مادة البناء العلمي
لفضيلة الشيخ/ راشد الزهراني
الدرس (5)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم وبارك على عبده المصطفى، وآله وأصحابه ومَن اقتفى، وسلم تسليمًا مَزِيدًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد،
أيُّها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم في درسٍ جديدٍ من دروس البناء العلمي، والذي نتحدَّث فيه عن مجموعةٍ من الأسس والآداب التي يجب على طالب العلم أن يُراعيها، وفي الوقت ذاته تختصر لطالب العلم المسافة والزمن.
ومرةً أخرى نُرحِّب بالجميع، فحياكم الله.
بإذن الله -عز وجل- في هذا اللِّقاء سنتحدث أيضًا عن مجموعةٍ من الأسس والقواعد والضوابط، أنا أسميتُها أسسًا علميةً؛ لأنَّ الضوابط والقواعد لها مدلولاتها في علم الفقه، لكن حينما نُسميها أسسًا فسمِّها فيما بعد ما تشاء، لكن هي مجموعة من القواعد التي إذا سار طالبُ العلم عليها يستطيع -بإذن الله عز وجل- أن يتحصَّل على العلم الشرعي بكلِّ يُسرٍ وسهولةٍ.
وهذه القواعد والأسس ليست وليدةَ كتابٍ أو كتابين، بل هي مُحصِّلة لسنوات طويلةٍ، جردتُ خلالها عددًا كبيرًا من كتب أدب الطلب، والكتب التي صنَّفها العلماءُ في آداب طالب العلم وما يتعلَّق به، وكذلك من خلال استعراض مسيرة العلماء المُتفوقين والمُميَّزين في علومهم، فقد تتبعتُ الوسائل والأسباب التي من خلالها استطاعوا أن يصلوا إلى العلم، وأن يصلوا إلى غايته.
ولهذا حينما تتأمَّل شخصيةً عظيمةً مثل الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وترى أنَّ العلماء أجازوا أن يُفتيَ للناس وأن يقوم على تدريسهم وعمره لم يتجاوز الخامسة عشر؛ عند ذلك تُدرِك أنَّ لهذا العلم قواعد ووسائل تجب مُراعاتها.
في هذا اللِّقاء سأتحدث عن مجموعةٍ من هذه الأسس والقواعد، وأستطيع أن أجمعها تحت مُسمًّى واحدٍ وهو: مفاتيح العلوم.
وبحسب التَّتبع والاستقراء وجدتُ أنَّها أربعة مفاتيح، فإذا أردت أن تطلب العلم فما الطريق إلى أن يكون لديك ثراء علمي؟ أربعة طرق، نستطيع أن نُسميها مفاتيح العلوم:
أول هذه الطُّرق: السؤال.
وثاني هذه الطُّرق: القراءة.
والثالث: البحث.
والرابع: التَّلقِّي عن العلماء.
هذه هي مصادر المعرفة التي يسعى طالبُ العلم من خلالها إلى أن يكون من العلماء المُبرِّزين بإذن الله -عز وجل.
وهذه المفاتيح الأربعة وهي:
- السؤال.
- والقراءة.
- والبحث.
- والتَّلقِّي عن العلماء.
كلُّ واحدٍ منها يحتاج منَّا إلى تفصيلٍ طويلٍ، ولكن لضيق الوقت فإننا نكتفي ببعضها، ولعلَّ -إن شاء الله- الكتاب لو طُبِعَ يكون فيه توسُّعٌ، لكن كما يقولون: "يكفي من القِلادَة ما أحاط بالعُنُق".
نبدأ بأول هذه المفاتيح وهو: السؤال:
الله -عز وجل- في كتابه يقول: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، ومن المعلوم أنَّ السؤال من أسهل وأبسط ما يكون لطلاب العلم، خاصَّةً أن السؤال يُعطي إجابةً بسيطةً ومُختصرةً على قدره، ولهذا فإنَّ العلماء الذين يُؤلِّفون في الكتب على صيغة سؤالٍ وجوابٍ؛ تجد أنَّ طلبة العلم وخاصَّة الصِّغار يستوعبون هذه العلوم أكثر من غيرها، وقد سار على هذا بعض العلماء.
فالشيخ حافظ الحكمي -رحمه الله- له كتاب "معارج القبول"، وهو كتابٌ ضخمٌ وكبيرٌ جدًّا، وله كتاب اسمه "مئتي سؤال وجواب في العقيدة" على شكلٍ سؤالٍ وجوابٍ، وهذه من الطرق التي يصل الإنسانُ فيها إلى العلم الشرعي.
يقول بعضهم: "السؤال دلوٌ تغرف به من بحور العلم".
والإمام الزُّهري -رحمه الله- يقول: "العلم خزائن" ما مفاتيح هذه الخزائن؟ السؤال. إذن: "العلم خزائن ومفاتيحها السؤال".
وابن عباس -رضي الله عنهما- برَّز في العلم وهو لا يزال صغيرًا في ريعان شبابه، فقيل له: بِمَ أدركتَ العلم؟ قال: "بلسانٍ سَؤُولٍ، وقلبٍ عقولٍ".
والسؤال كان من المفاتيح العظيمة التي كان الصحابةُ يتواصلون بها مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالنبي -عليه الصلاة والسلام- تارةً كان يبدأ الصحابة بالعلم، وتارةً كان يُجيب على استفساراتهم وتساؤلاتهم، وكان الصحابةُ من شدَّة حيائهم من النبي -صلى الله عليه وسلم- قد لا يسألون كثيرًا، فيتحيَّنون قُرب الأعراب الذين يأتون من البادية فيسألون النبي -صلى الله عليه وسلم- فيستفيدون من الإجابة.
وعائشة -رضي الله عنها- قالت: "رَحِمَ اللهُ نساءَ الأنصار، لم يمنعهُنَّ حياؤُهنَّ أن يسألن النبي -صلى الله عليه وسلم".
وفي حديث جابر أنَّ الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا في سفرٍ، فأصابت أحدهم جنابةٌ، وكان هذا الرجل قد شُجَّ في رأسه، فسأل الصحابةَ: هل تجدون لي رخصةً عن الوضوء؟ قالوا: لا نجد لك رخصةً وأنت تجد الماء. فاغتسل فمات، فلما علم النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللهُ، أَلَا سَأَلُوا إِذْ لَمْ يَعْلَمُوا، فَإِنَّمَا شِفَاءُ الْعيِّ السُّؤَالُ».
وحتى يكون السؤالُ أداةً ومفتاحًا للعلم يجب على طالب العلم أن يأخذ بآدابه، ومن هذه الآداب -من آداب السؤال:
- أن يُلين طالبُ العلم الخطابَ: يُروى عن عليٍّ -رضي الله عنه- أنَّه قال: "مَن لانت كلمتُه وجبت محبَّتُه".
فينبغي لطالب العلم أن يُقدِّم دائمًا بين يدي سؤاله دعاءً للشيخ وتلطُّفًا مع الشيخ حتى يكون أقربَ إلى قلبه، وهذا الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- صاحب صحيح مسلم، يأتي إلى الإمام البخاري فيقول له: "دعني أُقبِّل رِجْلَيك يا أستاذ الأستاذين، وسيد المُحدِّثين، وطبيب العِلل في حديثه". ثم بعد ذلك يسأل الإمامَ فيُجيبه -رحمهما الله تعالى.
- أيضًا من الأدب: أن يختار الوقت المناسب: فالعالم هو أيضًا بشرٌ، فقد يكون في لحظةٍ مُتعبًا، وقد يكون في لحظةٍ يُفكِّر في أمرٍ عظيمٍ، وهنا يجب على طالب العلم أن يتحرَّى الوقت المناسب للسؤال.
يقول ابنُ عباس -رضي الله عنهما: "لا يسأل الشيخ وهو يريد النوم، ولا يسأله وهو مهمومٌ، ولا يسأله كذلك إذا رآه مشغولًا"؛ لأنَّه في النهاية يريد خلاصة علم الشيخ في هذه المسألة، وهذه فائدة السؤال، فإذا لم يكن الشيخُ حاضرَ الذهن أو كان مشغولًا بأمرٍ آخر؛ فلن يستطيع أن يُفيد الطالب.
أيضًا في السؤال: اسأل عمَّا يُفيدك، فبعض الناس يسأل أسئلةً لا يحتاج إليها في حياته أبدًا، فالصَّحابي الجليل ابن عمر بعد أن قُتِلَ الحسين بن علي -رضي الله عنه وأرضاه- في العراق، جاءه أهلُ العراق يسألونه، فقالوا له: هل دم البعوض ينقض الوضوء؟ قال: "سبحان الله! يسألون عن دَمِ البَعُوض وقد أراقوا دم الحسين بن علي -رضي الله عنه وأرضاه".
أيضًا مما ورد في هذا أنَّ رجلًا من الخوارج اسمه ابن الكوَّى سأل عليَّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقال له: يا إمام، أرأيت السَّواد الذي في القمر، ما هو؟ فقال -رضي الله عنه وأرضاه: "اسأل تفقُّهًا، ولا تسأل تعنُّتًا".
من التَّعنُّت أيضًا: أن تسأل عالم الشريعة عن مسألةٍ في الفيزياء، أو تسأله في قضيةٍ في اللُّغة الإنجليزية وهو لا يُجيدها، فهذا من إحراج العالم، وهو من التَّعنُّت الذي نهى عنه العلماءُ -رحمهم الله تعالى.
أتى رجلٌ إلى عمرو بن قيس وقال له: يا إمام –وأنتم تعرفون أن المساجد سابقًا لم يكن فيها فرش، بل كانت عبارةً عن حصى- إذا سجدتُ وارتفعت فإنَّه يعلَق بجبهتي أو بثيابي شيءٌ من الحصى. قال: طيب. قال: ماذا أعمل به إذا أردتُ أن أخرج من المسجد؟ قال: ألقه. قال: سمعتُ أنَّها تصيح حتى ينشق حلقُها. فقال الإمام -رحمه الله تعالى: ألقها ودعها تصيح حتى ينشق حلقُها. قال: يا إمام، أوَلها حلق؟ قال: وهل سمعت أن حصاةً تصيح؟!
فهنا مشكلة، فالبعض بمثل هذه الأسئلة يُحرِج نفسه ويُحرِج الإمام.
وقال رجلٌ لعكرمة -رحمه الله: رأيتُ رجلًا في المنام يسُبني، ماذا أعمل؟ قال: اضرب ظلَّه ثمانين جلدةً.
وأيضًا قيل للشَّعبي -والشَّعبي كان صاحب فُكَاهَةٍ ودُعابةٍ- يا إمام، ما اسم زوجة إبليس؟ قال: ذاك عرسٌ لم أحضره.
ومن المواقف في هذا أيضًا: أنَّه قيل لأحد الأئمَّة: هل يجوز للمُحرِم أن يحكَّ جلده؟ قال: نعم. قال: مقدار كم؟ قال: حتى يَبِين عظمه.
فهذه من الأشياء التي قد توجد عند بعض الناس، فيسألون أسئلةً غريبةً، قد تدخل فيما يُسميه العلماء بـ(الأُغلُوطات).
أيضًا من الأمور التي يُنبه عليها العلماءُ: أنَّ السؤال يكون بقدره، فإذا كثُرَ السؤال ودخلت فيه ما تُسمَّى بالأُغْلُوطات -الأشياء التي لا تُفيد- أو عضل المسائل -المسائل الصعبة- التي قد لا يُجيب عنها الإمامُ في جلسةٍ، قال: الإكثار منها قد يكون مما نهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عنه؛ لأنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «وَكَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ».
كيف نجمع بين هذا النَّهي عن السؤال، وقول الله -عز وجل: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]؟
الإمام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الاعتصام" جمع بينهما فقال: إنَّه يُنهَى عن كثرة السؤال في عدَّة مواطن. وذكر منها ثمانية مواطن، منها مثلًا:
- السؤال عمَّا لا يُفيد الإنسان.
- والسؤال عن الأُغْلُوطات وعضل المسائل.
- والسؤال عن المُتشابه في القرآن.
- والسؤال عن أمرٍ لا يمكن أن يقع في حياة الناس.
- والسؤال عمَّا شجر بين الصحابة -رضوان الله عليهم- من الخلاف.
إذن هذه مجموعة من المسائل التي قد يُنهَى عن السؤال فيها إذا لم تكن للسؤال فائدةٌ وحاجةٌ لدى طالب العلم.
كذلك من المسائل التي يُنبه عليها العلماءُ: أنَّه حتى يكون الجوابُ واضحًا يجب أن يكون السؤالُ واضحًا. كيف يكون السؤالُ واضحًا؟
له عدَّة طرق:
منها أن تكتب السؤال، أن يكون السؤال مكتوبًا حتى إذا اتَّصلت بالشيخ بالهاتف تستطيع أن تقول السؤال سريعًا، وهذه مشكلةٌ كبيرةُ، فالعالم لديه أعباء كثيرة، ولديه أعمال كثيرة، فيتصل البعضُ به ويبدأ في مقدمة السؤال فيقول: كيف حالك؟ كيف أخبارك؟ فيأخذ وقتًا طويلًا، ثم بعد ذلك أحيانًا يسرد قصةً طويلةً قد تأخذ ربع ساعة أو أكثر من أجل أن يسأل عن مسألةٍ، فكذلك يجب أن يُراعَى وقت العالم.
من المسائل كذلك فيما يتعلَّق بالسؤال: أن يتحرَّى طالبُ العلم السؤال الذي يريده، فلا تسأل عمَّا لا يُفيدك أبدًا؛ لأنَّك قد تجد ما لا يَسُرك، وقد روي هذا أيضًا عن الإمام مالك -رحمه الله تعالى- فهذه من الآداب المهمة، فحينما يأتي العالم فتسأله سؤالًا ويُعطيك الجواب، فليس من الأدب أن تقول له: ولكن العالم الفلاني أفتى في المسألة بكذا وكذا.
فقد أتى رجلٌ اسمه السّدي إلى الإمام مالك فسأله عن مسألةٍ، فقال الإمامُ مالك -رحمه الله تعالى- وكان حازمًا مع طلابه: قال فيها زيدٌ كذا. فقال السائلُ: ماذا قال علي وابن مسعود؟ كأنَّه يُشير إلى أن المسألة فيها خلافٌ، فأمر الإمام مالك الحجبة الذين معه أن يضربوه، فهرب من المسجد، فلحقوا به، فقال لهم الإمامُ: ائتوا به برفقٍ. فلما جلس بين يديه قال: من أين أنت؟ قال: من الكوفة. قال: وأين تركت الأدب؟ قال: إنَّما أسأل تفقُّهًا؟ قال: في المدينة يأخذون بقول زيدٍ، وعلي وابن مسعود لا يُنكَر فضلهما، لكن إن بدأت الناس بما يكرهون وجدتَ منهم ما تكره.
إذن هذه من الآداب التي يجب على طالب العلم أن يُراعيها.
والحديث عن السؤال وأدب السؤال يحتاج منا إلى جلساتٍ وتفصيلٍ كبيرٍ جدًّا، ولكن لعلنا نكتفي بهذا حتى لا تكون هناك إطالة عليكم.
من المفاتيح المُهمة في طلب العلم وهو المفتاح الثاني: القراءة:
والقراءة من أعظم الأمور عند طلبة العلم، وهناك شغفٌ وعِشْقٌ كبيرٌ بين طالب العلم والكتاب، يتولَّد هذا العشق مع الزمن، فيُصبح الكتابُ أنيسه وجليسه؛ بل يستبدل به مجالسة النُّدماء والقُرناء والأصحاب، حيث يجد في الكتاب بُغيته، ويجد فيه ضالته، وحينما تُقلِّب صفحات العلماء وتقرأ في حياة البُلغاء والأدباء تجد من المواقف ما يدلُّك على هذا العشق العظيم بين طالب العلم والكتاب.
يقولون عن أحد العلماء -رحمه الله تعالى- أنَّه زار صديقًا له في بلدٍ آخر فوجده قد ألَّف كتابًا نفيسًا، فأخذ هذا الكتاب وأراد أن ينسخه –ولم يكن هناك أماكن للتصوير ومكتبات للطباعة، فلم يكن هناك إلا أن تكتب بخطِّ يدك- فلم يكن لديه مالٌ، فاضطر أن يبيع قميصه ليشتري به ورقًا ينسخ عليه هذا الكتاب.
ولهذا كان للكتاب عندهم سابقًا قيمةٌ ومنزلةٌ كبيرةٌ؛ لأنَّهم يكتبونه وينسخونه بخطِّ أيديهم؛ فتكون للكتاب قيمةٌ وثِقلٌ عظيمٌ عند هؤلاء العلماء.
من المواقف أيضًا: موقف الإمام الهمذاني -رحمه الله تعالى- فقد حضر في مزادٍ بِيعَت فيه كتب ابن الجواليقي في بغداد، فاشترى قطعةً منها بستين دينارًا، وأُعطِي مهلةً من الخميس إلى الخميس ليُحضِر المال، فمن أين يُحضر المال؟ فالعلماء في القديم كانوا فقراء، لا يجدون شيئًا، فلو تأمَّلت طريقة تحصيلهم للعلم -كما سيأتي- لوجدت أحدهم يُسافر لطلب العلم فلا يعود إلى أهله إلا بعد خمسة عشر أو ثمانية عشر أو عشرين سنةً قضاها كلها في طلب العلم، ما بين تعبٍ وجوعٍ وفقرٍ وشدَّةٍ حتى يتحصَّل على العلم الشرعي.
الآن العلم أبسط ما يكون، ومع ذلك الإقبال عليه أقلّ ما يكون، وللأسف.
فعاد الإمام الهمذاني -رحمه الله- إلى همذان فعرض منزله للبيع، فالعلماء لم يكونوا يُقدِّموا على العلم شيئًا، وأنتم تعرفون أن أعظم ما للإنسان أن يكون لديه منزل يأوي إليه، فهذا المكان الذي هو أهم شيءٍ بالنسبة له عرضه للبيع، فأثناء العرض وصل إلى ستين دينارًا -قيمة القطعة- قال: بيعوا. قالوا: يا إمام، تبلغ أكثر، اصبر قليلًا. قال: بيعوا. فأخذ المبلغ ثم ذهب به -رحمه الله- ودفع قيمة الكتب التي اشتراها.
فلمَّا تُوفي -رحمه الله- رآه أحدُ العلماء في الجنة في مكانٍ على هيئة جدران من الكتب والكتب أمامه يقرأ في هذا ويقرأ في هذا، فقال: يا إمام، ما الذي أراه؟ قال: سألت الله -عز وجل- أن يشغلني في الجنة بما كان يشغلني به في الدنيا.
فهذه هي حياة العلماء -رحمهم الله تعالى- مع الكتب.
كيف تشتري كتابًا؟
الآن نتكلم عن القراءة، والقراءة مصدرها الكتاب، فكيف تشتري كتابًا؟
كان الكتاب سابقًا حينما تحوزه كأنَّك تحوز قطعةً نفيسةً قد لا توجد عند غيرك. فكيف تشتري الكتاب الآن مع كثرة المطابع المُنتشرة والمطابع التجارية التي تطبع غثاءً كغُثاء السَّيل أحيانًا ليس له زمامٌ ولا خِطَامٌ؟
يقول العلماء: قبل أن تشتري كتابًا فعليك أولًا بالاستشارة.
وقبل أن نذكر هذه الآداب نُذكِّر بقضيةٍ مُهمةٍ: الاستكثار من الكتب هو من علامات محبَّة العلم، لهذا يقولون: "لا يُخزِّن الدَّفاتر إلا الجوادُ السَّخي".
بعض الناس تجد في بيته مكتبةً ضخمةً عريضةً، لكن علمه قليلٌ، فهل هذه علامة سيئة سلبية أم علامة إيجابية؟ هي علامة إيجابيَّة.
قيل لأعرابيٍّ كان يجمع كتبًا: لماذا تشتري شيئًا ليس من علمك؟ قال: أشتري ما ليس من علمي ليكون من علمي.
والشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- سُئِل عن بعض طلبة العلم الذين يجمعون كتبًا كثيرةً ويُنفقون فيها أموالًا طائلةً ولا يقرؤها، فقال -رحمه الله تعالى: "الكتب لا تبذير فيها، فإذا لم يستفد هو منها سيجد غيرَه يستفيد من هذه الكتب".
ولهذا فإنَّ جمع الكتب وجمع الدَّفاتر من مناقب طالب العلم، بل في فترةٍ من الفترات في أيام الأندلس كان الناسُ يتباهون بوجود المكتبات في منازلهم.
كيف تشتري كتابًا؟
أولًا: لابُدَّ من الاستشارة؛ فلابُدَّ أن تستشير حتى يصل إلى يديك الكتاب الذي ينفعك.
الأمر الثاني: أن تتفقد حال الكتاب، خاصَّة حينما يكون الشِّراءُ من معارض الكتب، فتذهب إلى معرض الكتاب وتشتري كتبًا عديدةً ولا تتفقدها، ونحن الآن نتكلم عن مطابع، فأحيانًا يكون نصف الكتاب أبيضًا، ولا تستطيع فيما بعد أن تُعيد هذا الكتاب؛ لأنَّ جميع المكتبات قد تفرَّقت وعادت إلى بلادها. إذن لابُدَّ أن تتفقد حال الكتاب.
الأمر الثالث: أن تهتم بالكتب المُحقَّقة، ولو اطلعتم على المخطوطات وكتب العلماء فإنَّكم تجدون أنَّ هناك إصلاحًا -تحقيقًا- ليس كالتحقيق الحالي الآن، فالتحقيق الحالي يكون فيه الكتاب مئة صفحة وإذا حُقق يُصبح خمس مجلدات، فهذا ليس تحقيقًا علميًّا؛ وإنَّما هو نفخٌ للكتب، وهو نفخٌ لا فائدةَ فيه؛ لأنَّ الكتاب الأصل محدود الصَّفحات، فأنت تريده، والتَّحقيق العلمي الصَّحيح هو الذي يُضيء الكتاب ولا يُظلمه.
وكان العلماءُ إذا رأوا كتابًا فيه تعليقٌ وإصلاحٌ يفرحون به كثيرًا، وكانوا يقولون: "لا يُضيء الكتابُ حتى يُظلِم". كيف هذا؟ يُظلِم بكثرة التَّعليقات، لكنَّه يُضيء فيُقدِّم لك كتابًا مُحققًا تحقيقًا جيدًا.
أيضًا من الأمور المُهمة: يقول العلماء: الكتب التي لا يحتاج المرءُ إليها إلا قليلًا، مثل: كتب تخريج الأحاديث الآن، يعني موسُوعات في تخريج الأحاديث، فتجد مثلًا موسوعة تتسع لخمسة وعشرين مجلدًا، مُرتبةً على الحروف الهجائية، مثل: كنوز السنة وغيرها، هل تقتني هذه الكتب؟ هذه لا تعود إليها إلا أحيانًا، فهذه الكتب ماذا تفعل بها؟ هل تقتنيها أم لا؟
تقتنيها، حتى لو لم تكن بحاجةٍ إليها إلا لفترةٍ يسيرةٍ، فإنَّ وجودها معك يُسهِّل لك العلم ويُقرِّبه لك.
من المسائل التي يتحدَّث عنها العلماء: مسألة إعارة الكتاب:
لو بحثتم في كلام العلماء عن الكتب لوجدتم أنَّهم يتحدَّثون عن أعزِّ شيءٍ يملكونه، وسيأتي معنا أنك إذا أتيت لتتناول الكتاب فبأيِّ يدٍ تتناوله؟
وكان بعضُهم يجعل كُمَّه الأيمن كبيرًا جدًّا من أجل أن يُخزِّن فيه الكتاب، حتى إذا كان في وقت فراغٍ أو تسنى له وقتٌ؛ يأخذ الكتابَ ويقرأه.
فكانوا يُعظِّمون الكتاب إلى درجةٍ كبيرةٍ جدًّا، وليس الحديثُ الآن عن القراءة والكتاب بقدر ما هو أنَّه مفتاحٌ من مفاتيح العلوم.
لديك كتاب، هل تُعيره أم لا؟
أنت تقول: لا، ما تُعيره.
وأنت يا شيخ؟ تُعيره.
للعلماء مسالك في هذا:
المسلك الأول: مَن كانوا يمنعون الإعارةَ مُطلقًا، ومن هؤلاء أئمَّة عظماء، وكان أحدهم يقول:
أَجُودُ بِجُلِّ مَالِيَ لَا أُبَالِي *** وَأَبْخَلُ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ
لماذا؟ قال:
وَذَاكَ لأَنَّنِي أَنْفَقْتُ حِرْصًا *** عَلَى تَحْصِيلِهِ شَرْخَ الشَّبَابِ
طول عمري أجمع الكتبَ فكيف أُعيرها بهذه السُّهولة؟!
ومن العلماء مَنْ كان يرى الإعارةَ مُطلقًا، ويرى أنَّ ذلك من المكارم التي يسعى إليها الإنسانُ، فقيل لأحدهم: أَعِرني كتابًا. قال: لا. قال: ولِمَ؟ قال: إنَّه من المكاره. قال: أما علمتَ أنَّ المكارم موصولةٌ بالمكاره؟!
ومن العلماء مَنْ كان يمنع الإعارةَ إلا بشروطٍ، فيقول: أنا لا أُعير إلا بشروطٍ. ما هي الشُّروط؟
قال: أولًا: أمتحن الذي يُريد أن يستعير، فإن كان صاحبَ دينٍ وعلمٍ أعرته، يقول: لا تُعِرْ كتابك إلا إذا علمتَ أنَّ المُستعير ذو علمٍ ودينٍ.
أيضًا من الشروط: أن تنظر في كتبه السَّابقة، فإذا رأيته يتعامل مع كتبه هو معاملةً جيدةً فسيتعامل مع كتب الآخرين كذلك.
وفيما يتعلَّق بقضية النظر في الكتب والمرات السابقة: أتى أحدُهم فاستعار من أحد العلماء كتابًا فأعاره، فأعاده مُتكسِّرًا، ثم أتى مرةً أخرى ليطلب كتابًا آخر، فقال: ما أحسنتَ ضيافة الأول حتى نُعيرك الثاني!
أيضًا من الوسائل التي كانوا يقومون بها: أنَّهم كانوا يأخذون الرَّهن الوثيق، فيقولون:
أَعِرِ الدَّفْتَرَ لِلصَّاحِبِ بِالرَّهْنِ الْوَثِيقِ *** إِنَّهُ لَيْسَ قَبِيحًا أَخْذُ رَهْنٍ مِنْ صَدِيقِ
حتى يُحافظ على كتابك.
وفي كلِّ الأحوال الأدب في قضية الإعارة والاستعارة أن يُعمَل بها كالتالي:
- أن يكون الإنسانُ مُعتدلًا متوسطًا، وقد أتى أحدُهم إلى صاحبه فقال: أعرني كتابًا؛ فأعاره. فقال: لا تكن إعادتك للكتاب أو حبسك للكتاب كصاحب القِرْبَة. قال: وأنت لا يكن طلبك للكتاب كصاحب المصباح. فقال: نعم.
ما قصة صاحب القِرْبَة والمصباح؟
أحدهم استعار قربةً من جارٍ له؛ ليأخذ فيها ماءً ويُعيدها في اليوم التالي، فأعادها بعد سنةٍ مُخرَّقةً، فقال: لا تكن في حبسك للكتاب كصاحب القِرْبَة.
أمَّا صاحب المصباح: فإنَّ رجلًا أتى إلى آخر فقال: أعرني المصباحَ فإنَّه سيأتيني ضيفٌ في الليل؛ فأعاره، فبعد ساعةٍ ذهب إليه وقال: أُريد المصباح. فقال له: أنا استعرتُه منك لليل أم للنَّهار؟ فقال: لليل. فقال: لم يحن الليل بعد. فقال: لا تُعطيني الآن وتأتيني بعد ساعةٍ لتطلبها.
فلا يكون الإنسانُ كصاحب القِرْبَة، ولا يكن كصاحب المصباح.
كيف تقرأ بطريقةٍ سليمةٍ حتى تستفيد؟
وذكِّرونا أيضًا أن نتحدث عن ترتيب المكتبة وكيف تكون؟
كيف تقرأ قراءةً سليمةً صحيحةً؟
الكتب كثيرة، وحينما تدخل الآن في معارض الكتب وتتأمَّل هذه الكتب جميعًا تقول: أين الوقت حتى يستطيع الإنسانُ أن يقرأ فيه أكبر قدرٍ من هذه الكتب، والأغرب من هذا أنَّك أحيانًا حينما تُقلِّب صفحات العلماء تجد أنَّ الخطيب البغدادي -رحمه الله- قالوا عنه أنَّه قرأ كتاب البخاري في ثلاث مجالس، يعني في ثلاثة أيامٍ.
قال الذَّهبي: "وأحسب أنَّ هذا لا يستطيعه أحدٌ، ولعلَّه قرأها في خمسة مجالس"، يعني في خمسة أيام.
كيف تقرأ؟
فأحيانًا بعض الناس يقرأ ويقرأ ويقرأ ولا يجد فائدةً، والبعض يقرأ أقلّ وتجد لديه حصيلةً معلوماتية ومعرفيةً أكثر من غيره.
فحتى تستفيد من القراءة لابُدَّ أولًا أن تعرف طرائق المُؤلِّفين. بمعنى: أنَّ بعض الكتب تصلح لتكون مَرجعًا، وبعض الكتب تصلح لتكون كتابًا أصيلًا في الفن، وبعضها قد لا يُحتاج إليه.
فحينما نتكلم عن كتاب "كنوز السُّنة" –وقد ذكرناه في هذا اللِّقاء للمرة الثانية- فهو كتابٌ تحتاجه إذا أردتَ أن تعود إلى حديثٍ مُعينٍ، لكن ليس هو من الكتب التي تُقرأ بشكلٍ كاملٍ، فهناك كتب مثل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنت بحاجةٍ إلى أن تتأمَّلها وتقرأ ما فيها، فمعرفتك بطرائق المُؤلِّفين تُساعدك -بإذن الله عز وجل- على أن تقرأ قراءةً سليمةً صحيحةً.
أيضًا اقرأ في البداية الكتب الواضحات، فحينما تريد أن تبدأ في العقيدة مثلًا فمن الخطأ أن تبدأ بكتاب "التَّدمريَّة" لابن تيمية -رحمه الله- لماذا؟ لأنَّ هناك مجموعةً من المصطلحات في هذا الكتاب لن تستطيع أن تستوعبها إلا إذا قرأت الكتبَ التي هي أقلّ منه.
إذن تبدأ في قراءة الكتب الواضحات.
وبالجملة: العلماء يقولون: قراءة الكتب على قسمين:
- إمَّا أن تشملها القراءة السَّريعة.
- أو القراءة المُتأنية الفاحصة.
القراءة المتأنية الفاحصة متى تكون؟ إذا كان للفن الذي تتخصص فيه، فحينما تريد أن تبحث في مسألةٍ تتعلَّق بالاعتقاد؛ فمن الخطأ مثلًا أن تقول: والله سأقرأ كتاب "لُمعة الاعتقاد"، أو سأقرأ كتاب ابن القيم قراءةً سريعةً، لا، هذه تحتاج إلى قراءةٍ مُتأنيةٍ فاحصةٍ، فتقرأها برويَّةٍ وتركيزٍ حتى تستطيع أن تستوعب كلَّ ما فيها.
لهذا يقول المزني: "ما زلتُ أقرأ في كتاب "الرسالة" للإمام الشافعي، وفي كلِّ مرةٍ أقرأ أجد فيها فائدةً جديدةً".
ننتقل للنوع الثاني من القراءة: وهو القراءة السَّريعة: وهي من أهم القضايا التي أُريدكم أن تُركِّزوا فيها؛ لأنَّ معرفتك بهذه القراءة السَّريعة تجعلك تقطع شوطًا كبيرًا في القراءة واستيعابًا أكثر من غيرك.
ذُكِرَ عن بعض العلماء أنَّه: "قرأ الكتاب ألف مرةٍ". فتجد مكتوبًا في آخر كتاب "المُدونة" للإمام مالك يقول: "قرأته ألف مرةٍ"، وبعضهم يقرأ أربعين مرةً وخمسين مرةً كتابًا واحدًا.
كيف الطريقة؟
هي طريقة القراءة السَّريعة. ما المراد بالقراءة السريعة؟
باختصارٍ: الطفل أول ما يبدأ في تعلم القراءة يتعلم حرفًا حرفًا، يعني حينما تُعطيه كلمة مثل: الرحمن، تُعطيها له هكذا: (ا- ل- ر- ح)، ثم بعد ذلك يجمعها في (الرحمن)، فإذا تطور يبدأ في قراءة الكلمة، أي ينتقل من قراءة حرفٍ إلى قراءة كلمةٍ.
والقراءة السَّريعة هي أن تنتقل من قراءة حرفٍ إلى قراءة كلمةٍ ثم إلى قراءة جملةٍ ثم إلى قراءة عدَّة جُملٍ أو عدَّة رموزٍ أو عناصر. كيف؟
يقولون: القضية كلها تتعلَّق بالعين، فالعين حينما تقرأ كتابًا فإنَّها تقرأ في كلِّ دقيقةٍ من مئتين إلى ثلاثمئة كلمةٍ، هذا هو المُعدَّل الطبيعي، فالمُعدل الطبيعي لكلِّ الناس هو قراءة من مئتين إلى ثلاثمئة كلمة في الدَّقيقة الواحدة بمعدل صفحة واحدة، فكلما استطعت أن تُمرر عينك أكثر؛ استطعت أن تستوعب أكثر.
والقراءة السَّريعة من الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالبُ العلم.
يقولون: ينبغي لطالب العلم أن يمشي سريعًا، وأن يكتب سريعًا، وأن يقرأ سريعًا.
الآن قلنا: أنَّ الدقيقة الواحدة تقرأ فيها من مئتين إلى ثلاثمئة كلمة بمقدار ماذا؟ في الدقيقة تقرأ صفحةً واحدةً تقريبًا.
هنا تأتي قضية عقد الدَّورات التَّدريبية للقراءة السَّريعة، للأسف أكثر الدَّورات التدريبية للقراءة السَّريعة هي تطبيقات نظرية وليست عمليةً، كما أنَّ الإنسانَ إذا أراد أن يكون رياضيًّا يُدرِّب جسمَه عن طريق التَّمارين؛ فكذلك إذا أردتَ أن تقرأ سريعًا يجب أن تُدرِّب عينيك على القراءة.
كيف أقرأ قراءةً سريعةً؟ وكيف أُمرِّن نفسي؟ وكيف أُمرِّن عيني على القراءة السَّريعة؟
يقول العلماءُ: أن تقرأ بمتابعة الأصبع. والناس تختلف، فأنا من النوع الذي لا يستطيع أن يقرأ بدون قلمٍ، فيكون القلمُ في يديك، وحتى تكون القراءةُ السَّريعة صحيحةً تفعل التالي:
أولًا: تكون في مكانٍ لا يشغلك فيه أحدٌ، فتُحدد المكان الذي تريد، وتنقطع عن الناس، ولا ينبغي أن ترد على الهاتف مرةً ومرةً على الجوال، ومرةً تقول للأبناء: اخرجوا، ومرةً تقول: ادخلوا؛ لا ينفع هذا، بل يجب أن تنقطع عن الناس تمامًا لمدة ساعةٍ أو ساعتين تستطيع أن تنتهي من مجلدٍ كاملٍ.
فيجب أن تُحدد المكان الذي تقرأ فيه، وإذا حددت هذا المكانَ لا يكون لديك فيه وسائل للتواصل مع الآخرين، وتنقطع فيه أيضًا عن الأكل والشُّرب، وتبدأ بالقراءة، فتأخذ القلم وتضعه على السَّطر، وهنا تبدأ في تمرير العين، في البداية ستجد مشقَّةً في الحركة، لكن فيما بعد ستجد أنَّ عينيك تسبق القلمَ وتسبق الأصبع مع مرور الزمن.
سؤال: أثناء القراءة تمر عليك أشياء تريد أن تحفظها، وتمر أشياء تريد أن تفهمها، وتمر أشياء تُريد أن تسأل عنها؛ فهنا ضع ما يُسمَّى بالرُّموز. كيف تكون الرُّموز؟
تقرأ قراءةً سريعةً، والذي تريد أن تحفظه تضع أمامه (ح)، وبعد أن تفرغ من الكتاب تعود وتحفظه.
والذي لا تفهمه تكتب (ف).
والذي تُريد السؤال عنه تكتب (س).
والذي تريد أن تجعله فائدةً تجمعها فيما بعد تكتب (د).
وهكذا، فكلُّ إنسانٍ يضع رموزًا لنفسه، ومن خلال هذه الرُّموز يستطيع أن يصل إلى الغاية التي يُريدها، وفي هذه الطريقة طبعًا الناس يختلفون:
فبعض الناس يحتاج إلى راحةٍ في كلِّ ربع ساعة، وفي هذه الراحة تستطيع أن تأكل، وتشرب، وتفعل ما تشاء، وبعضهم يستطيع أن يأخذ راحةً كلّ نصف ساعة، وبعضهم لديه الفرصة في الصبر إلى مدة ساعة كاملة.
بهذه الطريقة يستطيع الإنسانُ أن يستوعب القراءةَ السريعةَ بشكلٍ إيجابيٍّ، وبشكلٍ صحيحٍ، ويستطيع -بإذن الله عز وجل- أن يُنجِز الأمرَ الذي يُريده.
من المسائل أيضًا المهمة: أنَّك أثناء القراءة لا تُحرِّك رأسك، فلو فرضنا أنَّ هناك -كما يقول بعضهم- خمسمئة كلمة مثلًا، أو خمسمئة صفحة؛ فإنَّ رأس القارئ يتحرك في الخمسمئة صفحة خمسة عشر ألف مرة، وهذه كافية أن تجلب النومَ للإنسان، فلا تُحرِّك رأسك أثناء القراءة، والأصل أن يكون بصرُك في وسط الكتاب وينزل إلى الأسفل، وأيضًا يلتقط الإشارات في الأعلى، لكن لا تُحرِّك رأسك، وحرِّك عينيك فقط حتى تستطيع أن تستوعب القراءة بشكلٍ جيدٍ.
من المسائل المُتعلِّقة بالكتاب أيضًا: أنَّ القراءة السَّريعة يجب أن تكون صامتةً، فلا تكن القراءة مسموعةً، واعلم أنَّ القراءة المسموعة هي الأفضل في الحفظ، أمَّا القراءة الصامتة فهي الأفضل للفهم، وأقدر على أن يقطع الإنسانُ شوطًا كبيرًا جدًّا في القراءة بهذه الطَّريقة.
هذه بعض الأمور المهمة فيما يتعلَّق بالقراءة السَّريعة، أنا لا أدري هل بقي لدينا وقتٌ كافٍ حتى نستطيع أن ننتقل إلى موضوع البحث؟
إذن المفتاح الأول هو: السؤال.
والمفتاح الثاني هو: القراءة.
والمفتاح الثالث: البحث.
قبل الحديث عن البحث أُعِيد باختصارٍ ما ذكرناه في موضع القراءة السَّريعة:
من خلال القراءة السَّريعة -إخوتي- وفي خلال أسبوع تستطيع أن تخرج بحصيلةٍ طيبةٍ، فتجد نفسك يوم الجمعة قد قرأتَ من ثلاث إلى أربع مجلدات، وأنا جربتُ هذه الطريقة في أسبوعٍ، ووجدتُ فعلًا أنني استطعت أن أُنجز أكثر من أربعة مجلدات، فقرأت كتاب "الفوائد" لابن القيم، وكتاب "مفتاح دار السَّعادة"، وكتابين آخرين، فبهذه الطريقة يستطيع الإنسانُ أن يستوعب فيها أشياء كثيرةً.
سؤال: هل القراءة السَّريعة أقلّ فهمًا؟
أثبتت الدراسات أنَّ القراءة السَّريعة هي أكثر تفهيمًا للقارئ. لماذا؟ لأنَّ القراءة مُتواصلةٌ، فحينما تقرأ مثلًا كتاب "الداء والدواء" لابن القيم وتمكث فيه أسبوعًا كاملًا تجد أنَّ هناك انفصالًا بين ما قرأته قبل أسبوعٍ وما تقرأه في آخر يومٍ، بينما مع القراءة السَّريعة تجد أنَّك في يومٍ واحدٍ وفي ساعةٍ واحدةٍ تمر على الكتاب؛ فيكون هناك ترابطٌ في المعلومات التي ترجوها.
إذن القراءة السريعة تحتاج إلى:
- مكانٍ جيدٍ وصحيٍّ من حيث التَّهوية، ومن حيث الإضاءة.
- مكانٍ تنقطع فيه عن الناس تمامًا، فتنقطع عن الهاتف والناس المُحيطين بك.
- أن تأخذ قلمًا، وأن تُمرر القلمَ على السطر، وأن تتبع عينيك القلمَ، لا القلم الذي يتبع العينين.
- أن يكون لديك رموزٌ وإشارات، فكلُّ واحدٍ منا يكون له رموزه الخاصَّة في الفهم والحفظ والأسئلة.
وبهذا تستطيع -بإذن الله عز وجل- أن تستوعب القراءة السَّريعة.
أتمنى أن تُطبِّقوها وتُجرِّبوها، وستجدون أثرها وفائدتها أكبر -بإذن الله.
المفتاح الثالث: مفتاح البحث:
البحث أيضًا من مفاتيح العلوم، ومن المفاتيح التي يتوصَّل بها الإنسانُ إلى بُغيته، فالسؤال يُوصلك إلى بُغيتك، والتَّلقِّي عن العلماء يُوصِلك كذلك، وكذلك القراءة؛ بل إنَّ البحث أحيانًا قد يصل الإنسانُ من خلاله إلى مسائل كثيرةٍ أفضل من أن يقرأ كتابًا واحدًا، إذا أخذه الإنسانُ بجدٍّ واجتهادٍ.
ولهذا أنا أقول لكم الآن كما أقول للطلاب في الجامعة: لا تبحثوا دائمًا عن طريق الكمبيوتر، أو عن طريق المكتبات الموجودة حاليًّا، وليحرص كلُّ واحدٍ منكم أن تكون له أبحاث خاصَّة يعود فيها إلى الكتب. لماذا؟
لأنَّك حينما تستخدم مُحرِّكات البحث والمكتبات الموجودة على شبكة الإنترنت؛ فإنَّك تصل إلى الغاية التي تُريدها مباشرةً، بينما إذا بحثت في الكتب ستُقابلك فوائد عدة، فأنت مثلًا تبحث عن مسألةٍ فقهيةٍ فتجد أنَّك تمر على مسائل في الفقه، ومسائل في العقيدة، ومسائل في اللُّغة، ومسائل متنوعة ومختلفة تمامًا عن كونك تبحث عن مسألة واحدةٍ.
فاجعل لك دائمًا أبحاثك الخاصَّة بك، واجمعها في مجلدٍ أو في ملفٍ واحدٍ، وستكون في يومٍ من الأيام من الأبحاث المُفيدة التي ينتفع بها الناسُ، وقد ترى أنَّها غير مُفيدةٍ، لكنَّك في يومٍ من الأيام ستجد أنَّ فيها فائدةً وثمرةً كبيرةً لك.
الشيخ محمد الأمين الشَّنقيطي صاحب "أضواء البيان" -رحمه الله- يقول: حضرتُ يومًا الدرس عند أستاذي، فلم أفهم ذلك الدرس كما كانت العادة، فكنت في العادة أخرج من الدرس مُستوعِبًا الدرس بشكلٍ جيدٍ. يقول: فعدتُ إلى منزلي الظهر، وبدأتُ أبحث في هذه المسألة. يقول: فلم أنتبه إلا والعصر يُؤذَّن له، فصليتُ العصر وعدتُ إلى المكتبة واستمررت في البحث حتى أُذِّن للمغرب، فصليتُ في المسجد وعدتُ، ثم بعد ذلك أوقد لي خادمي حطبًا حتى أستضيء به. فيقول: فاستمررتُ على ذلك إلى أذان الفجر، لا يقطعني إلا أن أشرب الشاي حتى أطرد الكسل والملل عني، فأُذِّن للفجر ولم تنجلي لي المسألة، فصليتُ وعدتُ حتى ارتفع النهارُ، وعند ذلك اتَّضحت ليَ المسألةُ بشكلٍ كاملٍ، فقلتُ لخادمي: لا تُوقظني لدرس الشيخ؛ فقد اكتفيتُ بما استفدته بالأمس.
من الظهر إلى طلوع النَّهار في اليوم الثاني وهو يبحث، كم كتابٍ قرأ؟ كم مسألةٍ مَرَّ عليها في اللُّغة وفي الفقه وفي المصطلح وفي الأصول؟ مسائل كثيرة.
ولهذا تجد العلماء أثناء البحث في المسائل يستخرجون فوائد علمية لم تكن لغيرهم.
ومُحرِّكات البحث الموجودة بالإمكان أن يستفيد منها الطالبُ إذا كان يقوم ببحثٍ سريعٍ، كأمرٍ يحتاج أن ينتهي منه سريعًا، حتى تخريج الأحاديث لا تعتمد فيها على ذلك، والآن يعملون على برنامجٍ للحديث، حيث تُدخِل الحديثَ فيخرج لك مَن رواه، ومَن خرَّجه، ومَن صحَّحه، ومَّن ضعَّفه، ومَن تحدَّث فيه بسهولةٍ، لكن حينما كان أحدُ العلماء سابقًا يُسافر من أجل حديثٍ واحدٍ، ويطوي الفيافي، ويبيت نائمًا جائعًا، ثم بعد ذلك يعود إلى أهله بعد عامٍ كاملٍ من أجل أن يستمع إلى حديثٍ واحدٍ من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم.
أيضًا من المسائل المهمة في البحث: أن يكون لدى طالب العلم جَلَدٌ وقُوَّة في معرفة أقوال العلماء. كيف؟
حينما تقرأ في كتابٍ في الفقه الشافعي مثلًا ويقول لك في هذا الكتاب: وقال الإمام أبو حنيفة كذا. هنا البحث والتَّعب أن تذهب إلى كتب أبي حنيفة وكتب الأحناف؛ فتستخرج منها ما قاله أبو حنيفة -رحمه الله.
فهناك بعض المسائل التي كنا نسمعها عن الإمام الشافعي -رحمه الله- مثل أنَّه كان يرى الجهرَ بالنية، فيقول شيخنا عبد الله بن جبرين -رحمه الله: "فذهبتُ إلى كتب العلماء في ذلك المذهب فلم أجد أنَّ هذا قول العالم".
وهذه من الفوائد الجميلة التي يجدها طالب العلم ويسعد بها وينتشي بها حينما يجد مسألةً تعب في تحصيلها، فوجد فيها تحقيقًا علميًّا لم يُسبَق إليه، فهذه أيضًا من الفوائد المُهمة.
أيضًا أثناء البحث درِّب نفسك على أن تعود إلى المراجع الأصلية: فأسوأ شيءٍ أن تعود إلى المُختصرات، فالعالم صنع المُختَصر بناءً على تراكم معرفي كبير، فأتى فقدَّم لك هذه الخلاصة، فهل تريد الخلاصة في العلم أم تريد أن تتبحر وتتوسَّع؟ فقد تستفيد من الخلاصة في حفظها، وفي التَّعامل معها، لكن لا يكون هذا هو الأصل لديك، فلابُدَّ أن تتوسَّع في العلوم، وتعود إلى المراجع الأصلية.
يقول أحدُ العلماء: ذهبتُ إلى الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- وقرأت –أظنُّه قال- كتاب "مختصر منهاج القاصدين" لابن قُدامة –وهو كتابٌ معروفٌ- فيقول: فسألتُ الشيخ عبد العزيز بن باز عنه وأردتُ أن أتنمَّر بالعلم -بمعنى أن يفرد الإنسانُ عضلاته الفكريَّة أمام شخصية مثل الشيخ ابن باز- فقال الشيخ -رحمه الله: لم أقرأ الكتاب. فقلتُ: أنت الشيخ ابن باز ولم تقرأ الكتاب! قال: يا بني، العلم له أصول، فإذا قرأت الأصولَ نطقت القلوبُ بالفروع.
فالشيخ كان يقرأ البخاري ومسلم والتِّرمذي والنَّسائي وابن ماجة، والكتب الأصيلة لأهل العلم، أمَّا أمثال كتاب "مختصر منهاج القاصدين" فهي من الفروع التي إن وجد الإنسانُ وقتًا قرأها واستفاد منها وقدَّمها، وإن لم يجد فإنَّها ليست من العلوم المُهمة.
إذن: طالب العلم بحاجةٍ إلى أن يعود إلى هذه المراجع الأصلية.
أيضًا الأمانة العلمية: فلا تنسب لنفسك قولًا ليس لك، فمن أسوأ الأشياء في طالب العلم أن يبحث في مسألةٍ ثم يقول: هذا قولي. وأحيانًا يكتب قولًا ويظنّ أنَّه له فينسبه لنفسه فيفتضح بين أهل العلم، والعلماء لهم تصانيف فيمَن يُغِيرون على كتب العلماء ويسرقون هذه التَّصانيف وينتحلون هذه الكتب.
فالبحث عمومًا من المفاتيح العظيمة التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها.
والحديث عن البحث يطول، لكن الذي أردتُ أن أُوصله لكم -قبل أن آخذ أسئلتكم- من خلال هذا اللِّقاء: أنَّك حتى تصل إلى العلم الشرعي لابُدَّ لك من مفاتيح، وهذه المفاتيح لا ينفع أن تأخذ ببعضها وتترك بعضها، بل يجب عليك كطالب علمٍ تريد أن تُؤسِّس نفسك وتُؤصِّلها تأصيلًا وبناءً علميًّا أن تأخذ بها جميعًا، فيجب أن يكون لديك سؤالٌ لأهل العلم، وتكون لديك القراءة، ويكون لديك العلم، ويكون لديك التَّلقي -تلقي العلم الشرعي- وهذا ما سنتحدث عنه -بإذن الله عز وجل- في اللِّقاء القادم.
نأخذ بعض الأسئلة منكم.
{بالنسبة لإعارة بعض الناس الكتب للغير، بالنسبة للرأي الذي يقول بعدم إعارة الكتب، من الممكن أنَّهم كانوا يقصدون أنَّهم قديمًا كانوا يكتبون الكتب، فيأخذ هذا منهم الجهد والوقت غير أيَّامنا هذه. والآن أصبح من اليسير طباعة الكتب ورخص ثمنها، أمَّا قديمًا فكان إذا أخذ الكتاب ولم يرده خسر الكتاب}.
هذه وجهة نظر، ولكنَّها طبعًا مثلما ذكرتُ، فمن العلماء مَن كان يمنع مُطلقًا، ليس فقط لأنَّهم كانوا يكتبون بخطِّ اليد؛ بل لأنَّها كانت تعني لديهم الشيء الكثير، وسبب المنع أنَّهم يخشون من عدم إرجاعها، يقولون أنَّ رجلًا جمع مكتبةً كبيرةً في الهند، فقالوا له: من أين لك هذه الكتب؟ قال: استعرتها من الناس. قالوا: أوَلا تُعيدها؟! قال: مَن أعار الكتابَ فهو مجنونٌ، ومَن أعاده فهو أجنّ منه.
حتى الكتب الآن، فالكتاب الذي قرأتَ فيه ووضعت عليه تعليقاتك أو تعليقات علماء حضرت دروسهم وكتبت، هذا يعني لطالب العلم الشيء الكثير، وحتى العلماء الذين أجازوا الإعارةَ مُطلقًا لا يقولون: لا تُعيدوا هذه الكتب. ولكن أيضًا يجب على طالب العلم أن يحرص على كتبه.
نعم، تفضَّل.
{من أهداف القراءة السَّريعة اختصار الوقت، أليس ثمَّة وقت لطالب العلم أن يضع رُموزًا على قراءته أثناء القراءة إمَّا ليحفظها أو يفهمها؟ فكيف يجمع بينهما؟}
كيف تقول: ما فيه وقت؟
{هل هناك وقتٌ ليضع رموزًا وهو يقرأ قراءةً سريعةً؟}
أنت الآن تقول ذلك لأنَّك لم تُجرِّب، لكن لو جرَّبت القراءة السَّريعة ستجدها سهلةً جدًّا، فمن السهل وأنت تتنقل بين الأسطر أن تضع حرف (ف)، وكذلك حرف (ح)، ومع الزمن ستجد أنَّها سهلةٌ وميسورةٌ جدًّا.
{ولا تأخذ من الوقت؟}
لا، ما تأخذ وقتًا أبدًا، ولا تُعيق طالب العلم، فالذي أُريد أن أقوله: أنَّ القراءة السَّريعة مبنية على التدريب، فكلَّما تدربتَ عليها أكثر كلما استطعت أن تقرأ بشكلٍ أكبر، فإذا كان المُعدل الطَّبيعي أن تقرأ في الدَّقيقة مئتين إلى ثلاثمئة كلمة، وهي تقريبًا صفحة أو أكثر؛ فتستطيع أن تجعل هذه الدَّقيقة في صفحتين، وهكذا حتى تصل -بإذن الله عز وجل- إلى بُغيتك.
أرجو -إن شاء الله- أن تكون فيما قدَّمناه فائدة، وأُؤكِّد وأُكرر أنَّ ما نُقدِّمه في هذه الدروس هو عبارة عن إشارات ورموزٍ لعلمٍ كبيرٍ جدًّا ومعرفةٍ طويلةٍ جدًّا، لكن أرجو -إن شاء الله- أنَّ الذي لا نستطيع أن نفي به من خلال هذه الدروس أن نفي به -إن شاء الله- من خلال الكتاب الذي سيُطبَع قريبًا، وهو كتاب "البناء العلمي خطوات عملية".
أسأل الله -عز وجل- لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأن يجعل خير أيَّامنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وأن ينصر إخواننا المُستضعفين في سوريا وفي كلِّ مكانٍ، إنَّه -عز وجل- جوادٌ كريمٌ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
http://islamacademy.net/cats3.php