي: سمعنا أنك تقول بأن الخلاف بين أهل السنة وبين الروافض خلاف في الفروع.
أنا ما قلت ذلك في حياتي قط، أعجب لقوله "سمعنا"، لِمَ لم تسمعني أنت قبل أن تسألني؟! ولي كتب مكتوبة، ولي أشرطة مسجَّلة حلقات مصوَّرة، الخلاف بين أهل السنة والروافض خلاف في الأصول، وقلت ذلك من عشرات السنين، وبيَّنت ذلك بالتفصيل، وقد كتبت كتابًا أرجو أن تقرؤوه -لا أقول ذلك على سبيل الترويج للكتاب، فهو ليس من حقي، وقد بعته منذ أمد- وهو كتاب "الفتنة بين الصَّحابة قراءة جديدة لاستخراج الحق من بين ركام الباطل".
وقد كتبت فيه كلامًا عن الشيعة وبيَّنت الخلاف بين أهل السنة وبين الروافض، ثم توسَّعت جدًّا في ذكر هذه الأصول في كتابي الذي طُبِعَ في سبعة مجلدات، وهو كتاب "جبريل يسأل والنبي يجيب"، والكتاب أيضًا ليس لي، فليس هذا من باب الإعلان عن الكتاب للتجارة -نسأل الله أن يرزقنا صدق النية- وقد بيَّنت فيه الخلاف الكبير بين أهل السنة والروافض في الأصل، وبيَّنت ذلك بالتفصيل فيما يقرب من ربع مجلد تقريبًا.
فأرجو من أبنائنا أن يتعلموا هذا المنهج، سمعنا؟ لا، كلِّف خاطرك أنت واسمع لي، وكلِّف خاطرك واقرأ لي، ثم بعد ذلك إن استشكل عليك شيء فاسأل، لكن لا تكتفي بأن تقول: سمعنا أنك قلت، وسمعنا أنك فعلت.
أسأل الله أن يرزقنا الدِّقة والصِّدق والإخلاص، هذا منهج أرجو أن يتبناه طلاب العلم لا سيما في زمن انتشرت فيه الفتن، ونسأل الله أن يجنبنا وإياكم الفتن ما ظهر منها وما بطن.
الشاهد -يا إخواني لأن الموضوع جليل وطويل: أأصل مرة ثالثة:
الحديث عن الصَّحابة -رضي الله عنهم- كتب فيه الخوارج روايات أساءوا فيها إلى علي -رضي الله عنه- ولكثير من الصَّحابة.
والروافض كتبوا فيها -أي في شأن الصَّحابة- كثيرًا من الروايات أساءوا فيها لجل الصَّحابة.
أما الطائفة الثالثة: فيه طائفة أهل السنة، كالحافظ ابن كثير، والحافظ ابن عساكر، والإمام ابن جرير، وغيرهم.
وهؤلاء -يا إخواني- نقلوا الروايات كلها، ووضعوها في أسفارهم وكتبهم بسندها ومتنها دون أن يحققوا الروايات لظروف عاشوها، من قرأ التاريخ عرف أسباب ذلك، لكن لأمانتهم العلمية نقلوا الروايات كاملة بالسند والمتن حتى يأتي بعد ذلك من يريد أن يستدل بهذه الروايات ليحققها ليقف على صحة الرواية من خلال دراسة السن والمتن معًا.
فجاء فريق من المؤرخين والكتَّاب والمفكرين والأدباء ونقلوا هذه الروايات دون أن يحققوها سندًا ومتنًا، واكتفوا بأن الروايات موجودة في كتب أهل السنة -كأسماء مَن ذكرت- فزلُّوا زللًا كبيرًا، كالشيخ سيد قطب في كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام، كالأستاذ خالد محمد خالد، كالأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، وغيرهم، وغيرهم، وغيرهم؛ نزلوا إلى هذا الميدان وإلى هذه البحور الهائجة ونقلوا الروايات دون أن يصححوا الرواية سندًا ومتنًا، كما في رواية قصة التحكيم مثلًا وقد ذكر فيها كلامًا خطيرًا لا يليق أبدًا بآحاد المؤمنين؛ فكيف يليق بأصحاب سيد النبيين؟!
وقد بينتُ ذلك وفندتُّ ذلك تفنيدًا واضحًا، وحققت الروايات سندًا ومتنًا، وأذكر أنني في هذه الفتنة التي أردت أن أتحدث فيها في دروس جامع التَّوحيد بالمنصورة، أذكر أنني قبل أن أتحدث فيها ظللت عامًا كاملًا أحقق الروايات، وأقف على سند كل رواية وصحة متنها قبل أن أشرع في الحديث عن هذه الفتنة التي زلَّت فيها أقدام، وضلَّت فيها عقول وأقلام وأفهام، نسأل الله أن يرزقنا الصدق وحسن الاستسلام والأدب مع أصحاب سيد الأنام، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أكرر للمرة الثالثة: الحديث عن الصَّحابة يتطلب صفاءً في العقيدة، وإخلاصًا في النية، وأمانة في النقل، ودقة في الفهم، ونظرة فاحصة مدققة لأراجيف المغرضين والكذِّابين والوضَّاعين.
لو أنك حققت هذه الشروط؛ أهلًا وسهلًا، تعالَ وتكلم عن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلا فأمسك القلم، بل اكسر القلم وحطم القلم، وأمسك عليك لسانك، وإياك أن تنال من أصحاب رسول الله الذين حطوا رحالهم في الجنة، فمن أنت ومن أنا لننال من أشرف وأطهر الخلق بعد الرسل والأنبياء؟!
فلقد نظر الله في قلوب العباد -والأثر رواه أحمد مسنده بسند صحيح من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- موقوفًا عليه- «إن الله -تعالى- نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لرسالته ولنبوته، ونظر في قلوب العباد بعد قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه».
وقال أيضًا عبد الله بن مسعود كما في الحلية لأبي نعيم بسند صحيح، قال: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
أكرر هذا الأثر الجميل: "من كان مستنًّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلفًا، اختارهم الله لصحبة نبيه، ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم".
أنا أقول: إذا كان كل تلميذ في العادة يقتبس من أستاذه أم لا؟ يقينًا، كل تلميذ في العادة يقتبس من أستاذه؛ فكيف يكون اقتباس الصَّحابة إذا كان الأستاذ والمربي رسول الله؟!
هذه كلمات مهمة -يا إخواننا- ليس لمجرد دغدغة المشاعر والعواطف والاستحسان، أبدًا.
والحقيقة أنا أحب أن أدمج المادة العلمية بالطرح الدعوي حتى لا تكون المادة جافة لا تؤثر في قلب طالب العلم، فما يعنيني أن يرزقنا الله الخشية منه من خلال هذه المحاضرات والدروس، ليس مجرد أن تقول: أنا أنهيت كتاب شرح أصول السنة على يد محمد حسان، وشرح كذا على يد...، وانتهى، لا، أنت ما الذي استفدت؟ ما الذي أثر فيك؟ هل ورَّثك هذا العلم خشية الله؟ هل ورَّثك الأدب ؟ هل ورَّثك الخُلُق؟ هل ورَّثك حب قيام الليل؟ هل ورَّثك عذوبة اللفظ وعفة اللسان وعفة المأكل والمطعم والمشرب؟
نعم هذه الغاية، فطلب العلم ليس غاية أبدًا، طلب العلم ليس غاية؛ إنما هو وسيلة لأشرف غاية؛ أن تعرف ربك -جل وعلا- ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، أن تخشاه، تعرفه، وتتقيه -سبحانه وتعالى.
اللهم ارزقنا خشيتك في السر والعلانية.
وإذا كان كل منهج يترك طابعه على من يتتلمذون عليه ويتعلمونه، فكيف يكون الطابع للمنهج الذي تربى عليه الصَّحابة وهو القرآن والسنة؟
لذا -يا إخواني- أقول بملء فمي أعلى صوتي للدنيا كلها: كل الصَّحابة عدول حتى تتمسك بكل ما ثبت عنهم، وتقتدي بكل صحابي منهم، وهذا أول أصول السنة، فكلهم عدول، وعدالة الصَّحابة ثابتة بالقرآن والسنة، وأقوال علمائنا من سلف الأمة.
يقول الخطيب البغدادي في كتابه الماتع "الكفاية في علم الرواية"، يقول: "إن عدالة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم بنص القرآن".
أقول ثانيًا -وانتبهوا لكلام الأئمة والعلماء: "إن عدالة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابتة معلومة بتعديل الله لهم وإخباره عن طهارتهم، واختياره لهم بنص القرآن".
أقول ثالثًا: إن عدالة أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ثابتة معلومة بإخبار الله عن طهارتهم، واختياره لهم بنص القرآن.
الأدلة على ذلك كثيرة جدًّا، فهم المخاطبون أولًا بقوله -تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110].
مَن الذي خُوْطِبَ بهذه الآية ابتداءً؟
الصَّحابة، حين قال الله -تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ﴾ [آل عمران: 110]، فمن المراد بهؤلاء؟ هم أصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام- ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110].
وقال -جل وعلا: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، وهم مخاطبون ابتداءً بهذه الآية.
والوسط كم في حديث أبي سعيد الخدري في صحيح البخاري وغيره: العدل، «الوسط العدل» كما قال -عليه الصلاة والسلام.
قال -تعالى: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران172-174].
قال -تعالى- في شأنهم -وهذه الآية هي العُمدة، وهي من أعظم الأدلة في التمسك بما كان عليه الصَّحابة والاقتداء بهم- قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: 115]، من المراد بالمؤمنين في هذه الآية؟
بإجماع ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115] آية صريحة واضحة في وجوب اتباع الصَّحابة، والتَّمسك بهديهم والتخلق بأخلاقهم، الاقتداء بهم.
قال -تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: 74] هؤلاء هم من؟ المهاجرون.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ [الأنفال: 74] هؤلاء من؟ الأنصار -رضي الله عنهم.
انظر إلى شهادة العزيز الغفار في حق هؤلاء من المهاجرين والأنصار.
﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال: 74]، يا إلهي!
يطلع سفيه بعد ذلك يشكك في هؤلاء وينال من قدر هؤلاء الذين يشهد لهم بالإيمان الحق رب السماء؟!
﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [الأنفال: 74].
وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم﴾ [التوبة: 100]، لكن بشرط. بماذا؟ ﴿بإِحْسَانٍ﴾.
اللهم اجعلنا ممن اتبعهم بإحسان.
﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100]، الله أكبر.
آيات والله -يا إخواني- تحرك الجبال، لا أقول القلوب، إلا إذا كانت القلوب الآن أقسى من الجبال والحجارة.
حين يتطاول الآن سفيه على هؤلاء الأطهار الذين يزكيهم العزيز الغفار ويعدلهم ويزكيهم ويعدلهم نبينا المختار -كما سأبين الآن في السنة الصحيحة.
لكن على أي حال أنا قلت قبل ذلك من سنوات طويلة، قلت: مثل من يتطاول الآن على أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ويسبهم وينال منهم؛ كمثل ذبابة سقطت على نخلة تمر عملاقة، فلما أرادت الذبابة أن تطير قالت لنخلة التمر: تماسكي أيتها النخلة لأني راحلة عنكِ.
فقالت لها نخلة التمر العملاقة: انصرفي أيتها الذبابة الحقيرة، فهل شعرت بكِ حين سقطتِّ عليَّ لأستعد لكِ وأنتِ راحلة عني؟!
لا يضر السماء أن تمتدَّ إليها يد شلَّاء -لا داعي للمثل الآخر، نسأل الله أن يرزقنا عفَّة الألسن- لا يضر السماء أن تمتدَّ إليها يد شلَّاء.
فالصَّحابة قِمم ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: 100].
قال -تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4]، وهذا من أعظم الأدلة التي نستبدلها على أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، هذا معتقدنا، معتقد أهل السنة والجماعة.
قال الإمام البخاري: "لقيت أكثر من ألف رجل من علماء الأمصار كلهم متفقون على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص".
الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
اقرأ الآية: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الفتح: 4]، من المراد بالمؤمنين هنا؟ الصَّحابة في بيعة الرضوان.
﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].
وقال -عزَّ وجلَّ- في حقهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10].
وأختم بهذه الآية وإلا فالآيات كثيرة جدًّا، وهي من أجمل الآيات وأرقها: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَينصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]. الآية الأولى: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾ [الأنفال:74 ]، وهذه شهادة ممن؟ من الله.
الآية الثانية: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]، يا إلهي! ماذا تريدون بعد ذلك؟!
فيقول: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا﴾، الله -جل وعلا- يقول: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8]، ماذا يريد أولئك بعد ذلك؟!
كيف يجرؤ بعد ذلك عاقل أن ينال من هؤلاء الأخيار ؟ أو أن يتطاول على هؤلاء الأبرار.
﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَينصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ ولَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الحشر 8، 9]، هؤلاء هم الأنصار، وهؤلاء هم المهاجرون، ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن قال الله فيهم بعد ذلك: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ولَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
طيب، ندخل على السنَّة، على هذه الرحاب الطاهرة لنرى كيف زكَّى وعدَّل رسول الله أصحابه -رضي الله عنهم.
روى الإمام البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «خير الناس قرني».
اللفظ الصحيح: «خير الناس»، وليس "خير القرون".
قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، تزكية للقرون الخيرية الثلاثة الأولى -قرن الصَّحابة، وقرن التابعين، وقرن أتباع التابعين.
قال: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم -من الأتباع- ثم الذين يلونهم -من أتباع الأتباع».
مَن الذي يشهد لهم بالخيرية هنا؟ الصادق الذي لا ينطق عن الهوى.
مَن هم شهداء الله في الأرض؟ الصَّحابة شهداء الله في الأرض، كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس، قال: مرُّوا بجنازة على النبي -صلى الله عليه وسلم- فأثنوا عليها خيرًا، فقال -عليه الصلاة والسلام: «وجبت».
ثم مروا بجنازة أخرى فأثنوا عليها شرًّا فقال -عليه الصلاة والسلام: «وجبت».
فقال -رضي الله عنه: يا رسول الله، ما وجبت؟
قال: «الأولى أثنيتم عليها خيرًا فوجبت لها الجنة، والثانية أثنيتم عليها شرًّا فوجبت لها النار، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض».
أي تعديل هذا وأي تزكية!
بل من جميل الأدلة التي ذكرتها في أول محاضرة وأنا أتكلم عن فضل العلم وأهل، قوله -تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 18]، المراد بـ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾ ابتداءً في الآية: الصحابة.
يقول ابن القيم في تعليقه القيم على الآية: "إن أول من شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنَّى بملائكته، ثم ثلَّث بأهل العلم، وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإن الله -جل وعلا- لا يستشهد بمجروح". بالله عليك تنبه لهذا الدليل.
هذه هي العدالة في أعلى درجاتها؛ لأنه لا يمكن أبدًا أن يستشهد على هذه الشهادة العظيمة بالمجروحين، وهذا تعديل من رب العالمين لأصحاب النبي -عليه الصلاة والسلام.
بل الصَّحابة أَمَنَةٌ للأمة -انتبه معي ولا تلتفت يا طالب العلم، نسأل الله شرَّ الفتن، ركِّز ولا تنشغل- روى الإمام مسلم من حديث أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نظر يومًا في السماء فقال -بأبي وأمي وقلبي روحي: «النجوم أَمَنَةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي» -صلى الله عليه وسلم- بل ورب الكعبة هو أمان لأهل الأرض، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33].
يقول: «وأنا أَمَنَةٌ لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أَمَنَةٌ لأمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعدون». انظروا إلى مكانة الصَّحابة وإلى فضل الصَّحابة.
قال:«وأصحابي أَمَنَةٌ لأمَّتي»، فالصَّحابة أمان للأمة.
قال:«فإذا ذهب أصحابي أتى أمَّتي ما يوعدون»، بل أنا أؤكد لكم أن مَن أغضب الصَّحابة فقد أغضب الله.
يا شيخ لا داعي للمبالغات هذه!
أبدًا، ما في كلمة بدون دليل، من أغضب أصحاب النبي فقد أغضب الرب العلي، كلام أودُّ أن يستمع إليه كل عاقل، أن يسمع إليه أهل السنة والروافض وغيرهما، من أغضب أصحاب النبي فقد أغضب الله.
هات دليلك.
خذ الدليل: ما رواه الإمام مسلم وغيره من حديث أبي هبيرة عائذ بن عمرو المزني -رضي الله عنه- وهو من أصحاب رسول الله ومن أصحاب بيعة الرضوان، يعني ممن أنزل الله عليهم السكينة -رضي الله عنهم جميعًا- يقول: "مرَّ أبو سفيان على نفر من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيهم بلال وصُهيب وَسَلْمَان" هؤلاء فقراء الصَّحابة، وأبو سفيان سيد من سادات قريش.
فلما مرَّ عليهم قال الصَّحابة: "واللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا".
أبو بكر جالس -رضي الله عنه- فالتفت إليهم غاضبًا وقال: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيِّدهم؟!
قال الصَّحابة: "واللَّهِ مَا أَخَذَتْ سُيُوفُ اللَّهِ مِنْ عَدُوِّ اللَّهِ مَأْخَذَهَا".
فقال الصديق: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيِّدهم؟!
ثم قام، ترك مجلسهم وذهب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخبره بما قالوا، وأخبره بما قال، اسمع ماذا قال -عليه الصلاة والسلام- ولمَن؟ لأبي بكر -رضي الله عنه.
التفت إليه النبي وقال: «لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُم».
بلغة المصريين "إوعى تكون زعلت الناس دي".
قال: « لَعَلَّكَ أَغْضَبْتَهُم، فَلَئِنْ كُنْتَ أَغْضَبْتَهُمْ فَقَدْ أَغْضَبْتَ رَبَّكَ عزَّ وجلَّ».
فعاد أبو بكر -رضي الله عنه- إليهم يقول: إخوتاه إخوتاه، أو غضبتم مني؟
قالوا: لا، يغفر الله لك يا أُخَيَّ.
كلمة "أُخَيَّ" فيها تقريب وجمال ورقة وود وعطف وحب.
قالوا: لا، يغفر الله لك يا أَخَيَّ.
بل والله لو أنفق أحدنا مثل جبل أحد ذهبًا ما بلغ ولن يبلغ أبدًا مُدَّ واحد منهم ولا نَصِيْفَهُ، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيْفَهُ»، الصُّحبة مكانة عظيمة، وكرامة كبيرة.
يا أخي أنت لو منَّ الله عليك بصحبة عالم من علمائنا الكبار الأجلاء تظل طوال عمرك تقول: أنا صحبت العالم الفلاني، وتتلمذت على يد الشيخ الفلاني، فكيف لو صحبت الحبيب النبي -صلى الله عليه وسلم؟ كرامة من أعظم الكرامات، ونعمة من أجلِّ النِّعم.
لذا كل من يتطاول على الصَّحابة حتى ولو ادَّعى أنه يحب عليَّا -رضي الله عنه- فقد أساء لعلي وللحبيب النبي، وأود أن أعلن للدنيا أننا نحب عليًّا، ونحب آل البيت الطيبين الطاهرين، والله لا يحب آل البيت أحد كحب أهل السنة لهم، فآل البيت نتقرب إلى الله بحبهم، وأصحاب النبي نتقرب إلى النبي بحبهم، ونتقرب إلى الله بحب علي؛ بل نعلن للدنيا كلها ونقول: علي مولانا، علي مولى أهل السنة؛ لأن نبينا علمنا وقال: «من كنت مولاه فعليٌّ موالاه»، ورسول الله مولانا، فعليٌّ مولانا.
بل ونثبت لعليٍّ ما أثبته له رسولنا، ولا يمنعنا غلو الروافض في عليٍّ أن نثبت له ما أثبته له الحبيب النبي.
احفظوا مني هذا: لا يمنعنا غلو الروافض في عليٍّ أن نثبت له ما أثبته له الحبيب النبي، لقد قال له -صلى الله عليه وسلم: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟»، لقد قال له -صلى الله عليه وسلم: «لأعطين الراية غدًا -في خيبر- رجلًا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله»، فأعطاها عليًّا، فنحبُّ عليًّا، والله العظيم نتقرب إلى الله بحب عليّ.
اسمع ماذا قال علي -وهذا أثر ربما تستمعون إليه لأول مرة- قال علي -رضي الله عنه: "سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، آية ذلك-يعني علامة ذلك- أنهم يسبُّون أبا بكر وعمر" الله!
نحن نرد بأدب-وأسأل الله ألا يحرمني وإياكم أبدًا من نعمة الأدب- أنا لا أحب التطاول على أحد، ولا أحب الإساءة لأحد، بل أحب أن أبيِّن الحق بأدب لعلَّ الله أن يفتح القلوب لهذا الحق.
وانتبه لما الأثر يأتيك من عليٍّ له معنى، قال: "سيكون بعدنا قوم ينتحلون مودتنا، يكذبون علينا، آية ذلك أنهم يسبُّون أبا بكر وعمر". مخذول ورب الكعبة من يسب الصديق الذي حطَّ رحاله في الجنة، مخذول ورب الكعبة من يسب الفاروق عمر الذي حطَّ رحاله في الجنة.
يا إلهي! ألا يكفي هؤلاء فخرًا وشرفًا وعزًّا أنهما الآن إلى جوار نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الروضة المحفوفة بالأنوار؟
يتطاول عليهما بعد ذلك من يتطاول؟! ويتقرب إلى الشيطان بسبهما ولعنهما؟!
لذا؛ لما سألوا الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة عن قول الله -تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: 29].
فقال مالك: "من وجد في قلبه غيظًا على أحد من أصحاب رسول الله فقد أصابته هذه الآية".
وقال أبو حاتم: "قول النبي في حجة الوداع «فليبلغ الشاهد منكم الغائب»، قول النبي هذا شهادة على أن كل الصَّحابة عدول، وإلا لو كان منهم من ليس عدلًا؛ لقال النبي: فليبلغ فلان وفلان وفلان -أي ممن حضروا معي حجة الوداع- الغائبين ممن لم يحضروا، وإنما أطلقها فقال: «فليبلغ الشاهد منكم الغائب»".
إذن كلهم عدول، بدليل أن النبي كلفهم بالبلاغ عنه ولم يستثنِ منهم أحدًا. هذا من أرق الأدلة.
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته الجميلة، وأسأل الله أن يوفقني لأشرحها لكم مرة أخرى في هذا الجمع المبارك في درس أسبوعي -بإذن الله- وأذكر أنني كنت درَّست الطحاوية مرتين، درَّست الطحاوية المرة الأولى في القصيم في جامع الراجحي، وكان يحضر لي بعض أحبابنا من طلاب الشريعة وأصول الدين في جامعة الإمام محمد بن سعود، ودرَّست الطحاوية مرة ثانية في جامع التَّوحيد في المنصورة، والأشرطة مُسَجَّلَة، لكن أرجو أن أعيد شرحها مرة ثالثة -إن شاء الله تعالى- وأسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفهم والعلم والعمل.
يقول الطحاوي -رحمه الله- في فضل الصَّحابة ومعتقد أهل السنة فيهم، فيقول كلامًا جميلًا جدًّا، يقول:"ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرِّط في حب أحد منهم" الله!
يقول: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرِّط في حب أحد منهم، ونبغض مَن يبغضهم وبغير الخير يذكرهم".
اللهم إنا نشهدك على ذلك: أننا نحب رسول الله، ونحب أصحاب رسول الله، ولا نبغض أحدًا منهم. ونبغض من يبغض رسول الله، ومن يبغض أصحابه، وبغير الخير يذكرهم.
اسمع ماذا يقول: "ولا نذكرهم إلا بخير، فحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
أقول ثانية: "ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نُفَرِّطُ في حب أحدٍ منهم، ونبغض مَن يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، فحبهم دين وإيمان وإحسان وبغضهم كفر ونفاق وطغيان".
أختم بقولة الحافظ الكبير أبي زرعة -رحمه الله تعالى- يقول: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فاعلم بأنه زنديق، ذلك أن الرسول حق، وأن القرآن حق، وأن ما جاء به من عند الله حق، والذي نقل إلينا ذلك كله هم الصَّحابة، وهؤلاء يريدون أن يهدموا الصَّحابة ليبطلوا القرآن والسنة".
عرفتم العلة؟ أنا متعمد أن أختم بهذه حتى تعرف السبب.
أقول ثانية الكلام الغالي هذا: قال الحافظ الكبير أبي زرعة -رحمه الله: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فاعلم بأنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وأن ما جاء به من عند الله حق، والذي نقل إلينا ذلك كلَّه هم الصَّحابة، فهؤلاء يريدون أن يهدموا الصَّحابة ليبطلوا القرآن والسنة". فالموضوع خطير.
أقوله مرة ثالثة: "إذا رأيت الرجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ؛ فاعلم بأنه زنديق، وذلك أن الرسول حق، والقرآن حق، وأن ما جاء به من عند الله حق، والذي نقل إلينا ذلك كلَّه هم الصَّحابة، وهؤلاء يريدون أن يهدموا الصَّحابة ليبطلوا القرآن والسنة". لأنك إن شككت فيَّ حتمًا تشكك فيما أنقله للناس من علم، فهؤلاء الخبثاء الذين يريدون أن يهدموا ويحطموا الرموز. لماذا؟ لأن الرموز هي التي تنقل عن الله وعن رسول الله من الصَّحابة والعلماء بعد ذلك، وحرب إسقاط الرموز حرب قديمة، وستظل إلى قيام الساعة، قال -تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِّنَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الفرقان: 31].
إذن واجبنا نحو الصَّحابة:
-التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
- والاقتداء بهم -رضوان الله عليهم.
- وحبهم.
- والإمساك عما شجر بينهم في الفتنة.
ونردد قول ربنا -جل وعلا: ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ولَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [الحشر: 10].
أعطوا ضريبتهم للدين من محنٍ
والناس تزعم نصر الدين مجاناً
أعطوا ضريبتهم صبرًا على محنٍ
صاغت بلالًا وعمارًا وَسَلْمَانًا
عاشوا على الحب أفواهًا وأفئدة
باتوا على البؤس والنعماء إخوانًا
الليل يعرفهم يبكون في وجلٍ
والحرب تعرفهم في الخَطْبِ فرسانًا
الله يعرفهم أنصار دعوته
والناس تعرفهم للخير أعوانًا
أصول السنة عندنا: التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والاقتداء بهم.
والأصل الثاني غدًا، وترك البدع، فكل بدعة ضلالة.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقني وإياكم حبَّ رسوله وحبَّ أصحابه، أن يرزقني وإياكم التَّمسك بما كانوا عليه والتَّخلق بأخلاقهم، والإمساك عما شَجَرَ بينهم.
وسامحوني لا أستطيع أن أجيب على الأسئلة التي تطرح عليَّ؛ لأن البرنامج كله منقول على الهواء، وكل هذه الصور منقولة على الهواء، فلا يتسع الوقت لذكر الإجابات، حتى نمنح الوقت الكافي أيضًا لأخينا الحبيب الشيخ راشد الزهراني بعد صلاة العشاء مباشرة.
وإن شاء الله -تعالى- إذا يسَّر الله بعد انتهاء هذه الدورة ممكن أجلس مع بعض طلاب العلم جلسة خاصة ممن طُرحت أسئلتهم وتكون جلسة بيننا للاستفاضة في الإجابة على ما استفسرتم عنه، وسأحاول جاهدًا أن أجيب على بعض الأسئلة في ثنايا شروحي، وأنا مستفيد بتلقي الأسئلة إن استطعت أن أعالج كما عالجت اليوم سؤالًا مهمًا؛ سأفعل -إن شاء الله- كلما يسر الله ذلك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61