مادة البناء العلمي
لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني
الدرس (6)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد:
أيُّها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم في درسٍ جديدٍ من دروس البناء العلمي، والذي من خلاله نتحدَّث عن مجموعةٍ من الأُسس التي إذا رعاها طالبُ العلم فإنَّها -بإذن الله عز وجل- ستُسهِّل له وصوله إلى غايته وبُغيته.
في اللِّقاء الماضي تحدَّثنا عن مجموعةٍ من الأسس والقواعد التي ينبغي لطالب العلم أن يُراعيها، وكنا قد تحدَّثنا عن مجموعةٍ من الأسس أطلقنا عليها مُسمَّى (مفاتيح العلوم).
وقلنا: إنَّ مفاتيح العلوم أربعة:
الأول: السؤال.
والثاني: القراءة.
والثالث: البحث.
والرابع: التَّلقِّي عن العلماء.
إذن هذه هي مفاتيح العلوم الأربعة.
فتحدَّثنا عن السؤال، وتحدَّثنا عن القراءة، وتحدَّثنا عن البحث.
وفيما يتعلَّق بالقراءة قلتُ لكم أن تُذكروني بأمرٍ، لكنَّكم نسيتم، وهو كيف تُرتِّب مكتبتك.
فطالب العلم أثناء الطلب وأثناء التَّحصيل يجمع العديد من الكتب، فإذا استطاع أن يجعل مكتبته مُرتَّبةً بشكلٍ سليمٍ سيستطيع أن يصل إلى المعلومة بشكلٍ جيدٍ وسهلٍ، ومن الأمور التي تُسبب الحزنَ لطالب العلم أن يفقد كتابًا، أو أن يكون لديه مكتبة كبيرة فينسى مكان الكتاب في هذه المكتبة، ويُعوِّلُ عليه كثيرًا في المسائل التي يعود إليها.
كيف تُرتِّب المكتبة؟
- المكتبة إمَّا أن تُرتَّب على الفنون.
- وإمَّا أن تُرتَّب على المواضيع.
- وإمَّا أن تُرتَّب على أسماء المُؤلِّفين.
والأفضل أن تجمع بين هذه الطُّرق الثلاث جميعًا.
أولًا: الترتيب على الفنون: فكتب المذهب الشافعي تكون بجانب بعضها البعض في الفقه مثلًا، وطبعًا تبدأ بالفقه، فتُرتِّب كتب الفقه على حدة، وأصول الفقه على حدة، والنحو على حدة، والعقيدة، والتفسير، وكلّ فنٍّ من الفنون يكون على حدة في ترتيبك للمكتبة.
فإذا دخلت مثلًا إلى كتب الفقه، فلديك أربعة مذاهب، فتجعل لكلِّ مذهبٍ الكتب التي تخصُّه مجتمعةً مع بعضها، فكتب المذهب الشافعي وحدها، ثم الحنفي، ثم الحنبلي، ثم المالكي، وأيضًا المذهب الظَّاهري، وغيرها.
هذا الترتيب سيُسهِّل عليك مهمة البحث التي هي إحدى مفاتيح العلوم الأربعة التي تحدَّثنا عنها.
والمُكثِرين من التأليف من العلماء يُفضَّل أن تجمع كتبَهم على حدة، مثل ابن تيمية -رحمه الله- وابن القيم، وابن الجوزي، وابن كثير، وغيرهم من العلماء، فتجعل كتبهم قريبةً من بعضها.
تأتي أيضًا إلى المواضيع وخاصَّة في الكُتيبات الصَّغيرة، فتجعل كلَّ كُتيبٍ مع الموضوع الذي يخصُّه، فهناك كُتيبات تخصّ الفقه، وكُتيبات تخصّ العقيدة، والنحو، واللغة، فتجمع كلَّ الكتب على حدة حتى تستطيع أيضًا الوصول إليها بسُرٍ وسهولةٍ، ولا تحقر أيَّ كتابٍ؛ لأنَّه لا يخلو أيُّ كتابٍ من فائدةٍ.
نتحدَّث الآن عن المفتاح الرابع وهو: (مفتاح التَّلقِّي عن العلماء): وهو من أهم المفاتيح على الإطلاق؛ بل يكاد يكون هو أول الطريق إلى تلقِّي العلم، فحينما تقرأ في سير العلماء تجد أنَّ أول طريقٍ بدؤوا فيه كان التَّلقِّي على العلماء وعلى المشايخ، حتى الطفل حينما يبدأ في تعلم القراءة في الكتاتيب ونحو ذلك يبدأ أيضًا بالتَّلقِّي عن العلماء.
في قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى﴾ [البقرة: 159]، يقول أبو هريرة -رضي الله عنه: "لولا آيتان من كتاب الله ما حدَّثتُ حديثًا". وذكر هذه الآية، ثم قال: "إنَّ إخواننا من المُهاجرين شغلهم العملُ في السُّوق، وإخواننا من الأنصار شغلهم العمل في البساتين". ثم ذكر -رضي الله عنه وأرضاه- أنَّه كان مُلازمًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنال من العلم ما لم ينله غيرُه.
يقول ابنُ عبد البر -رحمه الله- في "جامع بيان العلم وفضله": "وفي هذا دليلٌ على تلقِّي العلم عن الأشياخ".
والعلماء يقولون: "مَن دخل في العلم وحده خرج منه وحده"، وكانوا يقولون أيضًا: "لا تأخذ العلمَ من صُحُفي، ولا القرآنَ من مصحف"، أي لا تأخذ القرآنَ من شخصٍ قرأ القرآنَ على نفسه، وتلقَّى القرآن على نفسه، ولم يأخذه على يد العلماء؛ لأنَّه لابُدَّ أن تكون لديه أخطاء في التلاوة.
والعلم كذلك لا تأخذه على مَن يقرأ في الصُّحف؛ بل خذ العلمَ من العلماء الذين أخذوه كابرًا عن كابرٍ.
وكان بعضُ السلف يقول: "إنَّ هذا العلم كان عزيزًا لما تلقَّيناه عن الشيوخ، ثم لما صار في بطون الكتب تلقَّاه كلُّ أحدٍ".
إذن من أهم الأمور التي يحرص طالبُ العلم عليها: أن يقرأ أو أن يتلقَّى العلم على يد العلماء، ولا يُعرَف على الإطلاق أنَّ أحدًا تحدَّث عن أنَّ لطالب العلم أن يترك القراءة عن العلماء إلا علي بن رضوان المصري المتوفى سنة 453هـ في القرن الخامس، فكان -رحمه الله- يرى أنَّه ليس شرطًا أن تتلقَّى العلم على يد العلماء، فعابه العلماءُ على هذا القول، والصدفي -رحمه الله- ردَّ عليه ردًّا قويًّا، وكذلك ابن خلدون في مُقدِّمته المعروفة بـ(مقدمة ابن خلدون).
أيضًا من الأمور المهمة: أنَّ طالب العلم حينما يتلقَّى العلم على العلماء فإنَّه يتلقَّى العلم بطريقةٍ صحيحةٍ؛ لأنَّ أعظم شيءٍ أن تتلقَّى العلم بشكلٍ خاطئٍ ثم تبني عليه الخطأ، وكما يقول المتنبي:
إِذَا مَا الجُرْحُ رُمَّ عَلَى فَسَادٍ *** تَبَيَّنَ فِيهِ تَفْرِيطُ الطَّبِيبِ
ثم قال:
فَإِنَّ الجُرْحَ يَنفِرُ بَعدَ حينٍ *** إِذَا كَانَ البِنَاءُ عَلى فَسادِ
أضرب لكم مجموعةً من الأمثلة:
ابن عساكر -رحمه الله- له كتابٌ نفيسٌ اسمه "تصحيفات المُحَدِّثين"، وهذا العلم من العلوم التي بحثها العلماءُ، وهو خاصٌّ بالأخطاء التي يقع فيها المُحدِّثون، وخاصَّةً إذا أخذوا الحديث من غير العلماء، وذكر من بين هؤلاء أنَّ رجلًا كان يقرأ في قول الله -سبحانه وتعالى: ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 1، 2]، يقول: فسُمِعَ وهو يقرأ -تعرفون أنَّه لم يكن لديهم نقطٌ في القديم- "ذلك الكتاب لا زيت فيه هدى للمتقين"، وسبب هذا الخطأ: أنَّهم سابقًا لم يكن لديهم نقطٌ، فكان العلمُ لابُدَّ أن يُتلقَّى مباشرةً مُشافهةً عن الشيوخ.
وأحدهم قرأ قول النبي -صلى الله عليه وسلم : «الحَبَّةُ السَّودَاءُ دَوَاءٌ لِكُلِّ دَاءٍ»، فمرض قريبُه، فأخذ ثُعبانًا وطبخ مرقَه ثم قدَّمه لصاحبه فمات، وهذا بسبب تصحيف الحديث.
ونحن قد نضحك من هذا الأمر، لكن بالفعل هي أخطاء وقعت.
وكتاب ابن عساكر -رحمه الله- في مجلدين مليء بمثل هذه النَّماذج الكثيرة التي تحدَّث عنها العلماءُ -رحمهم الله.
ولو تأمَّلتم في تاريخ العلماء -رحمهم الله- لوجدتُم مَن يُقال عنه: وتلقَّى العلمَ على يد ألف ومئتي شيخٍ، أو تلقَّى العلم على يد مئة شيخٍ، وهكذا. وهذا لا شكَّ أنَّه دليلٌ على الحرص على طلب العلم والتَّعلُّم.
بَقِيّ بن مخلد الأندلسي له قصَّة مشهورة جدًّا في طلب العلم، فقد رحل من الأندلس إلى بغداد، ومن الأندلس إلى بغداد الآن بالطائرة مسيرة ساعات كثيرة، وكانوا قديمًا يتنقَّلون في طلب العلم عن طريق إمَّا الرَّواحل والدَّواب، أو عن طريق المشي، فبعد مرور شهرٍ وصل إلى بغداد، فوجد أنَّ الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- قد امتُحِن ومُنِعَ من التدريس، فقرع باب الإمام أحمد فقال له الإمامُ: لا أستطيع أن أُحَدِّثُك فقد مُنِعْتُ. قال: يا إمام، سآتي إليك كلَّ يومٍ على هيئة سائلٍ، وأطلب منك مالًا فتُعطيني الحديث وأنصرف. واستمرَّ على هذا الوضع، يأخذ من الإمام في كلِّ يومٍ ثلاثة أحاديث أو أكثر ثم ينصرف، حتى فرَّج الله عن الإمام محنته -رحمه الله.
وهناك قصص طويلةٌ ومشهورةٌ جدًّا، لكن لدينا مجموعة أُسس لا نُريد أن يذهب الوقتُ في بعضها.
يقول الإمامُ نافع بن عبد الله: "جالستُ الإمامَ مالك أربعين سنةً"، أربعين سنة وهو يطلب العلمَ على يد الإمام مالك -رحمه الله تعالى.
مَن هو العالم الذي تطلب على يديه العلم؟
سؤالٌ مُهمٌّ، وخاصَّةً في هذا الزمان الذي أعتقد أنَّ الوصول فيه إلى العلماء أكثر يُسرًا وسهولةً من السابق، فمع وجود التقنية الحديثة ووسائل الاتِّصالات تستطيع أن تصل إلى العالم الذي تريده.
مَن هو العالم الذي تطلب على يديه العلم؟
يقول الحسن -رحمه الله: "إنَّ العلم دينٌ فانظروا عمَّن تأخذون دينَكم"، فالعالم الذي تأخذ على يديه العلم ورعه وتقواه وخوفه من الله وعلمه سيكون له أثرٌ في القول الذي يقوله لك، وكذلك سيكون له أثرٌ في حياتك.
فإذن يجب على طالب العلم أن يتحرَّى الشخص الذي يطلب على يديه العلم.
كيف تعرف العالم؟ وكيف يُعرَف؟
أولًا: شهادة مشايخه له بالعلم: يقول الإمامُ مالك -رحمه الله- وهو إمام دار الهجرة: "لا ينبغي لرجلٍ يرى نفسه أهلًا لشيءٍ حتى يسأل، وقد سألتُ ربيعة، ويحيى بن سعيد؛ فأمراني بذلك". أمراه بأن يجلس للناس ويُلقِّنهم العلم.
بعض العلماء خاصَّة الذين ليس لهم مثلًا دروس ومحاضرات مُسجَّلة، كيف تعرف الواحد منهم؟
تعرفه من خلال تحريره للفتاوى والدروس، فمن خلال الفتاوى التي يُقدِّمها، والدروس التي يُلقِيها؛ تستطيع أن تعرف قوَّته وقدراته العلمية، وبالتالي تأخذ العلم على يديه.
كذلك من الشروط التي ذكرها العلماء: أن يُؤخَذ العلم عن الأكابر، وقد ورد في بعض الأحاديث أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُلْتَمَسَ الْعِلْمُ عِنْدَ الأَصَاغِرِ»، ما المراد بالأصاغر؟
{الأصاغر: ليس الأصغر سنًّا، فربما يُقصَد بالأصاغر غير المُلمين بفنون العلم}.
فسر العلماءُ الأصاغر بعدة أقوالٍ:
القول الأول قالوا: المراد بالأصاغر: طلب العلم على أهل البدع.
وقيل المراد بالأصاغر: مَن دون الصَّحابة -رضوان الله عليهم.
وقيل المراد بالأصاغر: أخذ العلم على صغار السِّن.
وهذا كله من اختلاف التنوع.
والمراد: أن تحرص على العلماء الذين تأخذ عنهم العلم، فقد يكون الإنسانُ صغيرًا في السِّن، ولكن لديه من العلم الشيء الكثير فتأخذ عنه، لكن هو يُطلَب منه ألا يتصدر سريعًا، وأنت أيضًا لا تستنكف عن الفائدة من أيِّ شخصٍ، لكن لا شكَّ أن أخذ العلم على يد الكبار له أثرٌ كبيرٌ في حياة العلماء، وكان العلماءُ في تراجمهم وفي سِيَرِهم الذاتية يكتبون أسماء العلماء الذين التقوا على أيديهم.
أيضًا من الأمور التي تُراعيها في العالم الذي تدرس على يديه: أن تُراعي التَّخصص، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «أَرْحَمُ الأُمَّةِ بِالْأُمَّةِ أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُم فِي دِينِ اللهِ عُمَرُ، وَأَعْلَمُهُم بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذٌ، وَأَفْرَضُهُم زَيْدٌ»، فالعالم قد يكون لديه استيعابٌ جيدٌ في شتى العلوم، لكن تجد أنَّ لديه تفوُّقًا في أحد هذه العلوم، فاحرص على أن تأخذ هذا العلمَ من هذا العالم.
والتَّخصص مطلوبٌ، فينبغي أن يتخصص الإنسانُ خاصَّةً في هذا الوقت مع انتشار العلوم وتوسُّعها، فيوجد هناك المُتخصِّص في الفقه، وفي داخل الفقه تجد المُتخصِّص في القواعد الفقهية، وفي أصول الفقه، وفي المذاهب الفقهية، وهناك المُتخصِّص في العقيدة، والمُتخصِّص في المذاهب المُعاصرة، والمُتخصِّص في الأديان والفِرَق، فهناك تخصُّصات مختلفة، فإذا استطعت أن تصل إلى العالم المُتخصِّص في العلم الذي يُجيده فسيكون له أثرٌ كبيرٌ في حياتك.
أيضًا من الأمور المُهمة: أن تحذر من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «سَيَأْتِي عَلَى أُمَّتِي زَمَانٌ يَكْثُرُ فِيهِ الْقُرَّاءُ، وَيَقِلُّ فِيهِ الْفُقَهَاءُ، وَيُقْبَضُ فِيهِ الْعِلْمُ»، فنحن أُمَّة مُتكاملة، فالواعظ يقوم بدورٍ عظيمٍ، والدَّاعية يقوم بدورٍ عظيمٍ، والعالم يقوم بدورٍ كذلك، والعالم هو داعية وواعظ، لكن قد يُيسِّر الله -عز وجل- لبعض الناس من الوصول إلى قلوب الناس ما لا يُيسِّر لغيرهم، فيجب أن تأخذ من كلِّ إنسانٍ ما يُحسِنه، فالواعظ تأخذ منه وعظه، والدَّاعية تأخذ منه دعوته، والعالم تأخذ منه علمه، فلا تستفتي إلا العالم، ولا تأخذ العلم إلا عن هؤلاء العلماء، وقد حدث ما قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّه يكثر في آخر الزمان القُرَّاء ويقل الفقهاءُ.
إذا تلقَّى طالبُ العلمِ العلمَ على يد العلماء؛ ما الذي يجنيه؟ ما الذي يستفيده؟
أول أمرٍ يستفيده: أن العالم يختصر له الطريق، كيف؟
الشيخ يقرأ أحسن ما يجد، ويحفظ أحسن ما يقرأ، ويبُثّ للتلاميذ أحسن ما يحفظ، ويُعطيك خلاصة العلم الذي قد تأخذ فيه وقتًا طويلًا حتى تصل إليه؛ فالعالم يُقدِّمه لك في دقائق معدودةٍ، فيختصر لك الوقت، ويختصر لك الزمن، وتستفيد من تجربته وحياته مع العلم والعلماء، وهذا أحد الأسباب التي تجعل الطالبَ يأخذ العلم على الأكابر.
فالذي في سن الأربعين وهو يقرأ من الخامسة عشرة أو السادسة عشرة من عمره، لا شكَّ أنَّ لديه تراكُمًا علميًّا أكثر من الشخص الذي في الثلاثين، وأكثر من الشخص الذي في العشرين.
إذن هذا التَّراكم يُعطيك العالمُ خلاصَتَه من خلال هذه الكلمات.
أُعِيد الكلمة التي ذُكِرت قبل قليل: أنَّ العالم يقرأ أحسنَ ما يجد، ويحفظ أحسنَ ما يقرأ، ويُقدِّم للتلاميذ أحسنَ ما يحفظ، وبهذا يُقدِّم خلاصتَه العلمية للناس.
أيضًا من الفوائد: أن تستفيد من أدب الشيخ: يقولون: الإمام أحمد -رحمه الله- كان يحضر في حلقته ما يزيد عن خمسة آلاف، خمسمئة فقط يكتبون الحديث -هؤلاء طلبة علم- والبقية يأخذون من هديه ومن أدبه -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
بالفعل بعض العلماء إذا رأيتهم تذكر الله، وإذا استمعت إلى الواحد منهم يُذكِّرك بالله -عز وجل- وإذا رأيت خشوعه، وهديه، وسَمْتَه؛ فإنَّه يدلُّك على ربِّك -سبحانه وتعالى- وهذا قول الحسن -رحمه الله: "إنَّ الرجل ما يلبس أن يطلب العلمَ حتى يظهر هذا في سَمْتِه، وفي أدبه، وفي لسانه، وفي خُلُقِه، وفي تعامُله مع الناس".
أيضًا من الأمور المهمَّة التي يتحدَّث عنها العلماءُ في هذا الباب، وخاصَّةً في كتاب "تذكرة السامع والمتكلم" لابن جماعة، وكتاب السَّمعاني "أدب الإملاء والاستملاء"، فلو نظرتم إلى تفاصيل الآداب التي يذكرونها لطلاب العلم لوجدتم عجبًا، وكالعادة أنا لا أستطيع أن أستوعب، لكن -إن شاء الله- في كتاب "البناء العلمي" تستطيعون أن تأخذوا هذه التَّفاصيل، فهناك تفاصيل دقيقة تُقدَّم لطالب العلم، منها: كيف يتعامل مع شيخه في الكلام؟ وكيف يتعامل معه في السلام؟ وكيف يتعامل معه في المشي؟ وكيف يتعامل معه حينما يريد أن يسأل؟ وكيف يتعامل معه إذا أراد أن يكتب؟ وتفاصيل دقيقة أخرى، كلّ ذلك مُراعاةً لهذا العالم الذي يُقدِّم لك العلم.
والعلماء يستدلُّون على آداب الطالب مع شيخه بحديث عمر -رضي الله عنه- حينما أتى جبريل -عليه السلام- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال عمر -رضي الله عنه: "فخرج علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديدُ سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منَّا أحد، حتى جلس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأسند رُكبتيه إلى رُكبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، ثم قال: «يَا مُحَمَّد، مَا الإِسْلَامُ؟»".
انظر: أتى بثوبٍ جديدٍ، وبهيئةٍ جيدةٍ، ثم بطريقةٍ في الجلوس تُوحي أنَّه يريد العلم، ويريد الاستفادة، فهذا كله -كما ذكر العلماءُ رحمهم الله تعالى- فيه بيان آداب طالب العلم في حلقة الشيخ، وكيف يجب أن يتلقَّى العلم على يديه؟
يقول الله -عز وجل- في كتابه: ﴿يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11]، ويقول النبيُّ -صلى الله عليه وسلم : «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالمِنَا حَقَّهُ»، والإمام الآجُري -رحمه الله- يقول: "إنَّ من الشريعة إجلال أهل الشَّريعة".
أيضًا من الآداب: التَّواضُع للعالم: فلا ينبغي لطالب العلم أن يُظهِر كِبرًا في قوله، أو في لحظه، أو في لفظه أمام العالم، أو أمام الشيخ الذي يتلقَّى العلمَ على يديه؛ لأنَّه إذا كان الإنسانُ مطالبًا أن يتواضع للناس جميعًا فلأن يتواضع مع العالم الذي يأخذ العلمَ على يديه من باب أولى:
إِنَّ المُعَلِّمَ وَالطَّبِيبَ كِلَاهُمَا *** لَا يَنْصَحَانِ إِذَا هُمَا لَمْ يُكْرَمَا
فَاصْبِرْ لِدَائِكَ إِنْ جَفَوْتَ طَبِيبَهُ *** وَاصْبِرْ لِجَهْلِكَ إِنْ جَفَوْتَ مُعَلِّمَا
أيضًا من الآداب التي يتحدَّث عنها العلماء: لزوم الشيخ وعدم مُفارقته:
فالعلم -كما ذكرتُ لكم سابقًا- ليس له عمر، فما دمت تُحسِن العيش في الحياة؛ فلابُدَّ أن تطلب العلم، وإذا أصبحت عالمًا؛ فلابُدَّ أن تستمر في طلب العلم على يد العلماء.
وأنا أتذكر في حياة سماحة شيخنا الجليل الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى- أنَّه كان الذين يقرؤون بين يديه هم كبار طلبة العلم الذين يُدرِّسون في الجامعات وفي المساجد، فلم يمتنعوا ولم يتوقَّفوا عن طلب العلم؛ بل استمرُّوا، فأصبحوا يأخذون ويُعطون، وهكذا تستمر الحياة لدى طالب العلم.
يقول أبو الدَّرداء -رضي الله عنه: "من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومخرجه مع أهل العلم".
أيضًا من الأمور المُهمَّة: الوفاء للعالم الذي تلقَّيت على يديه العلم.
كان أحد السَّلف يقول: "إذا سمعت الحكمةَ والفائدةَ من رجلٍ؛ بقيت له عبدًا ما حييت".
ومن أعظم الوفاء: الدُّعاء للعالم، وهو الذي يرجوه العالم من تدريسه، ومن دعوته؛ لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَو وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»، وهو ينظر إلى تلاميذه كأنَّهم أبناء له، فيرجو منهم الدعاء له.
ولهذا يقول الإمامُ أبو حنيفة: "والله إني لأدعو لحمَّاد مع أبويَّ"، فقال أبو يوسف -تلميذ أبي حنيفة: "والله إني لأدعو لأبي حنيفة مع أبويَّ"، وكما تدين تُدان.
أيضًا من القضايا المهمَّة التي تحدث عنها العلماءُ: كيف تتعامل مع تنافس العلماء؟
طبعًا لا نُريد أن نقول أنَّ العلماء أشدّ تنافُسًا من التِّيُوس في زَرَائِبها، لكن قد يحدث بين العلماء ما يحدث بين الناس، وابن تيمية يقول: "لا يخلو جسدٌ من حسدٍ، لكن الكريمَ يُخفيه، واللَّئيم يُظهِره".
فقد حدث بين ابن حجر -رحمه الله تعالى- والبدر العيني من الخلاف ما يعرفه الكثير، وكلاهما شرح صحيح البخاري.
ما اسم صحيح البخاري؟
"الجامع الصَّحيح المُسنَد المُختَصَر من سُنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأيَّامه وأقواله".
شرحه ابنُ حجر في كتاب "فتح الباري"، وشرحه البدر العيني في "عمدة القاري"، وكان كلاهما يعملان في نفس العمل في القضاء، وكان الإمامُ ابن حجر شافعيَّ المذهب، والبدر العيني حنفيَّ المذهب، فحدث بينهما ما يحدث بين الأقران، وكان في جامع المُؤيَّد في مصر منارةٌ شامخةٌ وعاليةٌ جدًّا، فسقطت هذه المنارة، فقال ابن حجر -رحمه الله تعالى- بيتين من الشعر يقول فيها:
لِجَامِعِ مَولانَا المُؤَيَّدِ رَونَقٌ *** مَنارَتُهُ بِالحُسْنِ تَزْهُو وَبِالزَّينِ
تَقُولُ وَقَد مَالَت عَلَيهِم تَمَهَّلُوا *** فَلَيسَ عَلَى حُسْنٍ أَضَرُّ مِنَ الْعَينِ
فهمتموها؟ هو يُعرِّض بمَن؟ بالبدر العيني -رحمه الله تعالى- حيث يقول:
تَقُولُ وَقَدْ مَالَت عَلَيهِم تَمَهَّلُوا *** فَلَيسَ عَلَى حُسنٍ أَضَرُّ مِنَ العَينِ
فقال بدرُ الدين العيني -رحمه الله تعالى:
مَنَارَةٌ كعَرُوسِ الحُسْنِ إِذ جُلِيَت *** وَهَدْمُها بقَضَاءِ اللهِ والْقَدَرِ
قَالُوا أُصِيبَت بعَينٍ، قُلتُ ذَا غَلَطٌ *** وَإِنَّمَا آَفةُ الهَدْمِ خِسَّةُ الحَجَرِ
ماذا يفعل الطالبُ في هذه الحالة؟ فأحيانًا يتحمَّس بعضُ طلبة العلم لشيخه فيسيء إلى الآخرين، لا بأس أن تتحمَّس لشيخك، لكن اعرف قدر العلماء بعضهم على بعضٍ.
والعلماء -رحمهم الله- يذكرون آدابًا كثيرةً تتعلَّق بآداب الدرس، وآداب الطالب، ولكن الوقت يضيق عن ذكرها، لكن الذي يهمنا هنا هو تلقِّي العلم على يد المشايخ، فلا تستطيع أن تتلقَّى العلم بطريقةٍ سليمةٍ وصحيحةٍ إلا بالتَّلقِّي على يد العلماء، وإذا أصبحت في حِلَق العلماء فيجب أن ترعى سمعك وبصرك وحواسَّك.
يقولون: "النَّوم في مجالس العلم من الشيطان، والنَّوم في الحرب من الرحمن"، فالله -عز وجل- امتنَّ على أهل بدرٍ بماذا؟ قال تعالى: ﴿إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً﴾ [الأنفال: 11]، أي في الحرب يطير النوم من عينيه، فكونه يأتي فهذا رحمة من الله -عز وجل- لكن النوم في مجالس الذِّكر من الشيطان.
من الأمور التي تُذكر في قضية الانتباه: يقول الجاحظ: "أمليتُ مرةً على إنسانٍ: أنا عمرو. فكتب: أنا بشر، وأملى الناسَ: أنا زيد"، لماذا؟ سابقًا لم تكن هناك مُكبِّرات للصَّوت تُوصِّل الصوتَ إلى الأخير، فكان العالم يتحدَّث فيقول: أنا عمرو. فالمُستملي سمعها: أنا بشر. والناس كتبوا: أنا زيد. فهذه من الإشكاليات التي يجب أن يُراعيها طالبُ العلم.
وكان أحدُ العلماء -وهو ابن الوزير- يُملي فيقول: "أُفٍّ للدنيا الدَّنيَّة، دراهم وبَلِيَّة"، فالمُستملي يريد أن يقولها للناس، فقال: وتليَّة. فقال الإمامُ: وبَلِيَّة. فقال المُستملي: وفليَّة. فقال الإمامُ: وبليَّة. قال: وقليَّة. فضحك الجميعُ. فقال له: قليَّة ابن فقدك.
فطالب العلم لابُدَّ أن يُركِّز في الدرس حتى يستوعب، ولهذا يقولون:
وَكَمْ مِن عَائِبٍ قَوْلًا صَحِيحًا *** وَآفَتُـهُ مِنَ الْفَهْمِ السَّقِيمِ
من القواعد في الطلب: التَّفرُّغ لطلب العلم: فلا ينفع أن تكون طالبَ علمٍ وتاجرًا ورجلَ أعمالٍ وطبيبًا، فطالب العلم يحتاج إلى التَّفرُّغ، وأعني: الوصول إلى غايته.
صحيح أنَّه وقع في التاريخ أن كان ابنُ المبارك تاجرًا، وكان من العلماء وزراء، لكن هؤلاء كانوا أفرادًا قلَّة، فالأصل أنَّك تتفرغ حتى تذوق لذَّة العلم، وحتى يكون له أثرٌ في حياتك، فيجب أن تتفرغ له، فتُفرِّغ القلب والحال.
تفرُّغ القلب كيف يكون؟
يقول ابنُ القيم -رحمه الله: "لا يستطيع طالبُ العلم أن يصل إلى غايته إلا إذا قطع العوائقَ، وقطع العلائقَ، وقطع العوائدَ". قطع العلائقَ، وقطع العَوَائِقَ، وقطع العَوَائِدَ.
ما العوائد؟
العوائد: هو الرُّكون إلى الراحة والدِّعَة، أي السكون والكسل الذي أَلِفَه الناسُ.
والعلائق: هي التي يتعلَّق بها القلبُ، فالقلب الذي يتعلَّق بالمال لا تستطيع أن تضع فيه علمًا، والقلب الذي يتعلَّق بالنِّساء لا يستطيع أن يجمع مع هذه اللَّذة التي يجدها مع النِّساء علمًا.
إذن لابُدَّ أن يقطع العلائقَ عن الخلائق، وهذا معنى قول بعض العلماء حينما فسَّر: "هو قطع العوائقَ عن الخلائق، والاتِّصال بعبادة الخالق -عز وجل".
إذن هذه هي العوائد والعلائق.
فما العوائق؟
العوائق ثلاثة:
الأول: الشِّرك بالله -عز وجل.
والثاني: الوقوع في البدع.
والثالث: المعاصي، فإنَّها تعوق صاحبها عن نور العلم الذي أُرسِل به محمد -صلى الله عليه وسلم.
فطالب العلم الذي يريد العلم لابُدَّ أن يكون مُتفرِّغًا للعلم ليجد لذَّته، وأن يكون حريصًا على طلبه ليبلغ غايتَه، وأن يكون مُجِدًّا لينال ثمرتَه، وأن يكون مُتفرِّغًا ليذوق لذَّته. بهذا يستطيع طالبُ العلم أن يصل إلى الغاية التي يرجوها في طلب العلم.
إذا غامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ *** فَلَا تَقْنَعْ بِمَا دُونَ النُّجُومِ
فَطَعْمُ المَوْتِ فِي أَمْرٍ حَقِيرٍ *** كَطَعْمِ المَوْتِ فِي أَمْرٍ عَظِيمِ
بعض العلماء لم يتزوَّجوا إلا على كِبَرٍ، ولا نقول للطالب: لا تتزوج. لا، فالطالب يفعل كما فعل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- لكن كان من شدَّة تفرُّغ بعض العلماء أنَّهم لم يتزوَّجوا حتى بلغوا الأربعين، ومنهم مَن لم يتزوج حتى تجاوز أكثر من هذا، حتى تكون حياتُه وقفًا لطلب العلم الذي أتى به النبيُّ -صلى الله عليه وسلم.
قيل لبعض العلماء: كيف استطعت أن تنال العلم؟ قال: "بِبُكورٍ كبُكُورِ الغُراب، وصبرٍ كصبر الحمام، وبطَرْدِ الهُمُومِ والآلامِ والغُمُومِ التي تشغل القلبَ عن الوصول إلى غاية العلم ولذَّته".
يقول أحدُ العلماء -وهو أبو طاهر: "بقيتُ في الإسكندرية ما يُقارب من ستين سنةً، وكنتُ أتمنى أن أرى منارَتها، ولم تُتَح لي رؤيتها خلال ستين سنةً إلا من خلال الطَّاقة". أي النافذة التي في منزله.
فلم يكن لديهم وقتٌ ليقضُوه في ملاذ الدنيا؛ لأنَّ مَن وجد العلمَ فهو اللَّذة العظيمة التي يسعى إليها.
كذلك من الآداب التي تحدَّث عنها العلماءُ -رحمهم الله تعالى: الجِدُّ وعُلُو الهِمَّة في طلب العلم: وقد سأل بعضُكم عن هذا في بعض اللِّقاءات، فكيف يصل الإنسانُ إلى عُلُو الهِمَّة في طلب العلم؟
يقول الجُنَيد: "ما طلب أحدٌ شيئًا بجِدٍّ وصدقٍ إلا ناله، فإن لم يَنَلْهُ كلّه نال بعضَه"، وهذا الذي يُذكَر مثلًا فيما يُسمَّى بالهندسة النَّفسية، فإنَّك إذا قررت أن تكون شيئًا ستكون هذا الشيء، أو تكون قريبًا منه، لكن يحتاج إلى جِدٍّ وإلى مُصابرةٍ.
لا تَحْسَبَنَّ المَجْدَ تَمرًا أَنْتَ آكِلُـهُ *** لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حَتَّى تَلْعِقَ الصَّبرَ
سُئِل الإمامُ الشافعي -رحمه الله- عن الدليل على الإجماع فقال: الاستدلال يكون بالكتاب والسُّنة والإجماع. طيب ما الدليل على الإجماع؟ قال: "فاستَعْرَضْتُ القرآنَ ثلاث مرَّاتٍ -أي قرأ القرآن ثلاث مراتٍ- حتَّى وجدتُ قول الله -عز وجل: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115]".
يقول أبو الدَّرداء –وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم: "لو أَعْيَتْنِي آيةٌ ولم أجد لها إلا رجلًا بِبَركِ الغماد -تقريبًا مسيرة خمس ليالٍ من مكَّة- يدلّني عليها؛ لرحلتُ إليه".
وأيضًا الشيخ سليمان بن عبد الله آل الشيخ صاحب كتاب "تيسير العزيز الحميد" يقول -وكان من علماء الحديث في زمانه وكان يسكن الدَّرعيَّة: "أنا أعرف أهل الحديث أكثر من معرفتي بأهل الدَّرعيَّة". وأهل الدَّرعية في وقته كانوا قلَّة، فمعرفته برواة الأحاديث الذين رووا عن العلماء أشدُّ من معرفته بأهل بلده، وهذا يدلُّ على الانقطاع التام والجِدِّ والمُثابرة حتى وصل إلى هذه الغاية -رحمه الله تعالى.
وابن جرير الطَّبري كان من المُؤرِّخين الكبار -رحمه الله تعالى- يقول لتلاميذه: "هل تنشطون لكتابة تاريخ العالم؟ قالوا: في كم ورقةٍ -فالقضية محسوبة؛ لأنَّ القضية كتابة، فلم تكن هناك مطبعة- قال: تأتي في ثلاثين ألف ورقةٍ. قالوا: تتقاصر الهِمَمُ أمامه! قال -رحمه الله تعالى: إنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت الهمم". يقوله في ذلك الزمان.
يقول ابنُ الجوزي -رحمه الله: "لو حسبتَ ما كتبته بخطِّ يدي لوجدتُ أنَّه يزيد عن ألفي ورقة"، ألفي ورقة في ذلك الوقت، فالحصول على الورق فيه مشقَّة، والحصول على الحبر فيه مشقَّة، وتفرُّغ طالب العلم للعلم كان أيضًا فيه مشقَّة كبيرة، لكن هذا كله لم يمنعه -رحمه الله تعالى- أن يتلقَّى العلم.
أيضًا مما يذكره العلماءُ في عُلُو الهمَّة في طلب العلم: أنَّ الإمام التِّبرِيزي -رحمه الله تعالى- سافر إلى مَعَرَّة النُّعمان ومعه كتاب "تهذيب اللُّغة" للأزهري، فأراد أن يقرأه على أحد العلماء في معرَّة النعمان فلم يجد مالًا من أجل أن يركب دابةً، فاضطر أن يأخذ جميع هذه الكتب ويضعها في جرابٍ معه، ويضع هذا الجراب على ظهره ويسير في طريقه، فتحمَّل شدَّة التَّعب وشدّة الحَرّ، فجعل العَرَقُ يخرج من بدنه فيُلاقي قميصه، ثم يُلاقي الورق، فإذا بأثر العرق على بعض الورق قد محا بعض الكلمات، فنظر فأخذ يبكي بكاءً عظيمًا على فقده لتلك الكلمات، وهنا يتساءل بعض العلماء: كم قطرة عرقٍ سالت منك وأنت تطلب العلم الشرعي؟
والبعض يظن أنَّ العلم يأتي بين يومٍ وليلةٍ وأن القضية سهلة، لا، فالعلماء تعبوا وسهروا وسافروا، وكان أحدُهم يُسافر خمس عشرة سنةً حتى يعود بعد ذلك إلى أهله بالعلم والعمل، وبالحديث الذي أخذه عن العلماء.
كذلك من القواعد: اللُّجوء إلى الله -عز وجل- عند انغلاق المسائل: فحينما تتأمَّل بعض علماء اللُّغة تجد أنَّهم وقفوا كثيرًا في بعض المسائل، وحينما تتأمَّل بعض علماء الحديث تجد أنَّهم وقفوا في بعض الأحاديث، وهذا حتى يعلم العالم أنَّه مهما حصَّل من حفظه أو من ذكائه؛ فلا غنى له أبدًا عن ربِّه -سبحانه وتعالى.
كان ابنُ تيمية -رحمه الله- إذا أعضلته مسألةٌ يقول: "اللَّهُمَّ يا مُعلم إبراهيم علِّمني، ويا مُفَهِّم سليمان فهِّمني".
والله -عز وجل- يقول في كتابه: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا﴾ [النساء: 105]، ماذا قال بعدها؟ ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللهَ﴾ [النساء: 106]، قال بعضُ العلماء في تفسير هذه الآية: إذا أعضلتك مسألةٌ فاستغفر الله تجد جوابها.
وهذا كثيرٌ في حياة العلماء -رحمهم الله تعالى- فهم كانوا يُكثِرون من التَّوبة والاستغفار حتى يكشف الله -سبحانه وتعالى- لهم مغاليق العلم.
يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ﴾ [البقرة: 282]، هذه الآية تحتمل، فهل الواو استئنافية أم عاطفة؟ وأعتقد أننا تحدَّثنا عنها سابقًا.
أيضًا من الآداب -وهو الأدب الأخير: اجعل لك رفيقًا في طلب العلم: فأنت بحاجةٍ في طلبك للعلم إلى أن يكون لك صاحبٌ من طلبة العلم. لماذا؟ حتى يُعينك على طلب العلم ويُساعدك عليه، وحتى إذا ضعفتَ يُقويك، وإذا ضعف هو تُقوِّيه، فاحرص على أن يكون هذا الصَّاحب كثيرَ الخير، قليلَ الشر، حريصًا على العلم، ورعًا، لديه خوف من الله، ومحبَّة للعلم، فسيكون له أثرٌ كبيرٌ في حياتك -بإذن الله عز وجل.
وإذا رأيتم تراجم العلماء سترون أنَّهم كانوا يحرصون على أن يكون لهم صاحب في العلم الشرعي، فالشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- كان له أحد العلماء يصحبه في العلم الشرعي حتى مع وصوله إلى مرتبة مفتي الديار السُّعودية، فهو مُفتي المملكة العربية السعودية قبل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله تعالى.
هذه مجموعة من الآداب والصِّفات العامَّة التي يجب على طالب العلم أن يُراعيها.
وفي الختام أُريد أن أُنبِّه إلى قضيةٍ في غاية الأهمية، وهي: أننا حينما نتحدَّث عن طلب العلم فلا نتحدَّث عن طلب العلم للرجال فقط؛ بل إننا نتحدَّث عن طلب العلم للرجال وللنِّساء، ولا شكَّ أنَّ طلب العلم للنساء في الفترة الأخيرة أصابه ضعفٌ كبيرٌ، فكنا سابقًا نقرأ في تاريخنا عن نسوةٍ سطرن أسماءهن بمدادٍ من نورٍ في العلم وفي الدَّعوة، وفي الآونة الأخيرة يوجد البعض، لكن لا يوجد ذلك التَّميُّز السَّابق الذي كان في عهد الصَّحابة -رضوان الله عليهم.
فالنِّساء في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- كنَّ يحرصنَ كلَّ الحرص على أن يتلقَّين العلمَ من النبي -صلى الله عليه وسلم- فيُروى عن أبي سعيد الخدري أنَّ النساء قلن: يا رسول الله، غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا. فوعدهنَّ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يومًا، فكان يُعلِّمهنَّ -عليه الصلاة والسلام".
وأيضًا نعلم أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- في صلاة العيد والأضحى أمر النِّساء أن يخرجنَ، وأمر ذوات الخُدور والحُيَّض أن يخرجن ويشهدن الخيرَ مع الناس، وتعتزل الحُيَّض المساجد.
وعندما نتحدَّث عن النِّساء ونتحدَّث عن العلم، فأول مَن يطرأ على البال عائشة -رضي الله عنها وأرضاها- أم المؤمنين، وزوج النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- والتي حوت علمًا كبيرًا وعظيمًا، فقد مات النبي -صلى الله عليه وسلم- وعمرها ثمانية عشر عامًا، لكن يقول ابنُ أختها: "كانت عائشةُ -رضي الله عنها- قد برزت في ثلاثة أمورٍ: في الفقه، وفي الشعر، وفي الطب. فقال لها عروةُ بن الزبير: يا أم المؤمنين، أمَّا الفقه فقد أخذتِيه من النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- والشعر أخذتِيه من أبي بكر، لكن الطب كيف استطعتِ أن تبرزي فيه؟ قالت: حينما مرض النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- جعل الناسُ يأتون من كلِّ مكانٍ فيصفون للنبيِّ -عليه الصلاة والسلام- الدَّواء، فأخذتُ الطِّبَّ من هذا الأمر".
وقد ألَّف الزَّركشي -رحمه الله- كتابًا قائمًا برأسه أسماه "الإصابة فيما استدركته عائشةُ على الصحابة -رضوان الله عليهم".
وحينما تجمع الأحاديث في صحيحي البخاري ومسلم تجد أنَّ أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قد روت ربع هذه الأحاديث، ولذا يقول العلماءُ: "إنَّ عائشة روت ربعَ الشريعة" رضي الله عنها وأرضاها.
وهذا ليس فقط في عهد الصَّحابة؛ بل إنَّ الإمام سعيد بن المسيب -رحمه الله تعالى وكان من كبار العلماء- كانت له ابنة هي من أكثر الناس علمًا، فكان الناسُ إذا قرؤوا عليه وأخطأ القارئُ قرعت ابنتُه البابَ، فيقول والدها: الحقّ معها، فأعد قراءتك.
وتُروى هذه أيضًا عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى.
وابنة سعيد بن المُسيب زوَّجها والدُها لأحد تلاميذه، فلما كان في صبيحة عُرسِها استعدَّ زوجُها للذَّهاب إلى الإمام سعيد، فقالت له: إلى أين تذهب؟ قال: إلى سعيد بن المُسيب لأتلقَّى العلم. قالت: علم سعيد في قلبي ورأسي -رحمهم الله جميعًا- وهذا يدلُّ على حرص النِّساء على العلم.
وحين تتأمَّل كتب الحديث وكتب التَّراجم –تراجم رواة الأحاديث- تجد أنَّ النساء قد أخذن مرتبةً كبيرةً فيمَن روى الأحاديثَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يوجد ولا يُعرَف أنَّ أحدًا من أهل العلم ردَّ حديثًا من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنَّ امرأةً هي التي روت الحديث، بل أعظم من هذا: لا يوجد من ضمن رواة الأحاديث امرأة وُصِفَت بأنَّها تكذب على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولعلَّ عاطفتها هي التي جعلتها تبتعد عن الكذب على النبي -عليه الصلاة والسلام.
تأمَّل في تاريخ العلماء، فكلُّ عالمٍ يسرد لك المشايخ الذين تلقَّى العلمَ على أيديهم، فالإمام محمد بن شهاب الزُّهري من أئمَّة الحديث وقد تلقَّى العلم على يد عددٍ من النساء، وكان يُسمِّيهنَّ ويذكر عددًا منهنَّ.
والإمام مالك تلقَّى العلم على يد عائشة بنت سعد ابن أبي وقَّاص.
والإمام أحمد تلقَّى العلم عن أمِّ عمرو بنت حسَّان.
والإمام السَّمعاني -رحمه الله تعالى- ذكر عددَ النساء اللاتي تلقَّى العلمَ على أيديهن وأجزنه، فسرد تسعةً وتسعين اسمًا لامرأةٍ نقل عنهنَّ الحديث وأجزنه برواية الحديث.
والإمام الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- ذكر عددًا كبيرًا من النِّساء يتجاوز العشرين ممن أخذ عنهنَّ مُشافهةً، ومن أجزن له روايةَ الحديث.
وابن القيم -رحمه الله تعالى- والإمام الذَّهبي كذلك.
فكلُّ هؤلاء العلماء تلقَّوا العلمَ على يد النِّساء.
ولَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَا ذَكَرْنَا *** لفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
فَمَا التَّأْنِيثُ لاسْمِ الشَّمْسِ عَيبٌ *** وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ
لماذا أتحدَّث بهذا؟ لأنَّ النِّساء أكثر إقبالًا على العلم من الرجال، لكنَّهنَّ أقلَّ فائدةً للأسف، والسبب في ذلك أنَّهنَّ يأخذن العلمَ لملئ الفراغَ وليس لطلبه والتَّعبُّد إلى الله -عز وجل- به والوصول إلى غايته.
لهذا نقول لأخواتنا: لابُدَّ أن تُعيدوا أمجاد النِّساء اللاتي تعلَّمنَ العلمَ ونَشَرْنَه بين الناس، فنريد أن نسمع أنَّ فلانة بنت فلان تلقَّت العلمَ وعلَّمت العلم، وأخذ عنها العلمَ الشيخُ فلان والعالم فلان، فإنَّ هذا من الأمور التي كانت مُتداولةً بين أهل العلم؛ بل إنَّ شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان له تلميذة اسمها فاطمة، وكانت فاطمةُ هذه تحفظ كتاب "المغني" لابن قُدامة، وكتاب "المغني" ثلاثة عشر مُجلَّدًا، فكان -رحمه الله- إذا أتى وقتُ درسها يقوم بالإعداد والتَّحضير لأسئلتها -رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً.
وأنا على يقينٍ -إن شاء الله- أن أخواتنا سيكُنَّ -بإذن الله عز وجل- ممن يحملن رايةَ العلم ويحملن هذا المَشْعَل، ونرى -بإذن الله عز وجل- حلقات النِّساء اللاتي يتحلَّقن حولها أخواتهن ويأخذن العلمَ على أيديهن، وليس ذلك على الله بعزيزٍ، لكن القضية تحتاج همَّةً، وتحتاج عملًا، والحمد لله مع وجود وسائل الاتِّصالات الحديثة تستطيع المرأةُ وهي في أقصى الأرض أن تتلقَّى العلمَ على يد العلماء في بلاد الحرمين، أو على يد العلماء في مصر، أو في أيِّ مكانٍ في الدنيا.
إذن هذا هو الدرس الأخير من دروس أسس البناء العلمي لطالب العلم، وقد حاولتُ من خلال هذه الدروس أن أُقدِّم لكم خلاصةَ ما استطعت أن أستخلصه من كلام العلماء، ومن حياتهم -رحمهم الله تعالى.
فقد قدَّمتُ الحديثَ بشكلٍ مُختصرٍ، لكن هي إشارات وتنبيهات لطلبة العلم يمضون بعدها -بإذن الله عز وجل- وأنا دائمًا أقول: ما يُقدَّم في الدروس وما يُقدَّم في المحاضرات إنَّما هي مفاتيح تُقدَّم لطالب العلم، فإذا فُتِحَ الباب فله أن يَلِجَ ويتوسَّع في التَّلقِّي والطلب، وله أن يقف عند الباب، وله كذلك أن ينسحب وينصرف عن العلم.
وفي ختام هذه الدروس أسأل الله -عز وجل- بمنِّه وكرمه أن يجعلنا وإيَّاكم من الهُداة المُهتدين، وأن يجعل خير أيَّامنا آخرها، وخيرَ أعمالنا خواتيمها، وخيرَ أيَّامنا يوم نلقاه.
اللَّهم كما اجتمعنا في هذه الحياة على طاعتك فاجمعنا يوم القيامة في جنَّتك، اللَّهُمَّ لا تُفرِّق جمعنا إلا بذنبٍ مغفورٍ، وعملٍ مُتقبَّلٍ مبرورٍ -يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ إنا نسألك عيشَ السُّعداء، وميتةَ الشُّهداء، والنصر على الأعداء، اللَّهُمَّ انصر إخواننا المُستَضْعَفِين في كلِّ مكانٍ -يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ اجعلنا ممن يجتمع في هذه الحياة على طاعتك، ويوم القيامة في جنتك -يا ذا الجلال والإكرام.
اللَّهُمَّ انصر دينَك وكتابَك وسُنَّةَ نبيك وعبادك المُوحِّدين -يا ذا الجلال والإكرام. اللَّهُمَّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنبًا إلا غفرته، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا دينًا إلا قضيتَه، ولا عسيرًا إلا يسَّرتَه، ولا مريضًا إلا شفيته، ولا مُبتَلًى إلا عافيته، ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رِضًا ولنا فيها صلاحٌ إلا أعنتنا على قضائها ويسَّرتها لنا -يا ذا الجلال والإكرام.
وختامًا أيضًا نتقدَّم بالشكر لكم أيُّها الإخوة على حضوركم وإنصاتكم، وأسأل الله -عز وجل- ألا يحرمكم الأجرَ، وأن يجعل ما قلنا وما سمعتم في ميزان حسناتنا جميعًا، وأن يرفعنا به في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا مَن أتى الله بقلبٍ سليمٍ.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://islamacademy.net/cats3.php