بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، والحمد لله وكفى، وصلوات ربي وصلواته على عبده المصطفى، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، ونسألك يا ربِّ من العمل ما ترضى.
أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم بمنِّه وكرمه أن يجعلنا وإياكم ممن يجتمع في هذه الحياة على طاعته ويوم القيامة في مستقر رحمته، إنه جواد كريم.
أما بعد -أيها الإخوة- هذا هو الدرس الرابع من دروس ثلاثة الأصول، والتي تقدم في هذا الجامع المبارك، جامع الشيخ الحصري -رحمه الله- بمدينة السادس من أكتوبر بجمهورية مصر العربية.
كنا قد تحدثنا معكم في اللقاءات السابقة عن العلم ومكانة أهله وفضلهم ومنزلتهم، ثم تحدثنا عن أربع مسائل.
قال المصنف إنه يجب على كل مسلم أن يتعلمها:
أولها: العلم.
والثانية: العمل به.
والثالثة: الدعوة إليه.
والرابعة: الصبر على الأذى فيه.
ثم تحدثنا عن المسألة الأخرى وهي: ثلاث مسائل يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلموها، وأن يعملوا بهنّ:
أولها: أن الله خلقنا ورزقنا، ولم يتركنا هملًا؛ بل أرسل إلينا رسولًا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار.
الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرك معه في عبادته أحد، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل.
الثالثة: أن مَن أطاع الرسول ووحَّد الله، لا يجوز له موالاة من حادَّ الله ورسوله.
قدَّم المصنف -رحمه الله- كتابه الأصول الثلاثة بهاتين المقدمتين النافعتين، اللتين ذكرت لكم حتى يستقر العلم يجب أن نبلغه للناس، حتى يستقر العلم في أذهاننا وفي قلوبنا وعقولنا، وحتى يكون للعلم بركة، يجب أن نستمع وأن نبلغ كما قال سيدي -صلى الله عليه وسلم: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأدَّاها كما سمعها، فربَّ مبلَّغٍ أوعى من سامع، ورب حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه».
يقول -رحمه الله: (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ. وَبِذَلِكَ أَمَرَ اللهُ جَمِيعَ النَّاسِ، وَخَلَقَهُمْ لَهَا؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [ الذاريات: 56].
وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ، وَهُوَ: إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ. وَأَعْظَمُ مَا نَهَى عَنْهُ الشِّرْكُ وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ، وَالدَّلِيلُ على هذا قَوْلُ الله تَعَالَى ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئا﴾ [النساء: 35]).
قال -رحمه الله: (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ) هنا درس آخر من الدروس التي يجب أن يراعيها العالم وطالب العلم والداعية إلى الله، وهو قوله: (أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ)، من مصلحة الدعاة، ومن مصلحة أهل العلم أن يدعوا الآخرين إلى هذا الدين، وأن يدعو لهم بالرحمة والمغفرة والإرشاد إلى طاعة الله -جل وعلا.
ما أعظم أن تستقبل طالب العلم بالدعوة، تقول له: وفقك الله، جعلك الله مباركًا أينما كنت، رحمك الله، أرشدك الله لطاعته.
فإن هذا الكلام له أثر في قلب وفي عقل المستمع.
يقول الأول:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
والله -جل وعلا- أرشدنا في كتابه إلى القول الحسن، قال الله: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83].
والنبي -صلى الله عليه وسلم- لما وصفته السيدة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: «ما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاحشًا ولا متفحشًا ولا بذيئًا»، وفي حديث: «ولا سبَّابًا» -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
فعود لسانك الدعاء للآخرين، أشعر الآخرين أنك تحرص عليهم.
ما دليل هذا؟
حينما أتى ذاك الشاب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأريدكم أن تتخيلوا الموقف، لما أتى الشاب إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنى.
أتخيل الآن في هذا الجامع يقوم شخص يقول: أريد أن يكون الزنى حلالا. ما نفعل به؟ يُبطَش به.
لماذا؟ لأنه يتحدث عن أمر من الأمور المسلَّمة، يعني الزنى لا يحتاج إلى دليل شرعي حتى يقال إنه حرام، بل بدلالة العقل وقبلها دلالة الفطرة التي تأبى مثل هذا الأمر.
فكاد الصحابة أن يبطشوا به، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «دعوه، أقبل -فأقبل الغلام- قال: يا بني: أترضاه لأمك؟
قال: لا يا رسول.
قال: أترضاه لأختك؟ أترضاه لزوجك؟ أترضاه لابنتك؟ أترضاه لعمتك؟ أترضاه لخالتك؟
وهو يقول: لا يا رسول الله.
قال: والناس كذلك لا يرضونه لأمهاتهم وأخواتهم..». الحديث.
يقول الغلام: ثم قال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: «اُدنُ مني». فوضع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده الكريمة الطاهرة الرحيمة على صدر الغلام وقال له: «اللهم احفظ قلبه، طهر فرجه».
يقول الغلام: فوالله ما أزال النبي -صلى الله عليه وسلم- يده عن صدري وفي صدري شيء من هذا الأمر.
إذن الرحمة والرفق من أعظم الأمور التي كان يحرص عليها النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو الذي علمنا فقال: «إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه»، وهذه حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- مليئة بهذه المواقف.
قال: (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ،، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ).
ما هي الحنيفية؟ ما معنى الحنيف؟
المائل عن الشرك إلى التوحيد.
ما أصل الحنيف في اللغة؟
أصل الحنيف معناه: الميل. يقولون: رجل حنيف أي قدمه مائلة، ولهذا سمي الأحنف بن قيس لحَنَفٍ في رجله ويعني لميل في قدمه، وقد كانت حاضنته تقول:
والله لولا حنف برجله
ما كان في فتيانكم كمثله
فالحنيف هو: المائل.
وتنسب إلى الأحنف السيوف الحربية، وهي السيوف المائلة التي تأتي على شكل ميلان.
الحنيف هو -كما ذكرنا- هو: المائل من الشرك إلى التوحيد.
طيب، الأصل أن هذه الكلمة ليست حميدة، يعني يقال: فلان مائل. فكيف أصبح لها معنًى سليم؟
أصبح لها معنًى سليم بالغلبة، العرب تقول عن الرجل المريض: الصحيح. وتقول عن اللذيذ: السليم. فبالغلبة يصبح هذا المعنى.
إبراهيم -عليه السلام- كان يأتي إلى قوم يعبدون الشمس والقمر والكواكب من دون الله، فحنَفَ عنهم -أي مال عنهم- إلى عبادة الله -جل وعلا- فسمي حنيفًا، أي مائلًا عن الشرك الذي كان عليه قومه.
وكلمة "الحنيف" كانت معروفة قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، قبل مبعث النبي -عليه الصلاة والسلام- كان هناك عدد من العرب هم قليل جدًّا يسمون بالحنفاء العرب، مثل: أمية بن أبي الصلت الذي قال:
مجدوا الله فهو للأهل مجد
ربنا في السما أمسى كبيرا
وكان منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد الصحابي الجليل سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة -رضي الله عنه.
كان والده من الحنفاء العرب، وكان هذا الرجل يطوف على أهل مكة قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقول: يا أهل مكة، والله ما عاد منكم أحد على دين إبراهيم إلا أنا، لم يبقَ أحد على دين إبراهيم إلا أنا، وكان ينهى عن الذبح على غير اسم الله -جل وعلا.
ويقول لأهل مكة: هذه الذبيحة رزقكم الله إياها، وسقاها الله الماء، وأنبت الله لها الكلأ وتذبحونها على غير اسم الله -جل وعلا؟! فنهاهم عن هذا.
وكان يحيي الموءودة، وتعرفون من عادة العرب قتل الموءودة، يأتي أحدهم كما قال الله -جل وعلا: ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ﴾ [النحل 58، 59]، فأتى الله -جل وعلا- فأكرم المرأة.
فكان زيد بن عمرو يقول لمن يُرزق بفتاة ويريد أن يدفنها، يقول: ادفع بابنتك إلي أكفلها وأربيها، وأغذيها، فإذا كبرت، فإن شئت أن تأخذها وأن شئت أبقيتها.
يُقال : أنه خرج يومًا يبحث عن الدين الحق، فذهب إلى رجل يهودي، فقال: كيف تفعلون إذا أردتم الدخول في اليهودية؟
قالوا: لا تكن يهوديًّا حتى يصيبك غضب الله.
قال: وهل أفر إلا من غضب الله؟ لا حاجة لي به.
فذهب إلى رجل نصراني، فقال: كيف تفعلون إذا أردتم الدخول في دينكم؟
قال: لا تكن نصرانيًّا حتى تصيبك الضلالة.
قال: وهل أفر إلا من الضلالة؟ لا حاجة لي به.
ثم رفع بصره إلى السماء وقال: ديني دين إبراهيم، وملتي ملة إبراهيم.
واستمر على هذا إلى أن تُوفي.
وقد ورد في بعض الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بشره بالجنة.
كلمة الحنيفية ورد في القرآن في اثني عشر موضعًا:
- في عشرة مواضع ورد بالإفراد على صيغة الإفراد، مثل: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل: 120].
ومنها قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125].
ومنها قول الله -جل وعلا: ﴿وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أو نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا [البقرة: 135].
فهذه وردت بصيغة الإفراد.
- وورد بصيغة الجمع في آيتين: وهي:
- قول الله -عز وجل: ﴿حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج: 31].
- وقوله -عز وجل: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البينة: 5].
إبراهيم -عليه السلام- سمي حنيفًا لأنه مال عن دين قومه، يقول الله -جل وعلا: ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا﴾ [الأنعام 76-79].
فمن هنا سمي إبراهيم-عليه السلام- حنيفًا لأنه مال عن الشرك إلى التوحيد.
قال -رحمه الله: (اعْلَمْ أَرْشَدَكَ اللهُ لِطَاعَتِهِ، أَنَّ الْحَنِيفِيَّةَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ: وهي أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ).
هذه هي الحنيفية، وهي أن تفرد الله -جل وعلا- بالعبادة.
ما هي العبادة؟
العبادة لها معنيان:
- إما أن تكون بمعنى من التذلل، يقال: طريق مُعبَّد أي طريق مُذلل، وهذا يدخل فيه جميع الناس، المسلم وغير المسلم، فكلهم عبيد لله -جل وعلا.
- وإما أن يراد بها المحبة والقرب: وهذه خاصة بالمؤمنين.
العبادة ما هي؟
عُرفت بتعاريف كثيرة، لكن من أحسن تعاريفها أو من أحسن حدودها التي يقول عنها علماء الأصول أو علماء المنطق: الحد الجامع المانع، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: "والعبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال والأخلاق الظاهرة والباطنة".
لماذا كان من أحسن التعاريف؟
لأنه اشتمل على أنواع العبادة:
- فالعبادة إما أن تكون قولًا، أو تكون عملًا، أو تكون سلوكًا.
- وهي إما أن تكون ظاهرة أو باطنة.
- الظاهرة: أعمال الجوارح.
- والباطنة: أعمال القلوب، ومنها الاعتقاد والنية
قال: (وهي: أَنْ تَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ، مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ).
التوحيد هو من أعظم ما أمر الله -جل وعلا- به، بل إن القرآن الكريم كله في توحيد الله -جل وعلا- كيف ذلك؟
آيات القرآن إما:
الأول: أمر بالتوحيد.
الثاني: أو نهي عن ضده وهو الشرك.
الثالث: أو أمر بالعمل بمقتضاه وهي العمل بطاعة الله ورسوله، واجتناب ما عنه نهى الله ورسوله.
الرابع: أو خبر عن أهل التوحيد وما أعده الله لهم في جنات النعيم.
الخامس: إما خبر عن الشرك وما أعده الله لهم في نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
فالقرآن لا يكاد يخرج عن هذه الخمسة معاني، فالتوحيد هو الأصل الذي دعت إليه جميع الأنبياء والمرسلين.
يقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الصمد].
وهذه السورة تحمل آياتٍ ثلاث، لكنها على قصرها جمعت خيرًا كثيرًا، لذا قال سيدي -صلى الله عليه وسلم-، يقول كما في الترمذي (﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ تعدل ثلث القرآن). ما معنى تعدل ثلث القرآن؟
الإمام القرطبي -رحمه الله- ذكر عدَّة معاني:
- فقيل: تعدل ثلث القرآن بمعنى أنها تأتي بثلث المعاني، فالقرآن إما توحيد، وإما أخبار وقصص، وإما أحكام، فثلثها التوحيد.
- وقيل إنها تعدل ثلث القرآن في أجر التلاوة.
وبحثها -رحمه الله- بحثًا مطولًا، وقد فسرت هذه السورة في ثلاث مجالس، بالإمكان الحصول عليها من خلال موقعي الشخصي.
أيضًا مما يدل على التوحيد: قول الله -جل وعلا: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163]، وقول الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 62] سبحان الله عما يشركون.
فالتوحيد هو من أعظم ما أمر الله -سبحانه وتعالى- به، والدليل على هذا: قول الله -جل وعلا: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، فالله سبحانه ما خلق الجن وما خلق الإنس إلا لعبادته -عز وجل.
ولهذا أتت هذه الآية الكريمة بالأمر بتوحيد الله -جل وعلا.
التوحيد مأمور به، أمر الله -جل وعلا- الإنس وأمر الجن أن يوحدوا الله، وأن يفردوه -عز وجل- بالعبادة.
وكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- يرسل السرايا، ويبعث البعوث، ويأمرهم أن يكون أول ما يدعون إليه هو توحيد الله -جل وعلا.
قال -صلى الله عليه وسلم: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وفي رواية: «إلى أن يوحدوا الله».
وأيضًا الحديث الآخر حينما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- أبا موسى الأشعري، قال: «إنك تأتي قومًا أهل كتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله».
والنبي -صلى الله عليه وسلم- حين عدَّ أركان الإيمان؛ جعل الركن الأول: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
وحينما عدَّ أركان الإيمان؛ قال الركن الأول: الإيمان بالله -سبحانه وتعالى.
التوحيد، هل هو مصطلح جديد؟ يعني هل هو مصطلح لم يكن معروفًا ثم بعد ذلك عُرف؟
لا، كلمة "التوحيد"مصدر وحَّد يوحِّد توحيدًا موجودة في القرآن، ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، وهذا المصدر معناه أن تجعل الشيء واحدًا، فليس مصطلحًا جديدًا لا يعرفه القرآن والسنة، بل دلَّ عليه القرآن كما في قوله -عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة: 163].
ودلَّت عليه السنة كما قال -عليه الصلاة والسلام: «فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله».
يقول العلماء: التوحيد ثلاثة أنواع.
من العلماء من يقول أن التوحيد ثلاثة أنواع، ومنهم من يقول نوعان، كل بحسب التقسيم، ليس هناك فرق ولا مشاحة في الاصطلاح.
نبدأ بالتقسيم الأول: التقسيم الأول قالوا: إن التوحيد على ثلاثة أقسام:
- القسم الأول: توحيد الربوبية.
- والثاني: توحيد الألوهية.
- والثالث: توحيد الأسماء والصفات.
ما هو توحيد الربوبية؟
أحسنت، هذا هو التعريف الجامع.
هو: إفراد الله بأفعاله. أفعال الله ما هي؟ الخلق، الرزق، الإحياء، الإماتة، توحيد الرب بأفعاله -عز وجل- فهذا هو توحيد الربوبية.
سؤال: هل كان أهل مكة الذين كانوا يعبدون الأصنام كانوا يشككون في توحيد الربوبية؟
لم يكونوا يشككون في ذلك، هم كانوا يعلمون أن الله هو الخالق، وأن الله هو الرازق، وهو المحيي، وهو المميت.
ما الدليل على هذا؟ من القرآن.
نحن علمنا المؤلف -رحمه الله- أننا إذا ذكرنا شيئًا نذكر الدليل.
ما الدليل على هذا؟
نعم، أحسنتم.
- قال الله -عز وجل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: 61].
- وقال سبحانه: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف: 87].
- وقال -عز وجل: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [العنكبوت: 63]
فلم يكن لديهم شك في هذه القضية، بل إنه لا يكاد يعرف من الأمم من كان يُنكر توحيد الربوبية وحتى فرعون الذي قال: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، لما أدركه الغرق ماذا قال؟
﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [يونس: 90].
وقال الله -سبحانه وتعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ [النمل: 14].
فهم كانوا يؤمنون بتوحيد الربوبية، ويؤمنون أن الله هو الخالق الرازق المدبر المحيي المميت، وهذا التوحيد لم يكن في خلاف بين الأنبياء وبين أقوامهم الذي بُعثوا إليهم.
التوحيد الآخر هو: توحيد الألوهية؟
هو توحيد الله بأفعال العباد.
الربوبية: توحيد الله بأفعال الرب.
والألوهية: توحيد الله بأفعال العبيد.
مثل ماذا؟ الصلاة، الزكاة، الصيام، الدعاء، الحج، الخضوع، أعمال القلب، الخوف الإنابة، الاستعانة؛ فكل هذه تسمى أفراد لتوحيد الألوهية، لا يجوز بحال من الأحوال أن تصرف لغير الله، لا لملك مقرب، ولا لنبي مرسل، والدليل على هذا: ﴿وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا﴾ [الجن: 18].
هذا هو توحيد الألوهية، وهو التوحيد الذي حدثت فيه المعركة، المعركة بين أولياء الله المؤمنين وبين حزب الشياطين، بين الأنبياء وبين أقوامهم.
ما الدليل على هذا؟ من القرآن.
أهل مكة ماذا كانوا يعبدون؟ الأصنام، اللات، العزى، ومناة الثالثة الأخرى، وغيرها.
قال الله -جل وعلا- واسمع إلى هذه الآية: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾ من الذين اتخذوا من دون الله أولياء؟ المشركون؟
﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ﴾ يعني الذي حملنا على عبادتهم، ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾ [الزمر: 3].
يقولون: نحن نريدهم واسطة ووسيلة، ونتخذهم شفاعة بيننا وبين الله -سبحانه وتعالى- كما فعل قوم نوح.
قال ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "كان بين نوح وبين عبادة قومه للأصنام عشرة قرون، لما هلك وُدّ وسواع ويغوث ويعوق ونسرًا؛ زيَّن الشيطان لهم لو اتخذتم لهم أصنامًا من أجل أنكم إذا رأيتموهم تتذكرون عبادة الله فتنشطون للعبادة".
أنت الآن إذا كنت مع رجل صالح تنشط لعبادة الله -جل وعلا.
قال: "فلما طال عليهم الزمان وانقرض الجيل الأول، وأتت أجيال أخرى عبدوهم من دون الله -سبحانه وتعالى".
هذا هو توحيد الألوهية التي حدثت فيه المعركة بين الأنبياء وبين أقوامهم.
وتوحيد الألوهية: هو أن نخلص لله في عباداتنا، في أقوالنا وفي أعمالنا وفي أفعالنا، فلا تكون إلا لله -جل وعلا-، هذا هو معنى بيت الشعر الذي ذكرته لكم بالأمس، الذي ذكره إمامنا ابن القيم -رحمه الله:
فلواحد كن واحدًا في واحد
أعني سبيل الحق والإيمان
التوحيد الثالث: توحيد الأسماء والصفات.
وهي: أن نؤمن بكل ما وصف الله به نفسه، وبما وصفه به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل نؤمن بأنه -جل وعلا- ليس كمثله شيء وهو السميع البصير -سبحانه وتعالى.
وتوحيد الأسماء والصفات من أعظم أنواع التوحيد التي تفيض على قلب المؤمن محبة وخوفًا ورجاءً وتوكلًا على الله -سبحانه وتعالى-، فلا نثبت لله من الأسماء والصفات إلا ما أثبتها الله لنفسه، وأثبتها له رسوله، لأن الله أعرف بنفسه، ونبيه -صلى الله عليه وسلم- أعرف بربه-سبحانه وتعالى.
والأدلة على التوحيد كثيرة جدًّا.
وقد نهانا الله -سبحانه- عن الإلحاد في أسماء الله وصفاته، كما قال -جل وعلا: ﴿وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ﴾ [الأعراف: 180].
هذه الأنواع الثلاثة للتوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
من العلماء من يجعلها على نوعين، وهذا كثير في كلام الإمام ابن القيم -رحمه الله- يقول لك:
النوع الأول: توحيد في المعرفة والإثبات.
والنوع الثاني: توحيد في الإرادة والقصد.
هل هذا تعريف مختلف؟ لا، لأن توحيد المعرفة والإثبات يشتمل على نوعين من أنواع التوحيد: توحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات.
وتوحيد الإرادة والقصد هو هو توحيد الألوهية.
ومن العلماء من يقول: التوحيد على نوعين:
- توحيد علمي خبري.
- وتوحيد عملي.
وفي نفس المعنى، التوحيد العلمي الخبري يشتمل على الربوبية والأسماء والصفات، والتوحيد العملي هو توحيد الألوهية.
فهذه تقسيمات متنوعة ومختلفة لمعنى واحد، وهي المعاني الثلاثة: الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
هل وردت آية في القرآن تقول إن التوحيد ثلاثة أنواع، توحيد الألوهية والربوبية والأسماء والصفات؟هل هناك آية في القرآن؟
طيب، هل هناك حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول إن التوحيد ثلاثة أنواع؟ بهذا النص؟ لا يوجد.
طيب، الشيخ علمنا أن نأخذ كل شيء بدليله، فما الدليل على هذه الأنواع؟ أنتم بهذه الطريقة تأتون بشيء بدون دعوى، فماذا تقولون؟
....
نعم، لكن أنا سأذكر لكم -لأنكم بعيد ولا يظهر الصوت- سأذكر لكم شيئًا: درستم في متن الآجرومية مع الشيخ الدكتور محمد عبد المعطي أن الكلمة كم نوع؟ ثلاثة أنواع: اسم، وفعل، وحرف. ما الدليل من القرآن على هذا التقسيم؟ لا يوجد دليل.
الدليل: هو أننا فتحنا القرآن، وجمعنا جميع الآيات في القرآن فوجدنا أن بعض الآيات تدل على توحيد الربوبية، وأخرى تدل على توحيد الألوهية، لأن الربوبية مأخوذة من الرب، والآيات في ذلك كثيرة، وآيات تدل على توحيد الألوهية، وآيات تدل على توحيد الأسماء والصفات، فالعلماء من باب السَّبرِ والتقسيم جمعوا، فاتضح لهم أن التوحيد بهذه الأنواع الثلاثة، والذي لديه نوع رابع فليأتِ به.
كالذي يقول: لا والله، أنا لا أقبل كلام أهل اللغة العربية، النحاة هؤلاء لا يفهمون، الكلمة هي أربعة: اسم وفعل، وحرف، و...، نقول: ما هو الـ (و...)؟ لا يوجد.
اللغة ليس فيها إلا هذا التقسيم الثلاثي.
فالعلماء سبروا الآيات والأحاديث، فاتضح لهم أن التوحيد يأتي بهذه الأنواع الثلاثة، لكن كل نوع هناك أدلة كثيرة -كما ذكر ابننا بارك الله فيه- كلها تدل على توحيد الله -جل وعلا.
يأتي أحد يقول: ما الدليل على توحيد الربوبية؟
قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]، ﴿ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 3]، ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس: 31].
نأتي إلى توحيد الألوهية:
﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، ﴿وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ [آل عمران: 62]، ﴿ شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ ﴾ [آل عمران: 18].
نأتي إلى توحيد الأسماء والصفات:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الحشر: 23].
فهذه كلها دل عليها كتاب الله، وسنة رسوله -عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
طيب، من أول من قال بهذا التقسيم؟ من أول مَن قال إن التوحيد بهذه الأنواع الثلاث؟
طبعًا متداول أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في القرن السابع هو أول مَن قسَّم التوحيد إلى هذه الأنواع الثلاثة، لكن يوجد من سبق شيخ الإسلام إلى ذلك، وهو الإمام المفسر الكبير ابن جرير الطبري -رحمه الله- في تفسيره للقرآن، أشار إلى هذه الأنواع الثلاثة، وأشار إليها الإمام ابن منده -رحمه الله تعالى.
فليس في هذا التقسيم خلاف بين أهل العلم -رحمهم الله تعالى رحمة واسعة.
بما أننا تحدثنا عن توحيد الأسماء والصفات، ما منهج أهل السنة والجماعة في الحديث في الأسماء والصفات؟ ما المنهج؟
المنهج: أنهم يأتون بالإثبات المفصل، والنفي المجمل.
يعني لا يقال مثلًا: إن الله ليس فقير، والله ليس ضعيف، لا، ليس هذا من منهج أهل السنة، منهج أهل السنة يقولون: الله هو القوي، والغني، والكريم. يفصلون في الإثبات، لكنهم يُجملون في النفي، وهذا كقول الله -عز وجل: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص1-3]، فأتي في البداية بالإثبات المفصل، لما أتى في النفي قال: ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الصمد 3، 4].
قال -رحمه الله تعالى: (والدليل على هذا قول الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [ الذاريات: 56]).
الجن كالإنس مأمورون ومكلفون بشريعة محمد -صلى الله عليه وسلم.
الجن مخلوقات ثبت وجودها في القرآن والسنة ولا يجوز لأحد أن يُنكر عالم الجن، يعني بعض الأطباء النفسيين يُنكرون عالم الجن، وإنكاره إنكار لماذا؟ للقرآن وتكذيب لله، سورة كاملة في القرآن اسمها سورة الجن.
كانت الجن قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- يرقون في السماء، فيتسمَّعون الأخبار، ثم يُخبرون السَّحرة والكهنة والمشعوذين وغيرهم، قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- مُنعوا من استراق السمع، قالوا: ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدً﴾ [الجن 8، 9].
تعرفون يقولون: الكاهن يصدق مرة، يكذب تسعة وتسعين مرة، ويصدقه الناس في هذه المرة.
ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يأتي مسترق السمع وبعضهم فوق بعض هكذا»، هكذا وصفها لنا علماؤنا، حتى يستمع، ثم ينزل، كل واحد يخبر من هو تحته، قال: «فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما يكون أسرع فيلقيها إلى من وتحته، فيلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فيكذب معها مائة كذبة».
فالجن مكلفون.
لما سار النبي -صلى الله عليه وسلم- في وادي نخلة اجتمع إليه الجن، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا * وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا﴾ [الجن 1-4].
ثم أخبرهم النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعاهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب من حق الله -عز وجل- فعادوا إلى قومهم منذرين يدعونهم إلى توحيد الله -جل وعلا.
وقد ذكر العلماء أن عالم الجن كعالم الإنس في الديانة، فمنهم الصالح، ومنهم دون ذلك.
وهذا في القرآن: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا﴾ [الجن: 11]، فيهم المسلم، وفيهم اليهودي، وفيهم النصراني وغيرهم، بدلالة كتاب الله -سبحانه وتعالى.
قال -رحمه الله: (وَأَعْظَمُ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ التَّوْحيِدُ)، ثم قال: (وَأَعْظَمُ مَا نَهَى الله عَنْهُ الشِّرْكُ).
ما هو الشرك؟ قال: (وَهُوَ: دَعْوَةُ غَيْرِهِ مَعَهُ )
وَالدَّلِيلُ على هذا: قَوْلُ الله تَعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116].
ذكرنا لكم بالأمس أن أعظم الظلم على الإطلاق هو الشرك بالله -سبحانه وتعالى.
ما هو الشرك؟ ما معنى الشرك؟
الشين والراء والكاف في اللغة -كما يقول ابن فارس: أصل للمقاربة، أو المقارنة.
بمعنى: أنه أشرك مع الله غير الله -جل وعلا- فيما لا يكون إلا لله –سبحانه وتعالى.
أعظم أمر هو الشرك بالله -جل وعلا-، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار».
تعلمون قصة الرجل في مسند الإمام أحمد: «مرَّ رجلان على صنم، وكان له سدنة، ولا يسمحون لأحد أن يُتجاوز هذا الصنم حتى يُقرِّب له قربانًا.
فقالوا: لأحدهما: قرِّب.
قال: ليس لدي شيء أقربه.
قالوا: قرِّب ولو ذبابة، فقرَّب ذبابة فدخل النار. شرك.
وقالوا للآخر: قرِّب.
قال: ما كنت لأقرب لأحد شيئًا دون الله -جل وعلا- هذا صاحب التوحيد.
قال: فقتلوه فدخل الجنة».
وهذا قوله -صلى الله عليه وسلم: «دخل الجنة رجل في ذبابة، ودخل النار رجل في ذبابة».
الشرك والكفر، هل بينهما فرق؟
قد يكون الشرك والكفر بنفس المعنى. ما الدليل؟
قال الله -عز وجل: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف 37، 38]، فيأتي بنفس المعنى.
وقد يكون معنى الشرك خاص بعبادة الأوثان والأصنام وعبادة شيء من دون الله، والكفر يكون في ذلك وفي غيره، فيكون بهذا المعنى أعم.
الشرك على أنواع:
- قد يكون الشرك في توحيد الربوبية: وهذا ذكرنا أنه لا يكاد يوجد، وحتى فرعون لما أشرك كان في قرارة نفسه يؤمن بالله -سبحانه وتعالى.
- وهناك الشرك في توحيد الألوهية: وهو دعوة غير الله مع الله، أو أن يجعل بينه وبين الله وسيلة يدعوه كما يدعو الله –سبحانه وتعالى.
- والشرك في توحيد الأسماء والصفات: هو بالميل بها، سموا العزَّى من العزيز، واللات من الإله، فاشتقُّوا من أسماء الله -جل وعلا- ومالوا بها إلى هذه الأصنام.
يقول العلماء -رحمهم الله: إن الشرك على نوعين:
- شرك لا يغفره الله أبدًا، ويسمى بالشرك الأكبر، وهو الذي قال الله فيه: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]، وقال الله -جل وعلا- فيه: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31].
- النوع الثاني من الشرك: يسمى الشرك الأصغر. ما هو الشرك لأصغر؟
مثل الرياء، لكن نريد ضابطا، قاعدة تشمل لنا الشرك الأصغر.
تفضل يا شيخ..... نعم هذا من المعاني.
ضابط الشرك الأصغر: هو كل وسيلة توصل إلى الشرك الأكبر سمَّاها النبي -صلى الله عليه وسلم- كُفرًا ولكنها لا تصل إلى الإخراج من الدين.
أعيد:
الشرك الأصغر : هو كل وسيلة توصل إلى الشرك الأكبر. مثل ماذا؟
الحلف بغير الله، يقول -صلى الله عليه وسلم: «من كان حالفًا، فليحلف بالله أو لِيصمت».
ومن ذلك قول: "ما شاء الله وشاء فلان"، فرق بين الواو وبين "ثم"، فالواو تأتي للعطف، و"ثم"تأتي للترتيب، أحسنت -بارك الله فيك.
ومن ذلك أن رجلًا قال: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما شاء الله وشئت، فقال -صلى الله عليه وسلم: «أجعلتني لله ندًّا؟ بل قل: ما شاء الله وحده».
ومن ذلك أيضًا -وبه نختم: الشرك الخفي، الذي قال عنه ابن عباس: "الشرك في هذه الأمة أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء "، فهذا مثل الرياء.
النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر»، فسئل عنه، فقال -صلى الله عليه وسلم: «هو الرياء، الشرك أخفى في هذه الأمة من دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء».
هذا هو الشرك، وهذه هي أنواعه، نسأل الله أن يجيرنا من ذلك.
ما رأيكم بقول "والنبي" الحلف بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، له مكانة ومنزلة ومع ذلك لا يجوز لنا أن نحلف بالنبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن الله أمرنا بذلك، والنبي -صلى الله عليه وسلم- أمرنا بذلك، فإذا كان النبي نهى رجلًا عن قوله "ما شاء الله وشئت"، قال: «أجعلتني لله ندًّا؟ بل ما شاء الله وحده».
لعلنا نكتفي، نسأل الله -عز وجل- لنا ولكم التوفيق والسداد، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أسأل الله بمنِّه وكرمه ألا يفرق جمعنا إلا بذنب مغفور، وعمل متقبل مبرور، وتجارة لن تبور.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=60