شرح متن أصول السنة
لفضيلة الشيخ محمد حسان
الدرس «1»
بسم الله الرحمن الرحيم،
حيَّاكم الله وبَيَّاكم، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم، وتبوَّأتم جميعًا من الجنة منزلًا، وأسأل الله -جل وعلا- الذي جمعنا في هذا البيت الطيب على طاعته أن يجمعنا في الآخرة مع سيد الدُّعاة، وإمام النَّبيين في جنته ودار مقامته، إنَّه ولي ذلك ومولاه.
يُسعدني أن أبدأ معكم -أيُّها الأحبة- هنا في مصر، وفي بلد الحرمين، وفي كلِّ مكانٍ من العالم الإسلامي ممن يُتابعوننا في الأكاديمية العلميَّة بمدينة الرياض، يُسعدني أن أشرح مع حضراتكم كتابًا صغير الحجم، عظيم النَّفع، ألا وهو "أصول السُّنة" لإمام أهل السُّنة الإمام المُبَجَّل أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى.
لكن اسمحوا لي كعادتي دائمًا في أول لقاءٍ من لقاءات هذه المحاضرات العشر أن أبدأ بثلاث مُقدِّمات:
الأولى: في فضل طلب العلم.
الثانية: في شرح اسم الكتاب: "أصول السنة".
المقدمة الثالثة: في الحديث عن سيرة صاحب الكتاب، وهو الإمام أحمد.
وأرجو الله أن يُبارك لنا في الوقت لننتهي الليلة من هذه المُقدِّمات الثلاث.
لنقف مع المُقدِّمة الأولى في فضل طلب العلم:
أنا أرى أنَّ كثيرًا من طلبة العلم قد عزفوا عن طلب العلم بعد أحداث الثَّورة، وانشغل كثيرٌ من الدُّعاة والمشايخ وطلبة العلم بالسياسة والأحداث الجارية، وأنا لا أُقلل من شأن المتابعة للأحداث الجارية والتَّعرف على الحقائق؛ لكن لا ينبغي أن يكون ذلك على حساب هجران المساجد ودروس العلم، فلا شكَّ ولا ريبَ أنَّ مَن سلك طريقًا بغير دليلٍ ضلَّ، ومَن تمسَّك بغير الأصول زَلَّ، والدليل المُنير في الظَّلماء، والأصل العاصم من الفتن والأهواء هو العلم بفهمٍ وعملٍ.
إنَّ أشرف ما يُطلَب في هذه الدنيا -أيُّها الأحبة- العلم، ولم يأمر الله -جل وعلا- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بطلب الازدياد من شيءٍ إلا من العلم، فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114]، ورفع الله شأنَ أهل العلم وأعلى درجاتهم فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، بل واستشهد ربُّنا -جل وعلا- بأهل العلم على أشرف وأجلِّ مشهودٍ عليه؛ ألا وهو التوحيد، فقال سبحانه: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].
قال شيخنا ابنُ القيم -رحمه الله: "إنَّ أول مَن شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنَّى بملائكته، ثم ثلَّث بأهل العلم، وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإنَّ الله -جل وعلا- لا يستشهد بمجروحٍ".
أُكرر هذه الكلمات لجمالها: "إنَّ أول مَن شهد لله بالوحدانية هو الله، ثم ثنَّى بملائكته ﴿وَالْمَلَائِكَةُ﴾، ثم ثلَّث بأهل العلم ﴿وَأُولُو الْعِلْمِ﴾، وهذه هي العدالة في أعلى درجاتها، فإنَّ الله -جل وعلا- لا يستشهد بمجروحٍ".
بل وشهد الله لأهل العلم بالخشية منه، فقال سبحانه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
ولما سُئل الإمامُ أحمد -رحمه الله تعالى- عن العالم قال: "ليس العلمُ بكثرة الرِّواية والدِّراية، ولكنَّ العلم خشية الله، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]".
والآيات في هذا الباب كثيرةٌ.
فإذا كان الناسُ على علمٍ، وأنصت الناسُ لأهل العلم؛ فهم على خيرٍ وهُدًى، فإذا أعرض الناسُ عن العلم والعلماء؛ وقعوا في الضَّلال والشَّقاء.
وفي الصَّحيحين من حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صُدُورِ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوا بِغَيْرِ عِلْمٍ؛ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا».
وكان -صلى الله عليه وسلم- شديد الحفاوة بطلبة العلم وأهل العلم، كما في الحديث الذي رواه أحمد والطَّبراني بسندٍ جيدٍ من حديث صفوان بن عسَّال المُرادي -رضي الله عنه- قال صفوان: أتيتُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وهو مُتَّكئٌ في المسجد على بُرْدٍ له أحمر، فقلت: يا رسول الله، إني جئتُ أطلب العلم. سؤال مباشر، فقال -عليه الصلاة والسلام: «مَرْحَبًا بِطَالِبِ الْعِلْمِ، إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ تَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا يَطْلُبُ».
انظر إلى هذا الفضل الذي فرَّط فيه كثيرٌ منا!
«إِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ تَحُفُّهُ الْمَلَائِكَةُ بِأَجْنِحَتِهَا، ثُمَّ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا حَتَّى يَبْلُغُوا السَّمَاءَ الدُّنْيَا مِنْ مَحَبَّتِهِمْ لِمَا يَطْلُبُ».
وذُكِر للنبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رجلان -كما في سُنن الترمذي بسندٍ صحَّحه الترمذيُّ وحسَّنه الألباني- أحدهما عالمٌ، والآخر عابدٌ، فقال -عليه الصلاة والسلام: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ»، أي كفضل النبي -صلى الله عليه وسلم- «عَلَى أَدْنَاكُمْ»، أي على أدنى رجلٍ في الأمَّة.
وأرجو أن تتخيلوا وتتصوروا هذا الفارق الكبير، ففضل العلم كبيرٌ وعظيمٌ.
لكن أقول لكم -أيُّها الأحبَّة: العلم يحتاج إلى أمرين: يحتاج إلى فهمٍ، وإلى عملٍ. فلا قيمةَ للعلم بدون فهمٍ وعملٍ.
ولذلك يُترجِم الإمامُ البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب "العلم" بابين من أفقه التَّراجم، وعلماؤنا يقولون: "فَقُهَ البخاريُّ في تراجمه"، أي لو وقفت على الترجمة للإمام فقط قبل أن تقرأ ما سطَّره تحت هذه الترجمة؛ ستقف على فقهٍ غزيرٍ.
يُترجم الإمامُ مثلًا في كتاب "العلم" بابًا بعنوان: "باب العلم قبل القول والعمل".
هذه الترجمة تحتوي على فقهٍ غزيرٍ، فَقُهَ البخاري في تراجمه، باب العلم قبل القول والعمل.
ويُصدِّر الإمامُ هذا الباب بقوله تعالى لنبينا -صلى الله عليه وسلم: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: 19].
يقول الحافظُ ابنُ حجر -رحمه الله: "يأمر الله نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- في هذه الآية بأمرين: بالعلم والعمل".
بالعلم في قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ﴾.
وبالعمل في قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرْ﴾، الآية.
يقول: "فقدَّم اللهُ العلمَ على العمل؛ لأنَّ العلمَ هو المُصحِّح للنية التي يصح بها كلُّ قولٍ وكلُّ عملٍ".
إذن؛ بدأ بالعلم، وثنَّى بالعمل.
يقول الحافظُ ابن حجر: "بدأ بالعلم لأنَّ العلم هو المُصحِّح للنية، التي يصح بها كلُّ قولٍ وكلُّ عملٍ".
ثم يُترجم الإمامُ البخاري بابًا آخر -وهذا هو الشَّاهد- في كتاب "العلم" أيضًا بعنوان: "باب الفهم في العلم".
ويُصدِّر الإمامُ هذا الباب بحديث معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، قال الحافظُ ابن حجر: "أي يُفهمه".
نعمة الفهم -يا إخواني- من أجل النِّعَم.
احفظ مني هذه العبارة وسطِّرها: "الدليل ولو كان صحيحًا ليس مُنتهى العلم؛ بل لابد من فهم الدليل، ومعرفة مرتبة الدليل، وتحقيق مناط الدليل؛ حتى لا تستدل بدليلٍ عامٍّ لمناطٍ خاصٍّ، أو تستدل بدليلٍ خاصٍّ لمناطٍ عامٍّ".
لذا يقول شيخنا ابن القيم: "إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا".
ويقول أيضًا ابنُ القيم -رحمه الله- وانتبه للكلام الغالي هذا: "هل أوقع القدريَّة" القدرية النُّفاة، والقدريَّة الجبريَّة، وربما نتعرض للتعريف لمثل هذه الفرق في ثنايا شرحنا لأصول السُّنة -إن شاء الله تعالى.
قال: "وهل أوقع القدريَّة والخوارج والمُعتزلة والرَّوافض وسائر طوائف أهل البدع؛ هل أوقعهم فيما وقعوا فيه إلا سُوء الفهم عن الله ورسوله؟!"
فالذي أوقع القدريَّة والمُرجئة والخوارج والمُعتزلة والرَّوافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه هو سُوء الفهم عن الله ورسوله.
طيب، قد يسألني طالبُ علمٍ: كيف أُحصل إذن الفهم الصَّحيح لمُراد الله ومُراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: بأمرين، تُحصِّل الفهمَ الصَّحيح لمُراد الله ولمُراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمرين:
الأول: أن تعلم يقينًا أنَّ نعمة الفهم نعمةٌ من الله يتفضَّل بها على مَن يشاء من عباده.
قال -جل وعلا: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: 78، 79].
مَن الذي فهَّم سليمانَ القضية؟
الله -جل جلاله.
إذن نعمة الفهم نعمة ربانيَّة، منحةٌ إلهيَّة، فضل الله، ليست بالسِّن -وانتبهوا يا شباب- وليست بالسَّبق في الطلب، أنا مثلًا بدأتُ الطلبَ شخصيًّا من سنة 1973، لكن هناك من طلابي مَن سبقني في العلم والفضل، فالأمر ليس بالسَّبق.
انتبه للثالثة التي سأقولها: وإنَّما بالصِّدق، فالأمر ليس بالسَّبق وإنَّما بالصدق.
إذن ليس بالسن ولا بالسَّبق؛ وإنَّما بالصِّدق، صدق الطلب، وصدق النية.
عمر -رضي الله عنه- أدخل ابنَ عباسٍ مجلسَ الشُّورى، فاختصَّه عمرُ وأدخله بين كبار الصَّحابة، فأدخل عليهم ابن عباس، ولما استنكر بعضُ الصَّحابة أن يدخل عليهم ابنُ عباسٍ وهو الشَّاب الصَّغير؛ أراد عمرُ أن يُعلمهم أنَّ ذلك فضلٌ يُؤتيه الله مَن يشاء، فسألهم عمر عن قول الله تعالى في سورة النصر: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ﴾ [النصر: 1].
فقالوا: يأمر الله نبيه إذا فتح عليه مكَّة أن يستغفره وأن يتوبَ إليه.
فالتفت عمرُ إلى ابن عباس وقال: ما تقول أنت يا ابن عباس؟
قال: أقول بغير هذا يا أمير المؤمنين؟
قال: فما تقول؟
قال: أقول: إنَّه أجل رسول الله أعلمه الله إيَّاه.
يا إلهي على الفهم!
فقال عمر: "لا أفهم منها إلا ما قد فهمتَ".
وجيء بامرأةٍ لعثمانَ -رضي الله عنه- ليُقيم عليها الحدَّ من الزِّنا. لماذا؟
قالوا: ولدت ولدها لستة أشهر، ولا تلد المرأةُ لستة أشهر.
وأراد عثمانُ -رضي الله عنه- أن يُقيم عليها الحدَّ، فقال له ابنُ عباس -وفي روايةٍ: علي رضي الله عنهم جميعًا: لا تعجل يا أمير المؤمنين، فإني أجد في كتاب الله أنَّ المرأة قد تضع ولدها لستة أشهر.
قال: وأين ذلك في كتاب الله يا ابن عباس؟
قال: في قوله تعالى: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف: 15].
حدد الله مدَّة الحمل والرَّضاع بثلاثين شهرًا، ثم ذكر ربُّنا -تبارك وتعالى- مدَّة الرَّضاع فقط بحولين كاملين، فقال: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾ [البقرة: 233].
ثم قال ابنُ عباس: الحمل والفِصَال ثلاثون شهرًا، والرَّضاع لمدة عامين، فلو طرحت عامي الرَّضاع من الرَّضاع والحمل؛ فحينئذٍ تستطيع أن تفهم من الآيتين أنَّ المرأة قد تضع ولدها لستة أشهر.
أي فهمٍ هذا؟!
ارتقى النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- المنبر ثم حمد الله وأثنى عليه، ثم قال: «إِنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللهِ خَيَّرَهُ اللهُ بَيْنَ أَنْ يُؤْتِيَهُ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا مَا شَاءَ، وَبَيْنَ مَا عِنْدَ اللهِ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللهِ».
فقام أبو بكر من بين الصَّحابة جميعًا وقال: "فديناك بآبائنا يا رسول الله، فديناك بأُمَّهاتنا يا رسول الله"، وضجَّ الصحابةُ في المسجد واستنكروا على أبي بكرٍ قوله وصنيعه.
يقول أبو سعيدٍ الخدريُّ راوي الحديث في الصَّحيحين: "فكان أبو بكرٍ أفهمنا لمُراد رسول الله؛ إذ علم الصديقُ أنَّ العبد المُخَيَّر هو المُصطفى".
فنعمة الفهم -يا إخواني- نعمةٌ من أجلِّ النِّعم، ومن أعظم النِّعم، فنعمة الفهم فضل الله يُؤتيه مَن يشاء، قد يرزُق اللهُ ولدَك الصَّغير في بيتك فهمًا لم يُرزَقه الولد الكبير، فذلك فضل الملك القدير، نسأل الله أن يُفهمنا كما فهَّم سليمان.
ولذلك كان من جميل دعاء شيخ الإسلام ابن تيمية -طيَّب الله ثراه- كان يُكثِر من قوله: "يا مُعلِّم داود علِّمني، ويا مُفَهِّم سليمان فهِّمني".
دعاء جميل: "يا مُعلِّم داود علِّمني، ويا مُفَهِّم سليمان فهِّمني"، قلَّ منا مَن يسأل الله -عز وجل- أن يرزقه نعمةَ الفهم.
أنا أذكر من باب التَّعليم لأبنائي وطلابي: أنني والله أديتُ عمرةً كاملةً بنية أن يرزقني الله الفهمَ لمُراده ومُراد رسوله، فمن أول ما لبستُ ملابس الإحرام قلتُ: هذه العمرة بنية أن يرزقني ربي نعمةَ الفهم؛ لأنَّ الفهم نعمةٌ عظيمةٌ من أجلِّ النِّعَم، وقلَّّ مَن ينتبه إليها من الدُّعاة والمشايخ، فضلًا عن طلبة العلم.
فأرجو أن تنتبهوا الليلة، ولو لم تخرجوا الليلةَ من هذه المحاضرة إلا بهذه الفائدة؛ فعَضُّوا عليها بالنَّواجِذ، فوالله إنَّها لغالية: "يا مُعلِّم داود علِّمني، ويا مُفَهِّم سليمانَ فَهِّمني". ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء: 79].
قلتُ: إذا أردتَ أن تفهم مُراد الله ومُراد رسوله للعلم فعليك بأمرين بعد الاستعانة بالله يقينًا -كما أصَّلتُ الآن في أنَّ الفهم نعمةٌ من الله على العبد:
الأمر الأول: المُشافهة.
ما معنى المُشافهة؟
المشافهة معناها: أن يجلس طالبُ العلم بين يدي شيخه ومُعلمه، لا يتكاسل طالبُ العلم ولا يستحيي أن يجلس بين يدي شيخه ومُعلمه.
ومن بركة العلم أن ننسبه لأهله، من بركة العلم أن تنسب العلم لأصحابه، إذا سمعتَ معلومةً من عالمٍ تقول: والله قال الشيخ الفلاني كذا، فمن البركة ومن الأمانة، فمن بركة العلم أن ننسبه لأهله.
فهذا الكلام من نفيس ما قاله الإمامُ الشَّاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه الماتع القيِّم الذي أنصح به كلَّ أبنائنا وكلَّ طلابنا "المُوافقات"، أرجو من أبنائنا أن يقرؤوا "المُوافقات" على الأقل عشر مرات حتى يستوعبوه ويفهموه؛ لأنَّ المُوافقات يحتاج إلى صفاء ذهنٍ، وإلى إخلاص نيةٍ، وهو مليءٌ بالدُّرر والجواهر واللآلئ.
يقول الشَّاطبيُّ في المُقدِّمات من المُوافقات: "أنفع الطُّرق لتحصيل العلم طريقان:
الأول: المُشافهة، ومعناها أن يجلس طالبُ العلم بين يدي شيخه ومُعلِّمه -اسمع- فإنَّ الله تعالى يفتح على طالب العلم بين يدي شيخه ما لا يفتح به عليه دونه".
فأنت يمكن أن تجلس في مكتبةٍ وتُصر على أن تتعلم أنت بنفسك، وأن تقرأ أنت لنفسك، وتُعرِض عن المشايخ والعلماء.
وأنا أعلم أنَّ الواقع السياسي مَزَّق الشَّملَ، وشتَّت الصَّفَّ، وأعرض بسبب الاختلاف كثيرٌ من طلبة العلم عن علمائهم ومشايخهم، فكثيرٌ من أبناء المشايخ الذين جلسوا تحت أقدامهم أكثر من عشرين سنةً؛ بل وثلاثين سنةً، منهم الآن مَن يتهم هؤلاء الأفاضل الذين ربوهم وعلَّموهم لمجرد أنَّ الواحد منهم سمع من الشيخ فتوى في أمرٍ من الأمور السياسيَّة الجارية تختلف عمَّا يراه هو، أو عمَّا يُحبه هو، فيُعرض الطالبُ عن شيخه، بل وربما يسُبُّه، بل وربما يقع في عِرْضِه، ولا حول ولا قوَّة إلا بالله! وهذه من المحن والفتن.
ولذلك أنا أذكر عبارةً جميلةً: اعلم يا أخي -وفَّقني الله وإيَّاك لمرضاته، وجعلني الله وإيَّاك ممن يخشاه ويتقيه حقَّ تُقاته.
ومن بركة العلم أيضًا أن ننسبه لأهله، فهذا من كلام الحافظ ابن عساكر -رحمه الله- يقول: "اعلم يا أخي -وفَّقني الله وإيَّاك لمرضاته، وجعلني الله وإيَّاك ممن يخشاه ويتقيه حقَّ تُقاته- أنَّ لحومَ العلماء مسمومة، وأنَّ عادةَ الله في هتك أستار مُنْتَقِصيهم معلومة، وأنَّ مَن أطلق لسانَه في العلماء بالسَّلْب بلاه الله قبل موته بموت القلب"، نسأل الله أن يحفظنا وإيَّاكم.
احفظ لسانك من الغيبة بصفةٍ عامَّةٍ، ومن الغيبة للعلماء بصفةٍ خاصَّةٍ، فقد يرى العالمُ ما لا تراه، وقد يرى شيخُك ما لا تراه، وقد اطَّلع شيخُك على الأصول والفروع ما لم تطلع عليه أنت، وثِقْ تمامًا أنَّه لا يمكن أبدًا أن تُحسِن الظنَّ بنفسك وأن تتهم شيخك، وأن تُحسِن الظنَّ بأنَّك غيورٌ على الدين، وتنفي هذا عمَّن علمك الدين من العلماء الرَّبانيين والمشايخ والدُّعاة الصَّادقين -أسأل الله أن يحفظ علماءنا، وأن يعصم شيوخنا، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
الشاهد -أيُّها الأحبة- أنَّ الطريق الأول لتحصيل العلم بفهمٍ دقيقٍ: المُشافهة، وأن تجلس بين يدي شيوخك من أهل السُّنة.
وأنا أقول لكم يا أبناء مصر ويا أهل مصر: إنَّ من أعظم نعم الله علينا أن منَّ الله علينا في مصر بعلماء من أهل السُّنة، هذه نعمةٌ من أعظم النِّعَم أيضًا، أن تُرزَق عالمًا من علماء أهل السُّنة لتسمع منه قال الله، وقال رسوله، وقال السلف الصالح.
فكثيرٌ من أبناء المسلمين في كثيرٍ من الدول والبلدان يودُّ أحدُهم -والله العظيم- أن لو جلس مجلسًا كهذا بين يدي عالمٍ من علماء أهل السنة، وأسأل الله أن يجعلني وإيَّاكم منهم.
إذن الطريق الأول: المُشافهة، وأن تختار العالم الرَّباني والشيخ الصَّادق الذي تتعلم منه العلمَ والأدبَ والخُلُقَ.
كان السَّلفُ الصَّالح قبل أن يطلبوا العلمَ على يدي عالمٍ أو على يدي شيخٍ؛ يذهبون إليه، كما ذكر ذلك الحافظُ ابن عبد البر في كتابه "التَّمهيد" في المقدمة، قال: "كان السَّلفُ يذهبون إلى العالم فينظرون قبل أن يجلسوا بين يديه إلى سَمْتِهِ وعبادته"، ينظرون إلى سَمْتِهِ، أي إلى شكله، وعبادته.
"فإن وجدوا السَّمْتَ والعبادةَ مُوافقة للهدي النبوي؛ جلسوا فأخذوا منه العلم"؛ لأنَّك تأخذ منه دينَك، تأخذ من هذا العالم دينك، فابحث ودقِّق عمَّن تأخذ هذا الدين، لا تأخذ الدينَ إلا من العالم الرَّباني الذي يقول: قال الله، قال رسوله. بفهم أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ والسلف الصَّالح -رضوان الله عليهم.
الطريق الثاني -باختصارٍ- وهذا مُهمٌّ جدًّا: مُطالعة كتب المُصنِّفين من أهل العلم، المُتحقِّقين به، بشرط أن يكون طالبُ العلم فاهمًا لمُصطلحاتهم.
وإن شاء الله موعدنا غدًا بين المغرب والعشاء -بإذن الله- وسنتكلم غدًا في محاضرةٍ مُستفيضةٍ عن الإمام أحمد -بإذن الله تعالى- أسأل الله أن يجمعنا به في جنات النعيم.
إذن الطريق الثاني: مُطالعة كتب المُصنِّفين -أي المُؤلِّفين- من أهل العلم، المُتحقِّقين به -انظر إلى كل لفظةٍ- بشرط أن يكون الطالبُ فاهمًا لمُصطلحاتهم؛ لأنَّك لو لم تفهم مصطلحات أهل العلم وقرأت فقط ستُخطئ الفهمَ أيضًا، إذن لابُدَّ أن ترجع إلى العلماء.
يقول الشاطبيُّ: "كان العلمُ قديمًا في صُدور الرِّجال -يعني في صدور الصَّحابة- ثم انتقل إلى بطون الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرِّجال -يعني العلماء".
"كان العلمُ قديمًا في صدور الرِّجال، ثم انتقل إلى بطون الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال".
إذن لابُدَّ من العلم بفهمٍ وعملٍ.
ما قيمة العلم والفهم بدون عملٍ؟!
لابد من العمل، قال تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا﴾ [التوبة: 105]، ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2، 3].
وفي الصَّحيحين من حديث أسامة بن زيدٍ -رضي الله عنهما- أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُؤْتَى بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ؛ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابُ بَطْنِهِ -أي أمعاؤه- فَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ فِي الرَّحَى، فَيَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَهْلُ النَّارِ وَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ، مَا لَكَ؟ أَلَمْ تَكُ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، كُنْتُ آمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ».
يقول أبو الدَّرداء -رضي الله عنه: "إني أخاف أن يُقال لي يوم القيامة: أعلمت أم جهلت؟ فأقول: علمت؟" يقول: "فلا تبقى آيةٌ آمرةٌ أو زاجرةٌ إلا جاءتني تسألني فريضتها، فتقول الآمرةُ: هل ائتمرتَ؟ وتقول الزَّاجرةُ: هل ازدجرتَ؟
فأعوذ بالله من علمٍ لا ينفع، وقلبٍ لا يخشع، ونفسٍ لا تشبع، ودعوةٍ لا يُستجاب لها".
وهناك أثرٌ جميلٌ -وإن كان في سنده ضعفٌ- ذكره الحافظُ ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" عن عليِّ بن أبي طالبٍ -رضي الله عنه- قال علي: "يا حملةَ العلم، اعملوا به، فإنَّ العالم مَن عَلِمَ ثم عمل، ووافق علمُه عملَه، وسيأتي أقوامٌ -اللَّهمَّ لا تجعلنا منهم- يحملون العلمَ لا يُجاوز تراقِيهم، يُخالِف علمُهم عملَهم، وتُخالِف سريرتُهم علانيتَهم، يقعدون حِلَقًا يُباهي بعضُهم بعضًا، حتى إنَّ أحدهم ليغضب على جليسه إن تركه وجلس إلى غيره، أولئك لا تُرفَع أعمالُهم تلك إلى الله -عز وجل".
شيء مُرعِبٌ!
قال تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ﴾ [البينة: 5]، اللَّهم ارزقنا الإخلاص.
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُجَارِي بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ»، والحديث رواه مالك والتِّرمذي وابنُ حبان وغيره من حديث كعب بن مالك بسندٍ صحَّحه الشيخُ الألباني في "صحيح التَّرغيب والتَّرهيب".
«مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُجَارِي بِهِ الْعُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِي بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ لِيَصْرِفَ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ فَهُوَ فِي النَّارِ».
إذن لابُدَّ من المُشافهة، فلابد أن تصبر على طلب العلم، وأن تفرغ من وقتك لطلب العلم.
يا أخي، أنت منذ سنتين تقضي الليلَ كاملًا إلا قليلًا أمام الفضائيَّات، وأمام الإنترنت، وأمام مواقع التواصل الاجتماعي!
فرِّغ من وقتك ساعةً في اليوم أو ساعتين لتتعلَّم عن الله -جل وعلا- ولتتعلَّم عن رسول الله.
نريد لدروس العلم في بلادنا أن تعود وأن ترجع من جديدٍ، وأن يلتفَّ طلبةُ العلم والمسلمون عامَّةً حول علمائنا، وحول شيوخنا، ولا تجلس لعالمٍ دون عالمٍ، لا تجلس لمحمد حسان دون غيره؛ بل اجلس لأيِّ عالمٍ من علماء أهل السُّنة ما دام يقول: قال الله، قال رسوله، قال أبو بكر، قال عمر، قال عثمان، قال علي، قال مالك، قال أبو حنيفة، قال الشافعي، قال أحمد، قال ابن تيمية، قال ابن القيم؛ قال هؤلاء الأجلاء والكُبراء والفُضلاء، اجلس له، تعلَّم فالعمر يمضي، وأنت تُضيع عمرك وأنت لا تدري.
كم من ساعاتٍ قضيتها أمام الفضائيَّات؟!
كم من ساعاتٍ قضيتها أمام مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الإنترنت؟!
هناك من شبابنا وأولادنا مَن لا ينام الليلَ كلَّه ويجلس على الإنترنت، وربما لا يفكر أن يقرأ حديثًا، ولا يخطر بباله أن يتعرف تفسيرَ آيةٍ.
فنحن نُريد أن نُعيد لدروس العلم زخمها وجلالها ومكانتها.
هذه مُقدِّمة أولى باختصارٍ شديدٍ.
المقدمة الثانية في دقائق: "أصول السنة" كتابٌ مباركٌ جليلٌ، أقف عند هاتين اللَّفظتين:
أصول: جمع أصل، والأصل هو ما يُبنى عليه غيرُه، أو ما يتفرَّع عنه غيرُه، كأصل البيت، أو كأصل الجدار، أو الحائط، أو كأصل الشَّجرة، ومنه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ [إبراهيم: 24]، ما يتفرَّع عنه غيرُه هذا هو الأصل.
إذن الأصول: جمع أصل.
والأصل: هو ما يُبنَى عليه غيرُه، أو يتفرَّع عنه غيرُه.
قال الرَّاغبُ في "مُفردات ألفاظ القرآن الكريم": أصل الشيء قاعدته.
فأصول السُّنة معناها أنَّ السنة لها أصولٌ تتفرَّع عنها.
فالأصل الأول: هو القرآن.
والأصل الثاني: هو سُنَّة النبي -عليه الصلاة والسَّلام.
والأصل الثالث: هو ما نُقِلَ عن الصَّحابة -رضي الله عنهم.
فإذا حقَّق المسلمُ هذه الأصول الكبيرة -القرآن والسنة وأقوال وأفعال الصَّحابة الذين هم أعرف الناس وأفهم الناس لمُراد الله ومُراد رسوله- إذا حقَّق المسلمُ هذه الأصول؛ فحَرِيٌّ به أن يُحقِّق ما يتفرَّع عن هذه الأصول.
أمَّا السُّنة: فالسُّنة في اللغة مأخوذةٌ من السَّنن، وهو الطَّريق.
فالسُّنة لغةً: الطريقة محمودةً كانت تلك الطريقة أو مذمومةً، طريق محمود أو طريق مذموم.
فالسُّنة في اللُّغة مأخوذةٌ من السَّنن وهو الطريق. انتبهوا!
ومنه قول النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في الصَّحيحين من حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ –رضي الله عنه: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَن كَانَ قَبْلَكُمْ -سَنَنَ: يعني طريق- شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَتَبِعْتُمُوهُمْ».
قالوا: يا رسول الله، اليهود والنَّصارى؟
قال: «فَمَنْ؟»
إذن هذا هو المعنى اللُّغوي للسنة.
فالسُّنة في اللغة: الطريق، أو الطريقة، محمودةً كانت تلك الطريقة أو مذمومةً، حسنةً كانت تلك الطريقة أو قبيحةً.
ومنه أيضًا حديثُ النبي -عليه الصلاة والسلام- في صحيح مسلمٍ من حديث جرير بن عبد الله البجلي: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
«مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً»: أي طريقةً حسنةً.
إذن هذا هو تعريف السُّنة في اللُّغة.
طيب، انتبه!
ما تعريف السُّنة عند المُحدِّثين، وعند الأصوليين، وعند الفُقهاء؟
تعريف السُّنة عند المُحدِّثين: هي ما أُثِرَ عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ خَلْقِيَّةٍ أو خُلُقِيَّةٍ، أو سيرةٍ.
هذا تعريف السُّنة عند المُحدِّثين.
أقول مرةً ثانيةً، وانتبه! سأسألكم، فهذه ليست محاضرةً عامَّةً، هذا درس علم، سأقول لك: يا فلان، قل.
طبعًا تعلَّمتُ هذا من شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله- فلمَّا كان الواحدُ منا ينام بين يديه يقول: أنت، قل لي تعريف السنة عند المُحدِّثين. فيقوم الإنسانُ فزعًا.
فتعريف السنة عند المُحدِّثين هو: ما أُثِرَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ، أو فعلٍ، أو تقريرٍ، أو صفةٍ خَلْقِيَّةٍ أو خُلُقِيَّةٍ، أو سيرةٍ.
طبعًا لو وقفتُ مع كلِّ كلمةٍ حتى نُدلل عليها يمكن -بفضل الله- أن نأخذ العشر محاضرات بدون مبالغةٍ والله، لا أقول هذا على سبيل التَّهويل.
"من قولٍ"، وتضرب أمثلةً على السنة القوليَّة، وهذا -ما شاء الله- أبواب، "أو فعلٍ" أبواب، "أو تقريرٍ" أبواب، "أو صفةٍ خَلْقِيَّةٍ" أبواب، "أو خُلُقِيَّةٍ" أبواب، "أو سيرةٍ" أبواب، فهو ليس تعريفًا لمجرد التَّعريف، لا.
طيب، السنة تعريفها عند الأصوليين -مختصرٌ جدًّا- قالوا: ما نُقِلَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ.
وهي: السُّنة القوليَّة، والسُّنة الفعليَّة، والسنة التَّقريريَّة، ما نُقِلَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فعلٍ أو تقريرٍ.
تعريف السنة عند الفقهاء، قالوا: السنة هي ما ثبت.
إذن أولًا: ما أُثِرَ.
وعند الأصوليين: ما نُقِلَ.
وعند الفُقهاء: ما ثبت عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- من غير افتراضٍ -يعني لم يفرضها عليه الصلاة والسلام.
وقد تُطلَق عندهم على ما يُقابل البدعة -يعني السُّنة عند الفقهاء قد تُطلَق على ما يُقابل البدعة- ومنه قول الفقهاء: طلاقٌ سُني، وطلاقٌ بدعي.
إذن ما نُقِل عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من غير افتراضٍ ولا وجوبٍ، وقد تُطلَق عندهم على ما يُقابل البدعة، ومنه قولهم: طلاقٌ سُني، وطلاقٌ بدعي.
وأختم محاضرة الليلة باختصارٍ بمكانة السُّنة.
السُّنة -يا أحبابي- هي المصدر الثاني من مصادر التَّشريع.
وأقول: إنا لله وإنا إليه راجعون أن نحتاج ونضطر في أيامنا هذه أن نُبيِّن مكانة السنة في وقتٍ تَنَكَّرَ فيه البعضُ للسنة، وَلِحُجِّيَّةِ السنة.
اسمع مني، تدبَّر هذا الكلام الغالي جدًّا، الذي يُكتَب -ورب الكعبة- بماء الذهب؛ بل بأغلى من الذهب: الإمام الشَّوكاني -رحمه الله- يقول في كتابه القيم "إرشاد الفُحُول": "إنَّ ثُبوت حُجيَّة السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيَّةٌ، ولا يُخالِف في ذلك إلا مَن لا حظَّ له في الإسلام".
اسمع فهذا كلام غالٍ جدًّا.
"إنَّ ثُبوت حُجيَّة السنة" فالسنة حُجَّة -يا إخواننا- لأنَّ البعض يقول اليوم: هذه سنة! والكلام هذا سُنَّة! والفعل هذا سُنَّة، ويُشير بيده هكذا -كأنَّها غيرُ مهمَّةٍ- يكفينا القرآن.
فنقول له: أنت لم تفهم القرآن، فمَن أنكر حُجيَّة السنة لم يفهم القرآن، ولم يُؤمِن بالقرآن.
اسمع للشَّوكاني يقول: "إنَّ ثبوت حُجيَّة السنة واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورةٌ دينيَّةٌ، ولا يُخالِف في ذلك إلا مَن لا حظَّ له في الإسلام".
ويقول الإمامُ الأوزاعيُّ -رحمه الله: "القرآن أحوج إلى السُّنة -أي في فهمه- من السُّنة إلى القرآن"، يعني لا تستطيع أن تفهم القرآنَ إلا من خلال سُنَّة النبي -عليه الصلاة والسلام.
وأختم بكلام شيخي ابن القيم، يقول: "والسُّنة مع القرآن على ثلاثة أوجهٍ:
الأول: أن تكون السنةُ مُوافقةً للقرآن من كلِّ وجهٍ. وهذا من باب تضافُر الأدلة في الباب الواحد".
الأمر يحتاج إلى توضيحٍ، لكن باختصارٍ: يأمر القرآنُ بالتوحيد، فتأمر السنةُ بالتوحيد، يأمر بالصلاة، فتأمر السنة بالصلاة، وهكذا، فتكون السنةُ مُوافقةً للقرآن من كلِّ وجهٍ، وهذا من باب تضافُر الأدلة في الباب الواحد.
"الوجه الثاني: أن تكون السنةُ مُوضِّحةً ومُبينةً ومُفَسِّرةً للقرآن".
يأمر الله -جل وعلا- بالصلاة: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43]. كيف؟ فيأتي صاحبُ السنة ويقول: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي».
يقول: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، كيف أحج؟ كيف أُحرِم؟ من أين؟ ما المواقيت؟ ما أركان الحج؟ إلى غير ذلك.
فيأتي صاحبُ السنة ويقول: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وهكذا.
إذن الوجه الثاني: أن تكون السنةُ مُوضِّحةً ومُفَسِّرةً ومُبينةً لما أجمله القرآنُ.
"الوجه الثالث -وهو أخطر أوجه السنة مع القرآن: أن تكون السنةُ مُوجبةً لما سكت القرآنُ عن إيجابه، أو مُحرِّمةً لما سكت القرآنُ عن تحريمه".
إذن النبيُّ هنا يُشرِّع: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الحشر: 7]، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: 10]، وفي هذا آياتٌ كثيرةٌ جدًّا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، ولم يقل: "وأطيعوا أولي الأمر منكم"؛ لأنَّ طاعة أُولي الأمر تابعةٌ لطاعتهم لله ولرسوله.
إذن الوجه الثالث: أن تكون السنةُ مُوجبةً لما سكت القرآنُ عن إيجابه، أو مُحرِّمةً لما سكت القرآنُ عن تحريمه.
واستدل بحديث المقدام بن معدي كرب، ورواه أبو داود والترمذيُّ وابنُ ماجة وغيرُهم بسندٍ صحيحٍ، أنَّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ -يعني السُّنة- أَلَا يُوشِكُ رَجُلٌ شَبْعَان مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ -يكفي القرآن- فَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَلَالٍ فَأَحِلُّوهُ، وَمَا وَجَدْتُمْ فِيهِ مِنْ حَرَامٍ فَحَرِّمُوهُ».
انظر ماذا قال النبيُّ بعدها: «أَلَا لَا يَحِلُّ لَكُمُ الْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ، وَلَا كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَلَا لُقَطَةَ الْمُعَاهَدِ» أو «الْمُعَاهِدِ»، وفي لفظٍ: «فَإِنَّمَا حَرَّمَ اللهُ كَمَا حَرَّمَ رَسُولُهُ» -صلى الله عليه وسلم.
بقيت المُقدِّمة الثالثة ولم يتَّسع الوقتُ لها، وهي التَّعريف بصاحب الكتاب -المؤلف- وهو الإمام أحمد بن حنبل، وموعدنا للحديث عن الإمام غدًا -بإذن الله- بين المغرب والعشاء.
أسأل الله أن يتقبَّل منَّا ومنكم صالح الأعمال، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=61