الأكاديمية الإسلامية المفتوحة
الدورة العلمية الثانية
شرح متن الأصول الثلاثة
لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني
الدرس (3)
بسم الله الرحمن الرحيم .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وزدنا علمًا وهدًى يا ذا الجلال والإكرام، اللهم لا تفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وعمل متقبل مبرور، وتجارة لن تبور، اللهم املأ قلبنا بالإيمان وأسعد أرواحنا بالقرآن يا ذا الجلال والإكرام.
الحمد لله وكفى، وصلوات ربي وسلامه على عبده المصطفى، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا مزيدًا إلى يوم الدين.
أما بعد -أيها الإخوة الكرام- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وها نحن ذا في الدرس الثالث من دروس ثلاثة الأصول للشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله تعالى- هذه الدروس التي نتحدَّث فيها عن أصول الاعتقاد، وعن دعوة الأنبياء والمرسلين -عليهم أفضل الصلاة وأتم السلام.
في اللقاء الماضي تحدثنا عن أربعة مسائل قال عنها المصنف أنه يجب على كل مسلم ومسلمة أن يتعلمها.
مَن يذكرنا بهذه المسائل؟
الأولى: العلم.
والثانية: العمل.
والثالثة: الدعوة.
والرابعة: الصبر على الأذى فيه.
وذكرنا أن ابن القيم -رحمه الله- قال: "إن درجة الكمال البشري تنحصر في هذه المسائل الأربع".
يقول -رحمه الله تعالى: (اعْلَمْ -رَحِمَكَ اللهُ- أَنَّه يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ، تَعَلُّمُ هَذِهِ الثَّلاثِ مَسَائِل، والْعَمَلُ بِهِنَّ: ).
تحدثنا في اللقاء الماضي أن الشيخ -رحمه الله- قدم لكتابه ثلاثة الأصول بمقدمتين، صدَّر هاتين المقدمتين بقوله: (اعْلمْ -رَحِمَكَ اللهُ- أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا).
في المسألة الأولى ذكر أربع مسائل، وفي الثانية ذكر ثلاث مسائل.
قال: (اعْلمْ -رَحِمَكَ اللهُ). ما الفرق بين الرحمة والمغفرة؟
الرحمة والمغفرة بينهما عموم وخصوص، أو كما يقول البعض: إذا اجمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
فإذا قيل: الرحمة؛ فهي الغفرة.
وإذا قيل المغفرة؛ فهي الرحمة.
وإذا اجتمعا؛ كانت المغفرة لما مضى من الذنوب، والرحمة لما يستقبله العبد في بقية حياته -نسأل الله أن يغفر لنا.
قال: (أنه يجب علينا).
الوجوب في اللغة: هو الثبوت والاستقرار.
ومنه قول الله -جل وعلا: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] .
وفي اصطلاح علماء أصول الفقه: هو ما يثاب فاعله ويعاقب تاركه.
فهذا العلم مما يثاب عليه طالب العلم فيه، ويعاقب المسلم الذي لا يتعلمه.
قال: (الأُولَى:) أي المسألة الأولى.
قال: (أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ).
قال في الأولى: (أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ).
يقول: (والدليل على ذلك:)، يعني الدليل على هذه المسألة.
قال: (قول الله -سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلا} [المزمل:15، 16]).
ماذا يريد أن يقول في هذه المسألة؟
يريد أن يقول: إن الله -جل وعلا- هو الذي خلقنا فالخلق بيد الله، وهو الذي يرزقنا، {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] .
إذن؛ الخلق والرزق بيد الله -سبحانه وتعالى.
وهنا مسألة عظيمة وهي:ما الدليل على أن الله -عز وجل- هو الذي خلق الخلق؟
هل الخلق خلقوا من عدم؟ لا، لابد لهم من خالق، وهو الله -سبحانه وتعالى.
في هذا الزمان وفي الآونة الأخيرة انتشر ما يُعرف أو ما يسمى بالإلحاد، يقول لك: لا يوجد خالق، كل إنسان هو الذي يخلق نفسه، فينفون وجود الله -سبحانه وتعالى.
ومن الغرائب في ذلك -أيها الإخوة: أن رجل كان اسمه السير أنتوني فلو، كان يسمى حارس مرمى الإلحاد، يدافع عن الإلحاد في كل مؤتمر، أي مؤتمر عن الإلحاد أو عن الإيمان لابد أن يحضره، ويكون هو ممن يؤكد على أنه لا يوجد شيء اسمه الله، حتى بلغ من العمر ثمنين عامًا، بعد ثمانين سنة ظهر في إحدى الإذاعات ليعترف للناس بقضية، الناس تفتح المذياع وإذا بأنتوني فلو يتحدث -حارس مرمى الإلحاد- ويقولون: أشرس ملحد في القرن العشرين.
وإذا به يقول:كنت أدافع عن الإلحاد ثمانين عامًا، وأنفي وجود الإله ثمانين عامًا.
قال له المذيع: والآن؟
قال:أما الآن فأنا أؤمن أن هناك إله.
قالوا له: أنت مسلم؟
قال: لست مسلما ولا يهوديا ولا نصرانيا، لكنني أؤمن أن هناك إله. مَن هو هذا الإله؟ لا أعرفه، إن كان في العمر بقية سأبحث عنه.
فتوفي قبل أن يعرفه.
بينما نحن؛ الأطفال الصغار يولدون على هذا الأمر.
طيب، لما يأتيك شخص ويقول لك: ما الدليل على وجود الله؟ كيف تجيبه؟
تقول لي: اثبت أن الله موجود.
أول دليل: دليل الفطرة، هناك أمور فطر الله -جل وعلا- عليها الناس، هل يُعقل الآن أن يأتي إليك شخص ويقول: اثبت لي أن الصدق حسن؟
الصدق بالفطرة تعرفون أنه حسن، وبالفطرة تعرفون أن الكذب قبيح، فهناك فطرة في قرارة الناس، يعلمون أن هناك إلهًا وهو الله -سبحانه وتعالى.
لذلك تجد أن الواحد من هؤلاء الذي يلحدون إذا مرَّ بضائقة؛ تجدأنه يرفع بصره إلى السماء. يبحث عن ماذا؟ عن الله، عن الفطرة التي فطر الله -عز وجل- الناس عليها.
بل إن الناس لتركوا وفطرتهم؛ لَمَا كفروا بالله، يقول سيدنا -صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصِّرانه، أو يمجِّسانه، كما تنتج البهيمةُ بهيمةَ عجماء، هل تحسون فيها من جدعاء؟) ثم تلا أبو هريرة -رضي الله عنه: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] .
فالناس مفطورون على وجود الله -سبحانه وتعالى.
يقولون إن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يناظر رجلًا يقول إن الله ليس في السماء، فقال له شيخ الإسلام: تعالَ إليَّ.
فأتى إليه وجلس إلى جواره، فتشاغل عنه شيخ الإسلام ببعض الأوراق التي بين يديه، فغضب هذا الرجل. فماذا فعل؟ رفع بصره إلى السماء -وهو مغضب- قال: يا الله! -كأنه يتأفف من شيخ الإسلام.
قال: هذا هو الله.
أنت تبحث عن الله؟ الله -عز وجل- في السماء.
فقام من مقامه وانصرف.
فهذه دلالة الفطرة، قال: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] .
الدليل الثاني: دليل العقل.
الإمام أبوحنيفة -رحه الله- أتى إليه طائفة من الهند من السومانيَّة الذين ينكرون وجود الله، ويؤمنون بوجود إلهين، فتأخر عليهم الشيخ -رحمه الله- ثم أتى إليهم.
فقالوا: ما لنا نراك مهمومًا؟
قال: إني أفكر في أمر.
قالوا: ما هو؟
قال: سفينة تأتي في عرض البحر، وتخوض عباب البحر بأمواجه المتلاطمة حتى تصل إلى الميناء، فتقوم بإفراغ حمولتها، ثم بعد ذلك تدور وتعود من حيث جاءت. فأفكر كيف تمَّ هذا الأمر؟
قالوا: سبحان الله! أوتظن أن هذا يحدث؟! هذا لا يعقل!
قال: أنت الآن تنكرون وجود الله -عز وجل- وهو الذي خلق السماء والأرض والجبال بهذا التدبير العجيب، ولا تنكرون هذا الفعل. {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258].
بعض الناس إذا أخذ شهادة عالية يظن أنه بإمكانه أن يطمس على أعين الناس وقلوبهم، والشهادة العالية يوم أن تؤمن بالله -جل وعلا- وتوقن حق اليقين بأن ما قاله الله ورسوله هو الحق.
أعرابي لا يقرأ ولا يكتب، ولم يدخل جامعة ولا مدرسة، قيل له: كيف عرفت الله؟ ما الدلالة على وجود الله في نظرك ايها الأعرابي؟
فقال لهم -بالأشياء التي محيطة به- قال: البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، ونجوم زاهرة؛ ألا تدل على اللطيف الخبير؟!
تأملْ في رياض الأرض وانظرْ ** إلى آثار ما صنع المليكُ
عيونٌ من لجينٍ ناظراتٌ ** بأبصارٍ هي الذهبُ السبيكٌ
على قضبِ الزبرجدِ شاهداتٌ ** بأنّ الله ليس له شريكٌُ
فهذا دليل العقل على وجود الله -جل وعلا.
أيضًا من الأدلة: دليل التمانع.
وهو قول الله -جل وعلا: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] .
يقال: هذا الكون لابد له من إله، إذا كان اثنين:
- فإما أن يكون كل واحد منهما قادرا على الآخر.
- وإما أن يكون غير قادرين على بعضهما.
- وإما أن يكون أحدهما أقوى من الآخر.
فأما الأول -أن يكون كل واحد منهما قادرا على الآخر- فهذا محال. لماذا؟ لأنه جمع بين النقيضين: العجز والقدرة. وهذا لا يجتمع.
وإما ألا يقدر كل منهما على الآخر، فلا يستحقَّا أن يكونا إلهين.
وإماان يقدر أحدهما على الآخر. فالقادر هو الذي يستحق أن يكون هو الإله، ولذلك فليس هناك إلا إله واحد، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [طه: 98]، وبهذا نعلم الأدلة في القرآن وسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي فيها وجود الله -سبحانه وتعالى.
طبعًا الأدلة في ذلك كثيرة جدًّا.
يعني تأمل في هذه الآية: يقول ربي -جل وعلا: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات20-22].
تأمل في نفسك: أحيانًا يقولون: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء، لا يعرفها إلا المرضى.
كم من عمليات تجري في جسم الإنسان؟
إذا أردتم أن تعرفوا شيئًا واحدًا: انظروا إلى مَن ابتلاهم الله -جل وعلا- بالفشل الكلوي -نسأل الله أن يشفي مرضى المسلمين- يقومون بغسيل الكلى في الأسبوع قد يكون مرتين، وقد يكون ثلاث، وقد يكون أربع، مدة الغسيل من ثلاث إلى أربع ساعات، لكنهم يتجرعون معها ألمًا عظيمًا -نسأل الله أن يجعله في ميزان حسناتهم- بينما نحن الذين منَّ الله علينا بالعافية؛ فإن هذه الأمور تدور في أجسامنا دون أن نشعر بها.
ولهذا أمرنا الله -جل وعلا- بأن نتفكر في ملكوت الله.
ما هي العبادة التي كان يتعبد النبي -صلى الله عليه وسلم- بها ربه قبل البعثة حينما كان يذهب إلى غار حراء؟ فيتعبد الليالي ذوات العدد؟
كان يتعبد الله أولًا بإفراده بالعبادة، النبي ما سجد لصنم، ولا عبد وثن؛وإنما كان حنيفًا مسلمًا على ملة إبراهيم وما كان من المشركين، وكان يتعبد الله بعبادة التفكر في ملكوت الله، وهذه من العبادات العظيمة كما قال الله -سبحانه وتعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191].
فالتفكر في مخلوقات الله وفي آلاء الله وفي خلق الله؛ من أعظم ما يدل العبدَ على ربه -سبحانه وتعالى.
يقول الإمام الحسن البصري -رحمه الله- واسمع هذا الكلام العظيم ويقول: "ما زال العارف يعود بتذكره على تفكره، وبتفكره على تذكره، ويناطق القلوب حتى نطقت بالوحدانية لعلام الغيوب".
يقول -رحمه الله: "ما زال العارف يعود بتفكره على تذكره، وبتذكره على تفكره، ويناطق القلوب حتى نطقت بالوحدانية لعلام الغيوب" -جل وعلا.
يقولون إن أول رائد فضاء كان روسيا، وتعرفون الروس دينهم الإلحاد، لما نزل قالوا له:ماذا رأيت؟
قال: رأيت أن هذا الكون لابد له من إله.
ما ينفع أن هذا الكون بهذه الدقَّة المتناهية إلا ويكون له إله، وهو الله -سبحانه وتعالى.
تأملت في نماذج كثيرة من حياة الملحدين سواءً العرب أو الغرب، سواء كان ماركس أو لينين أغيرهم؛ فوجدت رسالة لباحث أمريكي في الدكتوراه أثبت من خلالها أن جميع الشخصيات التي أجرى عليها الدراسة وكانوا يتبنون فكر الإلحاد أنها نتجت بسبب أمراض نفسية كانوا يعانون منها، حرمان، مشاكل أسرية، تفكك، ونحو ذلك؛ فأدَّى هذا الأمر إلى أن يتبنوا هذه الأمور.
طبعًا الحديث في هذا يطول كثيرًا؛ ولكن حتى لا يأخذنا المقام.
قال: (الأُولَى:
أَنَّ اللهَ خَلَقَنَا، وَرَزَقَنَا، وَلَمْ يَتْرُكْنَا هَمَلا، بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولاً، فَمَنْ أَطَاعَهُ دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَاهُ دَخَلَ النَّارَ).
الله -عز وجل- لم يخلق الخلق عبثًا، كما قال -سبحانه وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] .
وقال -جل وعلا: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38] .
وفي آية: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27]
فالله -جل وعلا- خلق الخلق لحكمة عظيمة، وغاية نبيلة أبانها الله -جل وعلا- في سورة الذاريات، وهي قوله -عزوجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، أي: ليوحدوني ويفردوني بالعبادة.
فالله ما تركنا هملًا، ومن رحمة الله -جل وعلا- بنا أن أرسل إلينا الرسل، وأنزل إلينا الكتب من أجل أن تعلمنا عبادة الله -سبحانه وتعالى.
قال: (بَلْ أَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولًا).
قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]
فالرسل وظيفتهم الإنذار والإعذار حتى لا يقول أحد أنه لم يُرسل إليَّ أحد.
قال الله -جل وعلا: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
قال -رحمه الله: (وَالدَّلِيلُ على هذا).
وهنا فائدة نفيسة ستمر علينا في هذا الكتاب: الشيخ -رحمه الله- لا يقرر مسألة إلا ويأتي بالدليل لها من القرآن ومن سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.
ودائمًا تعود نفسك على أن قضية تستمع إليها تقول:ما هو الدليل؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111].
فالبرهان هو الدليل.
الدليل هو الموصل إلى المطلوب.
ما هو الدليل على أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا؛ بل أرسل إلينا رسولًا، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار؟ ما الدليل؟
قال: (وَالدَّلِيلُ على هذا: قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً} [المزمل: 15]).
إنا أرسلنا إليكم يا أمة محمد -اللهم صلِّ على رسول الله- {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً}[المزمل: 15]، وهومحمد -صلى الله عليه وسلم.
{شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ}، الألف واللام هنا للعهد، أي أن الرسول المقصود هنا موسى -عليه السلام- الذي أرسل إلى فرعون.
{فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلا} [المزمل:16]، وهذا يدل على أن مَن عصى الرسول؛ فإنه متوعَّد بعقوبة من الله -جل وعلا.
قال -سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102] .فلا يستوي من أطاع الله ومن عصاه، ولا يستوي من أطاع رسول الله -صلوات ربي وسلامه عليه- ومَن عصى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
هذه هي المسألة الأولى.
وهنا تأكيد مهم من المؤلف -رحمه الله- وهو أن كل شيء لابد له من ثمرة، فثمرة الطاعة: الإثابة. وثمرة المعصية: العقوبة.
ما ثمرة التوحيد؟
من أعظم ثمار التوحيد بعد نيل رضى الله -جل وعلا- وأنتم تعلمون أن أعظم عبادة نتقرب بها على الإطلاق إلى الله هي عبادة التوحيد.
قال -صلى الله عليه وسلم:(من لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئًا دخل النار). (شيئًا) نكرة، تعم كل شيء.
ما الذي يستفيده الموحد؟
يستفيد الموحد أنه يكون في رغبه وفي رهبه، في أقواله وفي أعماله وفي أعمال قلبه وفي أعمال جارحه يكون قاصدًا وجه الله -جل وعلا.
اسمع هذا البيت الذي يجمع لك هذا المعنى جميعًا:
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- بيت نفيس ويُكتب بماء العيون، يقول:
فلواحد كن واحدًا في واحد ** أعني سبيل الحق والإيمان
في سيرك إلى الله تحتاج إلى هذا البيت.
"فلِواحد" من هو؟ الله.
"كن واحدًا" ما المراد؟ في أعمالك.
"في واحد" في طريق واحد، وهوكتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
فلواحد كن واحدًا في واحد ** أعني سبيل الحق والإيمان
أيضًا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يغرس هذه الثمرة في قلوب أصحابه، وفي قلوب الأطفال والناشئة، يقول لابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: (يا غلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لن يضرك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف).
إذن هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية قال: (الثَّانِيَةُ:
أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ؛ وَالدَّلِيلُ ) هنا مرة أخرى يربينا على معرفة الدليل.
(وَالدَّلِيلُ على هذا: قول الله -جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن: 18]).
المسألة الثانية من أعظم المسائل ومن أهمها، وهي من الأمور التي يجب علينا معرفتنا والعناية بها وتعليمها للناس، لأنها دعوة الأنبياء والمسلين -عليهم الصلاة والسلام.
قال: (أَنَّ الله لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ).
أعظم الذنوب على الإطلاق ما هو؟ الشـرك بالله.
يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الفوائد: "واعلم أن الظلم ثلاثة دواوين:
- ديوان لا يغفر الله منه شيء.
- وديوان لا يترك الله منه شيء.
- وديوان لا يعبأ الله به".
فالديوان الذي لا يغفر الله منه شيء هو الشرك بالله، قال الله -سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48]، لذلك من مات وهو لا يشرك بالله شيئًا فيُرجى له الخير -بإذن الله عز وجل.
قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
وفي الآية الأخرى في سورة النساء: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النساء: 116] .
الديوان الآخر الذي لا يترك الله منه شيء في الظلم: ظلم العباد بعضهم لبعض، فلابد من القصاص.
والديوان الثالث الذي لا يعبأ الله به:هو ظلم الإنسان لنفسه.
ما الدليل على أن الشرك هو أعظم الظلم؟
قول لقمان: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13]، فأعظم الظلم على الإطلاق: الشـرك بالله -جل وعلا.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أو تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج: 31]. {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة: 72] .
فأعظم الظلم على الإطلاق وأعظم المعاصي على الإطلاق: هو الشرك بالله -جل وعلا.
قال: (لا يَرْضَى أَنْ يُشْرَكَ مَعَهُ أَحَدٌ فِي عِبَادَتِهِ، لا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ).
طيب، الملائكة أليسوا أقوام صالحين؟ الأنبياء أليس لهم فضل ومكانة؟ هل يجوز أن نعبدهم من دون الله -جل وعلا؟ لا يجوز.
الله -عز وجل- في القرآن فرَّق بين حقه وحق رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ا الدليل على ذلك؟
قال الله -سبحانه تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} [النور: 52]، فالطاعة لله ولرسوله، يجب علينا أن نطيع الله ويجب علينا أن نطيع رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
قال: {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ}، الخشية والتقوى عبادة، فلا يجوز أن تصرف إلا الله -سبحانه تعالى.
المشركون الذين كانوا يعبدون الأصنام والأوثان لم يكونوا يقصدون في عبادتهم الأصنام والأوثان أن اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى لم يكونوا يرون أنها تخلق من دون الله، ولا ترزق من دون الله؛بل كانوا يتخذونها واسطة ووسيلة بينهم وبين الله -جل وعلا.
ما الدليل على ذلك: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} لماذا تعبدونهم؟ {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي يريدونهم واسطة ووسيلة بينهم وبين الله -جل وعلا.
بل إن قوم نوح -عليه السلام- حينما قال ابن عباس عن ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، قال: "هذه أسماء رجال صالحين كانوا يعبدون الله، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن صوروا لهم تصاوير من أجل أنكم إذا رأيتموهم تنشطون في عبادة الله -جل وعلا-، ففعلوا هذا الأمر، فكان بعد ذلك لما تتطاول عليهم الزمان عبدوهم من دون الله-سبحانه وتعالى".
قال: (والدليل على هذا).
ما الدليل على أنه لا يجوز أن نصرف العبدة لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل؟
قال: (والدليل على هذا: قول لله -جل وعلا: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}).
ماهي المساجد؟ ما المراد بالمساجد؟
- إما أن يكون المراد بالمساجد بيوت الله: فبيوت الله -جل وعلا- لا يجوز أن نعبد فيها غير الله -سبحانه وتعالى.
- وإما أن يراد بالمساجد مواضع السجود، قال -صلى الله عليه وسلم:(أمرت أن أسجد على سبعة أعظم).
فسواء كان المراد بالمساجد هي بيوت الله، أو أنها الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان؛ فلا يجوز أن تصرف لغير الله -سبحانه وتعالى.
قال: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}.
القرآن فيه أسلوب بلاغي عجيب، يعني لو أن الإنسان يتحدث يقول: لا يجوز لك أن تعبد الصنم ولا الوثن ولا الشمس ولا...، ولا...، بينما القرآن جمع لك هذه المعاني جميعًا في كلمة واحدة وهي {أَحَداً}.
قال علماء البلاغة: إن{أَحَداً} نكرة، والنكرة في سياق النهي تأتي لماذا؟ للعموم.
فلذلك لا يجوز أن نعبد غير الله -عزوجل- ولا أن نصرف شيئًا من أنواع العبادة لا لملك مقرب، ولا لنبيٍّ مرسل.
(الثَّالِثَةُ:
أَنَّ مَنْ أَطَاعَ الرَّسُولَ، وَوَحَّدَ اللهَ لا يَجُوزُ لَهُ مُوَالاةُ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَبَ قَرِيبٍ؛ وَالدَّلِيلُ على هذا قول الله -سبحانه تعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءهُمْ أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]).
هذه المسألة هي التي يعنون لها علماء العقيدة بمسألة الولاء والبراء، وهي من أوثق عرى الإيمان.
يقول سيدي -صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله).
ما معنى الولاء والبراء؟
الولاء: مأخوذ من الوِلاية والمحبة والنصرة والقرب، كل هذه المعاني من معاني الولاء.
والبراء: مأخوذ من البعد والبغض.
فهذا هو معنى الولاء ومعنى البراء.
الولاء والبراء ليس مرتبطًا بحسب ولا نسب، ولا أسماء، ولا مناهج، ولا جماعات؛ وإنما هو مرتبط في الإسلام بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.
هذه المسالة من مسائل العقيدة التي تحدث عنها العلماء وبينها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه، وهي سنة أبينا إبراهيم -عليه السلام- {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة: 4]، فهذه المسألة مربطة بالإيمان، وهي من شروطه كما قال الله -جل وعلا: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81] .
الناس في الولاء والبراء على أقسام:
-فهناك مَن يجب علينا مولاتهم ولاءً مطلقًا لا براء معه، وهم أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يجب علينا أن نتولاهم جميعًا وأن نحبهم جميعًا، كما قال الله -عز وجل: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10].
-وهناك مَن يجب علينا أننتبرأمنهم تبرأً كاملًا كما فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته مع المشركين، كا قال الله -عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] .
-وهناك من يوالى من وجه ويُعادى من وجهٍ آخر، وهو من يسمَّى بالفاسق الملِّيّ، وهو من أهل الإسلام الذين لهم حسنات ولهم سيئات والذين لهم طاعة ولهم معصية، فنواليهم ونحبهم على ما معهم من الطاعة، لكننا نتبرأ من المعاصي التي يفعلونها.
الولاء والبراء من العقيدة العظيمة التي حثَّنا عليها نبينا -صلى الله عليه وسلم.
وهنا ننبه على مسائل:
هناك فرق بين الموالاة والتولِّي.
فالتولِّي: هو الذي يُخرج من الإسلام، تحب غير دين الإسلام كما تحب الإسلام، وهذا الذي قال الله -عز وجل عنه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] . فأنت تحب دينهم؛ فمحبة هذا الدين يُخرج المسلم من دينه، {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].
الثاني: ما يسمى بالموالاة.
الأول التولِي. وهذا الموالاة.
الموالاة محرَّمة: وهي أن تحب غير المسلم لأجل الدنيا وليس لأجل الدين.
وهنا عِدَّة مسائل في غاية الأهمية تتعلق بالولاء والبراء، لأن مسائل الولاء والبراء من المسائل التي غلا فيها البعض، وجفا فيها آخرون.
الجفاة يريدون محوها من الشريعة، والغلاة يحمِّلونها ما لا تحتمل، ويجعلون فيها مسائل لم يأذن بها الله ولا رسوله -صلى الله عليه وسلم.
من ذلك: أن الإحسان إلى غير المسلمين لا يناقض عقيدة الولاء والبراء، فحينما تحسن إلى يهودي، أو تحسن إلى نصراني؛ فهذا لا يخرجك عن دين الله -جل وعلا- ؛ بل هو من سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال الله -عز وجل: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
نبينا -صلى الله عليه وسلم- كان له جار يهودي، وتعلمون عداوة اليهود للمسلمين، كما قال الله -عزوجل: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] .
كان للنبي -صلى الله عليه وسلم- غلام جاره يهودي، فمرض هذا الجار، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بزيارته -ذهب ليزوره- فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم: (يا غلام! أما آن لك أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟). فالتفت الغلام إلى أبيه فقال: أطِع أبا القاسم.
هذا هو الدين، وهذه هي الرحمة.
قال: أطِع أبا القاسم.
فقال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله.
ومما لا ينقض الولاء والبراء: المحبة الطبيعية.
قد يكون للإنسان زوجة غير مسلمة، فيحبها محبة طبيعيَّة فطر الله -عز وجل- الناس على أن يحب الرجل زوجته، فهذا أيضًا لا يناقض عقيدة الولاء والبراء.
قال -رحمه الله: (والدليل على هذا: قول الله -سبحانه وتعالى: {لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}).
فأهل الإيمان لا يوادُّون مَن يُبغض الله ويُبغض رسوله -صلى الله عليه وسلم.
قال: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ}، يقال أنها نزلت في أبي عبيدة عامر بن الجراح حينما قتل أباه في غزوة بدر، صدَّ عن أبيه، فلما همَّ بقتله؛ قتل أباه، فأثنى عليه النبي -صلى الله عليه وسلم.
قال: {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أو أَبْنَاءهُمْ} قيل أنها نزلت في ابن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه.
{أو إِخْوَانَهُمْ أو عَشِيرَتَهُمْ}، قيل نزلت في عمر لما طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقتل بعض أقاربه الذين آذوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
{أو عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}، من يأتِ بهذه العقيدة ويكون ولاؤه وبراؤه لله –عز وجل- وعده الله -سبحانه وتعالى- بجنات عدن ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إذن؛ هذه هي عقيدة الولاء والبراء بتفاصيلها التي يجب أن يكون عليها المسلم، فلا يغلو ولا يجفو؛ وإنما يكون وسطًا، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143]، وهي العدل الخيار.
السيوطي -رحمه الله- له رسالة نفيسة اسمها "الجواب الذي انضبط في لا تكن حُلوًا فتسترط ولا مرًا فتعقى"، وهذه من الوسطيَّة التي يجب أن يكون عليها المسلم في حياته، أن يكون داعيًا إلى الله -جل وعلا- بأقواله وأفعاله وبالرحمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن مع الجميع حتى يُبيِّن للناس عظمة دين محمد بن عبد الله -صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله الطيبين الطاهرن وأزاجه أمهات المؤمنين.
لعلنا نكتفي بهذا الحديث في هذا اللقاء.
وبالنسبة -بإذن الله عزوجل- لهذه الأسئلة؛ سأجمعها باستمرار ونخصص يومًا في نهاية هذه الدروس للإجابة عنها -بإذن الله سبحانه وتعالى.
أسأل الله -عزوجل- بمنِّه وكرمه أن يوفقنا جميعًا لما يحب ويرضى، وأن يأخذ بنواصينا إلى البر والتقوى، اللهم إنا نسألك عيش السعداء، وميتة الشهداء، والنصر على الأعداء، اللهم كن لنا يارب الأرض والسماء، اللهم إنا نسألك قلوبًا خاشعة، وأعينًا دامعة، وألسنًا ذاكرة، وأجسامًا صابرة، اللهم إنا نسألك إيمانًا صادقًا ويقينًا راسخًا.
نسألك يا ربنا علمًا نافعًا، وعملًا صالحًا، ورزقًا طيبًا، وعملًا متقبلًا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم يسر أمورنا، اللهم فرج كروبنا، اللهم اشرح صدورنا، اللهم اجعلنا ممن يرفع لا إله إلا الله، وارفعنا بها، واجعلها آخر كلامنا من الدنيا.
ربنا وخالقنا كما جمعتنا في هذا المكان الطيب المبارك؛ اللهم اجمعنا في دار كرامتك ومستقر رحمتك في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في سوريا، الله مكِّن لإخواننا في فلسطين، اللهم كن لهم في بورما، اللهم كن لهم في العراق، اللهم كن لهم فوق كل أرض وتحت كل سماء يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم يا رب العالمين؛ اللهم أصلح مصر وأهلها، اللهم آمن أهلها في أوطانهم، وأصلح أئمتهم وولاة أمورهم اللهم، يا ذا الجلال والإكرام اللهم ارزقهم التوافق والتراحم والتآخي يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألِّف بين قلوبهم على الحق والدين، اللهم من أراد مصر وأهلها بسوء اللهم أشغله بنفسه، اللهم اجعل كيده في نحره، اللهم اجعل تدبيره تدميره يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق مصر وأهلها وعلماءها ومفكريها ورجالها ونساءها وشبابها وصغارها؛ اللهم اجعلهم عدَّة لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمعنا في دار كرمتك يا حنَّان يا منَّان يا بديع السماوات والأرض والأكوان.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات 180- 182].
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://islamacademy.net/media_as_home.php?parentid=60