|
|
|
| محمد حسان |
الحمد لله رب العالمين، وأشهد ألا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله إمام الغُر الميامين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد..
فحيَّاكم الله جميعًا أيها الإخوة الفضلاء الأعزاء، وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم وتبوأتم جميعًا من الجنة منزلًا، هذا هو اللقاء الرابع مع الدرس الثالث من الدروس المهمة لعامة الأمة، لسماحة الوالد الشيخ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى- وفي هذا الدرس الثالث يتحدث شيخنا -رحمه الله- عن أركان الإيمان.
فيقول: (أركان الإيمان ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن القدر خيره وشره).
وأرجو أن أطوِّف بكم سريعا، فهذا الدرس يحتاج إلى سنةٍ على الأقل بلا مبالغة.
لكن في عجالة، أقول: أولًا الإيمان لغةً: هو التصديق ومنه قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا﴾ [يوسف: 17]. أي وما أنت بمصدقٍ لنا.
لكن شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه- قال: "بل الإيمان لغةً مشتقٌ من الأمن وهو القرار والطمأنينة، ولا تحصل الطمأنينة والقرار في القلب إلا إذا استقر في القلب التصديق والانقياد".
هذا هو الإيمان لغةً، ولا أريد أن أطيل أكثر من ذلك.
الإيمان اصطلاحاً: قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى: "لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت واحداً منهم يختلف على أنَّ الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص".
نحمد الله أن هدانا لهذا المعتقد الذي كان عليه سلفنا الصالح؛ لأنَّ سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا، وأصل كل خلاف في الأصول والفروع، فإن هداك الله لهذا المعتقد الصحيح الصافي، معتقد سلف الأمة الصالح، فاسجد لربك شكرًا، وسل الله أن يثبتك على هذا المعتقد وأن يختم لك به، فهذا هو المعتقد الذي كان عليه نبينا -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
الإيمان قول باللسان، ولا يتسع الوقت لذكر الأدلة على كل أصلٍ من هذه الأصول.
قول باللسان:
﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ... الآيات﴾ [البقرة:136]، والآيات في هذا الباب كثيرة، لا بد أن يقرَّ اللسان بالإيمان بالنطق بالشهادتين.
واعتقادٌ بالجنان: تصديقٌ بالقلب، واعتقادٌ بالقلب أنّ الله -عز وجلَّ- وحده لا شريك له وأن يؤمن القلب أيضًا وأن يعتقد في هذه الأركان التي ذكرناها بالتفصيل -إن شاء الله تعالى.
وتصديق القلب أمر غاية في الأهمية، واعتقاد القلب أمر في غاية الأهمية، قال الله -تبارك وتعالى: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: 7]، ﴿إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ﴾ [النحل: 106]، إلى آخره.
فلا بد من اعتقاد تصديق القلب، وكذلك عمل بالجوارح والأركان، وهذا هو موضع المعركة بين أهل السنة وغيرهم من الفرق التي ضلت في هذا المبحث الخطير، فنحن نؤمن بأن الإيمان قول واعتقاد وعمل، عمل القلب وعمل اللسان وعمل الجوارح، والأدلة على ذلك كثيرة.
﴿إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحجرات: 15].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج: 77].
إلى آخر الآيات وهي كثيرة جدًّا.
نعتقد أيضًا أنّ الإيمان -يا أحبابي- يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والأدلة في هذا الباب كثيرة.
قال -تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4]، وقال -جل وعلا: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17].
والأدلة في القرآن كثيرة كما ذكرت، وفي السنة النبوية كثيرة أيضًا، أكتفي بذكر دليل واحد رواه الإمام مسلم، وهو حديث تعرفونه جميعًا: أنَّ حنظلة الأسيدي، وكان حنظلة من كتاب الوحي، لقيه الصديق -رضي الله عنه- فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة، قال: وما ذاك؟ قال: نكون عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يذكرنا بالجنة والنار كأنَّا رأي عين فنبكي وتخضل لحانا، فإذا عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرًا، أي نسينا ما كنا عليه من حال عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من رقة قلب وخشوع بدنٍ وجوارح.
فقال الصديق -رضي الله عنه: والله إنّا لنلقى مثل هذا، أو مثل ذلك، فانطلقا أبو بكر وحنظلة -رضي الله عنهما- إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: نافق حنظلة يا رسول الله، قال: وما ذاك؟ قال نكون عندك فتذكرنا بالجنة والنار كأنَّا رأي عين، فنبكي وتخضل لحانا -أي من البكاء-، فإذا عدنا إلى بيوتنا عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات ونسينا كثيرا، فقال -صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو تدومون على الحال التي تكونون بها عندي؛ لصافحتكم الملائكة على فُرُشكم وفي الطرقات، ولكن ساعة وساعة، ساعة وساعة، ساعة وساعة».
إذن الإيمان يزيد في بيئة الطاعة، ويزيد بالطاعة، وينقص في بيئة المعصية، وبالوقوع في الذنوب والمعاصي.
ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الإيمان ليخلق» أي ليرِقُّ ويَبلى «إنّ الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم».
وكان الصحابي يلقى الصحابي فيقول: "هيا بنا نؤمن ساعة"، هو لا يقصد أصل الإيمان، وإنما يقصد الزيادة بالإيمان، أسأل الله أن يجدد وأن يزيد إيماننا، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
أيضًا في عُجالة سريعة: نحن نؤمن بتفاضل أهل الإيمان لا يمكن أبدًا أن يكون إيماني وأن يكون إيمانك كإيمان جبريل عليه السلام، أو كإيمان أبي بكر وعمر، أو كإيمان عثمان وعلي، هذا ضرب من الجهالة والسفه لا يقول به عاقل فضلًا عن عالم أو طالب علم، فنحن نؤمن بأن أهل الإيمان يتفاضلون.
يقول الله -عز وجلَّ: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ [فاطر: 32].
هذا بنص القرآن فيه تفاضل.
وكذلك يقول عمر -رضي الله عنه: لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان أهل الأرض لرجح إيمان أبي بكر -رضي الله عنه.
فلا يمكن أبداً أن يكون كإيمان جبريل، أو كإيمان سيدنا رسول الله، أو كإيمان الصحابة -رضي الله عنهم.
فنحن نؤمن أيضًا بتفاضل أهل الإيمان، ولا يتسع الوقت لذكر الأدلة على ذلك.
نؤمن أيضًا -يا إخواني- بأنَّ الإيمان له حلاوة: «ثلاثٌ من كنّ فيه وجد فيهن حلاوة الإيمان، أن يكونَ الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكون أن يعود للكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار»، والحديث رواه البخاري ومسلم من حديث أنس.
نؤمن أيضًا: بأن الإيمان له طعمًا، روى مسلمٌ في صحيحه من حديث العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولًا».
نؤمن أيضًا: بأنَّ للإيمان نورًا، روى أبو نعيم في الحلية وغيره بسندٍ حسن: أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما من القلوب قلبٌ إلا وله سَحابة كسحابة القمر، فبين القمر مضيء إذ علته سحابةٌ فأظلم، فإذا تجلَّت عنه أضاء».
يعني كما تحجب السحابة الكثيفة السوداء المظلمة نور القمر عن الأرض كذلك تحجب سحب المعاصي نور الإيمان في القلب، فإذا انقشعت سحابة السماء عن القمر؛ وصل نوره إلى الأرض، وإذا انقشعت سحابة القلب من الذنوب والمعاصي بالتوبة والأوبة والاستغفار، أشرق نور الإيمان في القلب.
أنا أودُّ أن نقتصر على هذا، أن نعرف الأمة أركان الإيمان، وحقيقة الإيمان، وحلاوة الإيمان، وطعم الإيمان، ونور الإيمان، وأن نكتفي بهذا، وألا نختبر الناس وألا نَفتن الناس في قضايا جزئية لم أر السلف -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- يضيعون أوقاتًا فيها، أو يفتن واحد منهم الأمة بها.
نسأل الله أن يرزقنا الفهم والعلم والإخلاص والعمل، إنّه ولي ذلك والقادر عليه.
الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- باختصار شديد: هو الاعتقاد الجازم بأن الله -تبارك وتعالى- هو رب كل شيء وخالقه ومالكه ومُصرّف أمر الكون ومدبره، وهو الاعتقاد الجازم بأنه وحده الذي يستحق العبادة، فالإيمان بالله -تبارك وتعالى- إقرارٌ بتوحيد الربوبية، إقرار بتوحيد الألوهية، إقرار بتوحيد الأسماء والصفات، نفي للآلهة والأرباب والأنداد والطواغيت، وإفراد الله وحده بالعبادة بغاية الذل وغاية الحب.
الإقرار والاعتقاد الجازم والإيمان بكل أسمائه الحسنى وصفاته العلا التي أثبتها -جلَّ وعلا- لذاته في قرآنه، وأثبتها له أعرف الناس به عبده ورسوله المصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم.
أرجو أن أؤكد للأمة كلها ولطلاب العلم: أن الإيمان ليست مجرد كلمة ترددها الألسنة، وإنما هو قولٌ واعتقادٌ وعملٌ يزيد وينقص، له حلاوة له طعم له نور.
هذا هو الإيمان الذي أعز الله به الأمة ونصر الله به الأمة، ولن تذوق الأمة من جديد طعم الأمن والقرار والاستقرار والسعادة والعزة والاستخلاف والتمكين إلا بتحقيق هذا الإيمان بهذا التفصيل المختصر الذي بينته.
أركان الإيمان: أن تؤمن بالله.
الركن الثاني: أن تؤمن بملائكته، الإيمان بالملائكة هو الركن الثاني من أركان الإيمان بالله -تبارك وتعالى- قال الله -عز وجلَّ: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ ... الآيات﴾ [البقرة: 285].
قال -جلَّ وعلا: ﴿لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ﴾، [البقرة: 177]، الآية، والآيات القرآنية في هذا الباب كثيرة.
الكفر بالملائكة -يا إخواني- كفرٌ بالله -جلَّ وعلا-، قال الله -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾ [النساء: 136].
﴿وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾، فهذه أركان الإيمان أيضًا مذكورة في الآية ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾، لا، هنا ﴿بَعِيداً﴾، ﴿فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً﴾. أسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإيمان.
الملائكة خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- من نور، خلق من نور، هذا لا يجوز لأحد أن يقول فيه برأيه، وإنما يجب عليه أن يرجع إلى دليل نقلي قرآني أو نبوي ثابت صحيح.
ففي صحيح مسلم أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «خُلقت الملائكة من نور، وخُلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم».
الملائكة خلق عظيم ذو أجنحة مثنى وثلاث ورباع -سامحوني على سرعة الطرح لأن الموضوع كبير-، قال الله -عز وجلَّ: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلائِكَةِ رُسُلاً أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: 1].
الملائكة عبادٌ مكرمون، مربوبون مملكون لرب العالمين -سبحانه وتعالى- لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرا، قال الله عز وجلَّ - انتبه: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ... الآيات﴾ [الأنبياء16-28].
قال -جلَّ وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: 6].
وقال -جلَّ وعلا: ﴿وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾ [الأنبياء: 28]. -جلَّ جلاله.
الملائكة مفطورون على العبادة، لا يعصون الله ما أمرهم -كما ذكرت- ويفعلون ما أمرهم ربهم -سبحانه وتعالى.
وقال -جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ عِندَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء: 20،19]، أي لا يملون من العبادة والطاعة.
منهم الموكل بالوحي - لا أريد الأدلة طويلة جدًّا - منهم الموكل بالقطر، منهم الموكل بالنفخ في الصور، منهم الموكل بالأرزاق، منهم الموكل بالعباد.
﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد: 11]، نسأل الله أن يحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا.
منهم الموكل بالأرحام، روى البخاري ومسلم من حديث أنس أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «إنّ الله تعالى وكَّل بالرحم ملكًا. فيقول الملك أي رب نطفة؟ أي رب علقة؟ أي رب مضغة؟ أي رب أذكر أم أنثى؟ أي رب أشقي أم سعيد؟» وفي لفظٍ قال: «ويكتب الملك ويقضي ربك ما شاء».
هناك ملائكة موكلة أو ملك موكل بأرحام كل النساء على وجه الأرض: ﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ﴾ [فصلت: 47] -سبحانه وتعالى.
منهم أيضًا المبشرون للمؤمنين عند الموت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا ... الآيات﴾ [فصلت: 30].
إذن: من الملائكة من يبشر أهل الإيمان عند الموت بهذه البشرى.
منهم خزنةٌ للنار: ﴿وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا ... الآيات﴾ [الزمر: 71].
ومنهم خزنةٌ للجنة: ﴿وَسِيقَ الَذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ ... ﴾ الآيات [الزمر: 73].
أيضًا منهم حملة للعرش: ﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ﴾ [الحاقة: 17].
ومنهم أيضًا من يستغفرون لأهل الإيمان -الله أكبر-، قال الله -عز وجلَّ: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ﴾ [غافر: 7].
فحملة العرش يحملون العرش، ويسبحون الله، ويستغفرون لأهل الإيمان: ﴿وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً ... الآيات﴾.
ومنهم أيضًا ملائكةٌ سياحون في الأرض يبحثون عن درس كهذا الدرس، وحلقة كهذه الحلقة المباركة التي يذكر فيها اسم الله، ويذكر فيها كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
ومنهم الموكل بالجبال، وحديثه معروف في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة قالت: «بعث الله إليه ملك الجبال، فقال..» إلى آخره.
وكذلك يعني هناك -الموضوع يطول لكن باختصار- يجب على كل مسلم ومسلمة أن يؤمن بملائكة الله -تبارك وتعالى-، وأن يتولى الملائكة كلها جميعاً بالحب والتوقير والتعظيم والاستحياء.
واعلموا أنّ من كفر بملك من الملائكة فقد كفر بالله جلَّ جلاله، قال تعالى: ﴿قُلْ مَن كَانَ عَدُواًّ لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة 98،97].
مع أنّ الله -عز وجلَّ- قال: ﴿مَن كَانَ عَدُواًّ لِّلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ﴾، فلم ذكر بعد ذلك جبريل وميكال؟ هذا من باب الخاص بعد العام، كما يقول علماء الأصول وعلماء التفسير.
الملائكة تتأذى مما يتأذى منه ابن آدم، والأدلة على ذلك كثيرة كما في الصحيحين، وكذلك الملائكة تستبشر بما يعمله ابن آدم من عمل صالح.
يجب على المؤمن أن يؤمن بكل هذه التفاصيل التي ذكرتها على سبيل الإجمال وعلى سبيل التفصيل، هذا باختصار.
الإيمان بالكتب.
الإيمان بالكتب: وهو الركن الثالث من أركان الإيمان بالله -تبارك وتعالى.
والكتب هي الكتب والصحف المطهرة المنزلة من عند الله -تبارك وتعالى- على أنبيائه ورسله الذين اصطفاهم واجتباهم ليبلغوا الخلق عن الحق.
قال الله -تبارك وتعالى: ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ﴾ [البقرة: 136].
إذن: فيه كتب مُنزلة إلى هؤلاء الرسل جميعًا، يجب علينا جميعًا أن نؤمن بالله -تبارك وتعالى- وأن نؤمن بكل هذه الصحف وبكل هذه الكتب المنزلة على أنبياء الله ورسله على سبيل التفصيل الذي ذكره ربنا -تبارك وتعالى- في قرآنه، وذكره النبي في سنته وعلى سبيل الإجمال.
قال -تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ﴾ [النساء: 136].
إذن: لا بد أن نؤمن بالكتاب المنزل على قلب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأن نؤمن بالكتاب المنزّل على قلب كل رسول ونبي من أنبياء الله ورسله المذكورة لنا في كتاب الله أو في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
الإيمان بالكتب معناه: التصديق الجازم بأن هذه الكتب التي أخبرنا بها ربنا -تبارك وتعالى- وأخبرنا بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- منزلة جميعًا من عند الله -تبارك وتعالى-، وقد تكلم الله بها على الحقيقة كيفما شاء -سبحانه وتعالى- لا تعطّل أبدًا.
القرآن كلام الله، وكل الكتب منزّلة من عنده كلام الله تكلم به حقيقةً على الوجه الذي يليق بكماله وجلاله، لا تُعطّل ولا تحرف ولا تشبّه ولا تمثل، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
أوحاها الله -تبارك وتعالى- إلى أنبيائه ورسله المصطفين الأخيار عن طريق الوحي أو عن طريق ملك من الملائكة، الرسول الملكي يحمل الوحي للرسول البشري، أو يخاطب الله -تبارك وتعالى- بذاته الرسول الذي يريد أن يوحي إليه من وراء حجاب، قال الله -عز وجلَّ: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ [الشورى: 51] -سبحانه وتعالى.
فنحن نؤمن، نحن المؤمنين نؤمن بجميع ما أنزل الله -تبارك وتعالى- على رسله وعلى أنبيائه جملةً وعلى الغيب، ونؤمن بهذه الكتب على وجه التحديد والتخصيص الذي ذكره ربنا -تبارك وتعالى- في قرآنه من التوراة المنزلة على موسى، والإنجيل المنزل على عيسى -عليهما وعلى نبينا الصلاة والسلام-، والزبور المنزل على نبي الله داوود -عليه السلام- والصحف المنزلة على قلب إبراهيم وموسى -عليهما وعلى نبيان أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ونحن نؤمن أنّها جميعًا تتفق في الدعوة إلى الإسلام، وإفراد الله -تبارك وتعالى- وحده بالعبادة بلا منازعٍ ولا شريك، وإن اختلفت فيما بينها في الشرائع، ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً﴾ [المائدة: 48]، فإن اختلفت الشريعة في بعض الجزئيات فكل هذه الكتب تتفق في الأصول.
نؤمن بأن الله -عز وجلَّ- أنزل القرآن مصدقاً لكل ما سبق من هذه الكتب بل ومهيمنًا عليها، ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48].
ونؤمن كذلك بمتشابه القرآن ونعمل بمحكمه، نؤمن بمتشابهه ونعمل بمحكمه، ونحل حلاله ونحرم حرامه، ونمتثل أمره ونجتنب نهيه، ونقف عند حدوده.
قال الله -تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ﴾ [البقرة: 131].ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وقال -تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ النحل: 89]، والآيات في هذا الباب أيضًا كثيرة.
من الإيمان بالقرآن أيضًا أن نؤمن بكل ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- من عند ربه، لأنّ القرآن أمرنا بذلك، وأمرنا بطاعته، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ [الحشر: 7]، ﴿مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ﴾ [النساء: 80]، إلى آخر الآيات. هذا باختصار شديد جدًا في الإيمان بالكتب.
الإيمان بالرسل: هو الركن الرابع من أركان الإيمان بالله -تبارك وتعالى.
والرسل هم كل من أوحى الله -تبارك وتعالى إليهم- وأمرهم بالبلاغ عنه -جلَّ وعلا- لإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى أنوار التوحيد.
المشهور عند العلماء -وأنا أعلم أنّكم جميعًا تعلمون ذلك- المشهور عند العلماء: أن الرسول أشمل وأعم من النبي، هذا هو المشهور عند علمائنا أنّ الرسول أشمل وأعم من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا.
بل منهم من عرف الفرق أو مَن فرَّق الرسول والنبي فقال: الرسول هو من أوحى الله -عز وجلَّ- إليه بشرعٍ وأمره بتبليغه، أما النبي: فهو من أوحى الله -عز وجلَّ- إليه بشرعٍ، أو من أوحى الله إليه -عز وجلَّ- بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه.
هذا الكلام حقيقة ليس مقبولًا أبدًا، لا شرعًا ولا عقلًا، ولا يسعفه الدليل على الإطلاق.
والقرآن قد بين بوضوح أن الله -عز وجلَّ- أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، النبي مرسل والرسول مرسل، قال الله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ﴾ [الحج: 52].
إذن: هنا القرآن يبين أن الله -عز وجلَّ- يرسل الرسول ويرسل النبي.
طيب... وقد بين لنا ذلك أيضًا نبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس: «عُرِضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلَّان، ورأيت النبي وليس معه أحد»، وهذا أعظم الأدلة أو من أعظم الأدلة على أنّ كل نبيٍّ بُعث في قومه بلغهم وأقام عليهم الحجة، فمنهم من آمن ومنهم من لم يؤمن، فمن آمن يدخل مع هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجنة ومن لم يؤمن فهو إلى النار، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولذلك يقول ربنا -عز وجلَّ: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ [الإسراء: 15].
وقال -عز وجلَّ: ﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].
ولذا أرجح الأقوال -أيها الأحبة- في تفريق بين الرسول والنبي هو: ما قاله العلامة الألوسي -رحمه الله تعالى- قال: "الرسول من أوحى الله -عز وجلَّ- إليه بشرعٍ جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من سبقه من الرسل والأنبياء".
هذا أبلغ وأجمل وما يوافقه الدليل، إذن: الرسول هو: مَن أوحى الله -عز وجلَّ- إليه بشرع جديد، والنبي: هو المبعوث لتقرير شرع مَن سبقه، أو مَن قبله من الرسل، والأنبياء كذلك، أم من الرسل فقط.
يعني هذا الرسول: هو مَن أوحى الله -عز وجلَّ- له بشرع جديد، والنبي: هو مَن بُعِثَ لتقرير شرع مَن سبقه من الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي».
انتبه: لماذا أستدل بهذا الحديث؟ قال: «كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي»، وأنبياء بني إسرائيل كلهم مبعوثون بشريعة موسى.
إذن: هؤلاء جميعًا أنبياء، لم يأتوا بشرع جديد؛ وإنما أتوا لتقرير وتأكيد وتثبيت شريعة رسول الله موسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
الإيمان بالأنبياء والرسل -يا إخواني- أصل عظيم جدًّا من أصول الإيمان، ولا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بالرسل والأنبياء -صلوات الله عليهم أجمعين، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285] .
وقال الله -عز وجل: ﴿لَيْسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾ [البقرة: 177].
بل أؤكد لكم أن مَن كذَب نبيًا فقد كذَّب جميع الأنبياء، ومَنْ كذَّب رسولًا واحدًا فقد كذَّب جميع الرسل.
قال -تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، مع أن قوم نوح لم يُكذِّبوا إلا نوحًا فقط، انتبه للقرآن ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 160]، مع أنهم لم يروا إلا لوطًا، ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 123]، ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 141].
بل وفي آية محكمة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ حَقاًّ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ [النساء: 150، 151].
آية محكمة، لا ينبغي أبدًا أن تفرق بين الإيمان بالله وبين الإيمان بالرسل -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فنحن الموحدين المؤمنين نؤمن بالأنبياء والمرسلين على سبيل الإجمال، ونؤمن بهم على سبيل التفصيل الذي ذكره لنا ربنا -تبارك وتعالى- في قرآنه، فلقد ذكر الله -عز وجلَّ- لنا في القرآن خمسة وعشرين رسولًا ونبيًا، فنحن نؤمن بهم على هذا التفصيل المذكور.
وكذلك نؤمن بأن لله رسلًا لم يقصصهم علينا، قال الله -تبارك وتعالى- ﴿وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164]، فنحن نؤمن بالرسل على سبيل التفصيل المذكور في القرآن، وعلى سبيل الإجمال المذكور أيضًا في القرآن.
نؤمن بأن الأنبياء والرسل هم صفوة الخلق، وهم أفضل البشر، زكَّاهم الله -تبارك وتعالى-، وفضّلهم على جميع الخلق، وعصمهم فيما يبلغونه عن ربهم -تبارك وتعالى-، قال الله -عز وجلَّ: ﴿للَّهُ يَصْطَفِي مِنَ المَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، وقال -تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام: 124]، سبحانه وتعالى، والآيات أيضًا في هذا الباب كثيرة.
ونؤمن أيضًا بأن الله تعالى فرض على العباد طاعتهم ومحبتهم، وجعل طاعتهم طاعة له -سبحانه وتعالى-، ومعصيتهم معصية له -سبحانه وتعالى.
قوله -عز وجلَّ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾ [الشعراء: 108]، وردت في سورة الشعراء ثمان مرات، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، في قصة نوح، وفي قصة هود، وفي قصة صالح، وفي قصة لوط، وفي قصة شعيب، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ﴾، فطاعتهم طاعة لله -سبحانه وتعالى.
وقال الله -عز وجلَّ- في شأن نبينا -صلى الله عليه وسلم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات 1، 2]، أنتم معي أم أن الطرح سريع؟ ركزوا حتى ننهي الأركان.
في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «كل أمتى يدخلون الجنة، إلا من أبى»، قالوا: يا رسول الله ومن يأبى؟ قال: «من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى »، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال -صلى الله عليه وسلم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني»، والأدلة في هذا الباب أيضًا كثيرة.
والسؤال المهم: ما هي الغاية التي من أجلها بعث الله الأنبياء والمرسلين؟
والجواب في نقاط سريعة:
أولًا: ليدلوا الخلق على الحق، دعوة الناس إلى التوحيد، إلى إفراد الله وحده بالعبادة، هذه هي الغاية الأولى من غايات الرسل والأنبياء، دعوة الخلق إلى إفراد الحق -تبارك وتعالى- وحده بالعبادة، بلا منازع ولا شريك.
﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 65].
﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73].
﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 85].
وبالجملة:
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
إذن: فالرسل وظيفتهم الأولى: الدعوة إلى التوحيد، إن كنت تريد أن تسير على طريق الرسل أيها الداعي، أيها الطالب العلم، فاعلم أن وظيفتك الأولى وصيحتك الأولى يجب أن تكون هي دعوة الخلق إلى إفراد الله بالتوحيد والعبادة بلا منازع ولا شريك، لا تشرق ولا تُغرب؛ وإنما هذه هي الخطوة الأولى التي يجب عليك أن تسلكها وأن تظل تدعو الخلق إليها حتى تلقى ربك -تبارك وتعالى.
الوظيفة الثانية: البلاغ والبيان.
﴿فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ﴾ [النحل: 35].
﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ﴾ [النور: 54].
﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ [المائدة: 67].
وكأن البلاغ سبب من أسباب عصمة الله لك من أذى الخلق، ولكن إن حدث أذى فهذه سنة كونية، لا بد أن تؤذى، بل أنا أؤكد لك: كلما ازددت بلاغًا عن الله، وكلما زاد تأثيرك في هداية الخلق إلى الحق كلما أجلب شيطان الجن والإنس عليك بخيله ورَجله.
هذه لطيفة من أدق اللطائف لشيخي ابن القيم، كلما زاد تأثيرك في تعبيد الخلق للحق كلما زادت الحرب عليك، وكلما زادت الفتنة عليك، لأنك خطر، فالشيطان من الإنس والجن يجلب عليك بخيله ورَجله.
نسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الفتن، وألا يحرمنا شرف الدعوة إليه وكرامة البلاغ عنه، ودلالة الخلق عليه بحق حتى نلقاه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الوظيفة الثالثة: البشارة والنذارة.
﴿رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ﴾ [النساء: 165].
يبشرون الناس بمغفرة الله ورحمة الله وجنة الله سبحانه، وينذرون الناس عذاب الله وسخطه وناره، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الوظيفة الرابعة: تزكية النفوس، الله، من أعظم وظائف الأنبياء والرسل تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق، يعني قال نبينا -صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق»، وهذا هو اللفظ الصحيح، واللفظ الحسن: «مكارم الأخلاق»، يعني كأن البعثة تُختزل في التزكية وتهذيب الأخلاق وتصفية النفوس.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [الجمعة: 2].
قال -صلى الله عليه وسلم: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا، فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به -أي بهذا البناء- ويعجبون له، ويقولون: لعل وُضِعت هذه اللبنة -أي ليكتمل للبنيان جلاله وجماله- قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين»، لماذا سُقت هذا الحديث الآن؟
لأستدل به على أن أفضلهم وأكرمهم وإمامهم هو محمد -صلى الله عليه وسلم- «فضلت على الأنبياء بست».
هذا من الإيمان بالرسل، أن نؤمن بأن أفضلهم هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- «فضلت على الأنبياء بستٍّ: أوتيتُ جوامع الكلم، ونُصرتُ بالرعبِ، وأحلت لي الغنائم، وجُعلت ليَ الأرض طهورًا ومسجدًا، وخُتم بي النبيون، وأرسلتُ إلى الناس كافة -أو إلى الخلق كافة»، سبحان الله.
إذن: من الإيمان بالرسل أن نؤمن بأن إمامهم الأعظم وأفضلهم وأكرمهم هو نبينا محمد.
طيب.. هل يناقض الذي تطرحه الآن مع قوله تعالى الذي ذكرته مرتين في لقاء اليوم: ﴿لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: 285] ؟
أبدًا لا يتناقض، نحن لا نُفرِّق بين أحد من رسله من حيث أصل الإيمان بهم جميعًا، أما التفاضل فهذا منصوص عليه أيضًا في القرآن والسنة.
قال الله -تبارك وتعالى.
{﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253]}.
الشيخ:
أحسنت، ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، نعم، والحديث الذي استشهدت به.
الإيمان باليوم الآخر.
وهو الركن الخامس من أركان الإيمان بالله -تبارك وتعالى- وأيضًا نستدل بنفس الآيات التي ذكرناها في الأركان السابقة، لكن أستدل بدليل آخر جديد جميل رقيق، وهو قول الله تعالى ﴿وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281].
استشهاد جميل.
اليوم الآخر الآيات فيه أكثر من أن تحصى، لماذا سُميَ باليوم الآخر؟
- سُمي باليوم الآخر لأنه آخر أيام الدنيا، أو لأنه آخر الأزمنة المحدودة المحددة، أو لأنه لا ليل بعده.
الإيمان باليوم الآخر: هو التصديق الجازم الذي لا يشوبه الشك أو الارتياب بكل ما أخبرنا به ربنا -سبحانه- ونبينا -صلى الله عليه وسلم- بما يقع في هذا اليوم من بدايته إلى نهايته، من موت وقبر وسؤال ملكين وبعث وحشر وحساب وميزان وصراط ونار وجنة.
تصور التفصيل في هذا، أذكر أنني فصلت هذا في 86 محاضرة، وهي موجودة مسجلة في مسجد التوحيد، في 86 محاضرة، وكذلك في أحداث النهاية على شاشة قناة الناس، وهي موجودة أيضًا في موقع قناة الرحمة.
فالإيمان باليوم الآخر أنا أتصور أن الأمة الآن في أمس الحاجة إلى العلماء والدعاة الذي يُذكّرونها باليوم الآخر، لأننا نعيش عالم الماديات القاسي، نعيش عالمًا تراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقلَّ فيه الخوف من علَّام الغيوب -سبحانه وتعالى.
ونسينا كثيرًا الوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى-، نسينا يومًا سنبعثُ ونُحشر فيه عراة حفاة غرلًا.
فالإيمان باليوم الآخر الحديث فيه حديث طويل ولا يتسع الوقت أبدًا لذكر أشراط الساعة الصغرى، وأشراط الساعة الكبرى، والحديث عن القبر، والحديث عن عذاب القبر ونعيمه، والحديث عن البعث بعد الموت، والحديث عن الحشر بأدلته من القرآن والسنة، والحديث عن أصناف الناس الثلاثة في أرض المحشر، وكذلك الحديث عن الحساب والوقوف بين يدي الله -تبارك وتعالى-، وتطاير الصحف، والحديث عن الميزان والأدلة في الميزان، ونحن يعني نؤمن بميزان حسي له كفتان -كما ذكرتُ قبل ذلك-، والحديث عن الصراط وعن شكل الصراط، وعن دقة الصراط، وعن كيفية عبور الناس على الصراط كطرف العين أو كالبرق وكطرف العين، إلى غير ذلك من تصنيف الرسول -صلى الله عليه وسلم- الخلق.
ثم بعد ذلك الحديث عن النار بكل ما فيها من أهوال، بعد ذلك الحديث عن الجنة بكل ما فيها من نعيم، ويعلو هذا النعيم ومنتهاه هو التمتع بالنظر إلى وجه الله -تبارك وتعالى: ﴿وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة 22، 23]
وقال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي سعيد: «إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، قال الله تعالى: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك، والخير بين يديك. فيقول ربنا تبارك وتعالى: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى وقد أدخلتنا الجنة وأنجيتنا من النار. فيقول -جل جلاله- أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقول أهل الجنة: وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول -جل وعلا: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا». اللهم لا تحرمن رضوانك يا أرحم الرحمين.
فالحديث عن اليوم الآخر حديث طويل طويل طويل وجليل الحقيقة، نسأل الله -عز وجلَّ- أن يذكرنا بالموت، وأن يذكرنا بالآخرة، وأن يختم لنا بالإيمان إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الإيمان بالقدر خيره وشره.
وهو الركن السادس من أركان الإيمان باختصار شديد لأني أريد أن نأخذ درس أيضًا؛ لأن الوقت ضاق علينا جدًّا.
الركن السادس من أركان الإيمان: وهو الإيمان بالقدر خيره وشره، أن تؤمن بالقدر خيره وشره.
الإيمان بالقدر -يا إخواني- قُطب رحى التوحيد، وأسعد الناس بالصواب والحق في هذا الباب من عاد إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، بلا فذلكة ولا حذلقة، أسعد الناس في هذا الباب مَن عاد إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة.
لا تقل: لِـمَ ولا كيفَ ولا لماذا؛ وإنما تسليم مطلق، تسليم مطلق، إن سوء الفهم عن الله ورسوله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام قديمًا وحديثًا، وأصل كل خلافٍ في الأصول والفروع.
وقال شيخي ابن القيم كذلك: "وهل أوقع القدرية" القدرية النفاة والقدرية الجبرية في هذا الباب وفي هذا المعترك الصعب، "وهل أوقع القدرية والمرجئة والخوارج والمعتزلة والروافض وسائر طوائف أهل البدع فيما وقعوا فيه إلا سوء الفهم عن الله ورسوله".
نسأل الله أن يرزقنا صحة الفهم، وطهارة النية، وسلامة السرية، وصدق الطوية، وحسن العمل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
الإمام أحمد يقول: "ومن السنة اللازمة -الله على كلام الإمام أحمد، كله نور، كله نور والله- يقول: ومن السنة اللازمة: الإيمان بالقدر خيره وشره، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها، لا يُقال: لِـمَ ولا كيفَ".
قال -تعالى: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23] -جلَّ جلاله.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -طيب الله ثراه: "مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب ما يدل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار".
هذا هو الطريق، هذا طريق النجاة، طريق السعادة، دعكَ من العقل، أنا لا أقلل من قدر العقل، سنتهم بأننا نريد أن نلقي بالعقل في مزابل التاريخ -كما يقولون-، أبدًا؛ لكن للعقل دوره، لكن للعقل حده، لكن للعقل مجاله، لا يجوز أبدًا أن يتعداه أو أن يتخطاه.
لا يستقل العقل دون هـداية
بالوحـي تأصيلاً ولا تفصيلا
كالطرف دون النـور ليس بمدرك
حتى يراه بكرة وأصيلا
نور النبوة مثل نور الشمس
للعين البصـيرة فاتخذه دليـلا
فإذا النبوة لم ينلك ضياؤهـا
فالعقـل لا يهديك قط سبيلا
طرق الهدى محدودة إلا على من
أم هذا الوحـي والتنزيـلا
فإذا عدلت عن الطريق تعمداً
فاعلم بأنك ما أردت وصـولا
يا طالباً درْك الهدى بالعقـل
دون النقل لن تلقى لذاك دليلا
فلا بد من أن ترجع إلى القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، هؤلاء هم أعرف الخلق بمراد الله ورماد رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
بعد هذه المقدمة -يا إخواني- أقول: لا أريد أن أقف مع التفصيل اللغوي لمعنى القضاء، والتفصيل اللغوي لمعنى القدر، وهذا موجود في كتاب كامل لي مطبوع بعنوان "القضاء والقدر"، لي كتاب كامل، مجلد كامل في الإيمان بالقضاء والقدر، وهو مذكور أيضًا بالتفصيل في كتاب "جبريل يسأل والنبي يجيب".
المهم -يا أخواني- أن الإيمان بالقدر له أربع مراتب.
قال الله -عز وجلَّ- أولًا: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]، هذا دليل على الإيمان بالقدر﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾.
وأيضًا من أدلة السنة: ما رواه مسلم وغيره في الحديث الطويل، قال مسلم: حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: "كان أول مَن قال في القدر بالبصرة معبد الجهني -يعني بنفي القدر- فانطلقت أنا وحميد بن عبد الرحمن الحميري حاجين أو معتمرين، فقلنا: لو لقينا أحدًا من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر.
قال: فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلًا المسجد، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله، وظننت أن صاحبي سَيكل الكلام إليَّ، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قِبَلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم -يعني يبحثون عن غوامض العلم وخوافيه ودقائق مسائله، وذكر من شأنهم معظمًا لهم مفخمًا لأمرهم- ويزعمون ألا قدر، وأن الأمر أُنُف -أي مستأنف، أي لا يعلمه الله إلا بعد أن يقع.
فقال عبد الله بن عمر -انظر إلى علم العلماء، إلى فضل الصحابة: "إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني برئ منهم، وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر لو أن لأحد مثل أحد ذهبًا فأنفقه؛ ما قبِلَ الله منه حتى يؤمن بالقدر"، وساق الحديث الطويل الذي تحفظونه جميعًا، وفيه: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره»".
الإيمان بالقدر له أربع مراتب:
- المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
- والمرتبة الثانية: مرتبة الكتابة.
- والمرتبة الثالثة: مرتبة الخلق.
- والمرتبة الرابعة: مرتبة المشيئة والإرادة.
مرتبة العلم:
باختصار شديد جدًّا، المراد بها: أن تؤمن بأن الله -تبارك وتعالى- قد أحاط علمه بكل شيء من الموجودات والمعدومات والمستحيلات -سبحانه وتعالى- علم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، وما لم يكن لو قدر -جل وعلا- له أن يكون لعلم كيف يكون -سبحانه وتعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
﴿وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [فاطر: 11].
الأدلة في هذا الباب كثيرة جدًّا. الله! سبحان الله!
المرتبة الأولى: مرتبة العلم، أن تؤمن أن الله -عز وجل- يعلم ما كان وما هو كائن، وهذه المرتبة تشتمل على خمسة تقادير، مرتبة الكتابة ومرتبة العلم.
ثانيًا: مرتبة الكتابة، ومرتبة الكتابة تشتمل على خمسة تقادير:
- التقدير الأزلي: وانتبه لأن هذا الكلام كلام دقيق، وكثير من الناس ممن يقدمون العقل على صحيح النقل وصريحه يعني ضلوا في هذه المسألة وفي هذا الباب الخطير -باب القدر.
التقدير الأزلي ما معناه؟ معناه: أن الله -تبارك وتعالى- قدر كل شيء أزلًا.
«أول ما خلق الله القلم قال: اكتب، قال: وماذا أكتب يا رب؟ قال: اكتب كل ما هو كائن إلى يوم القيامة»، إذن هذا تقدير أزلي.
- التقدير الثاني: التقدير في يوم الميثاق: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ﴾ [الأعراف 172، 173].
خلق الله -عز وجلَّ- الخلق جميعًا واستنطقهم في هذا العالم، وفي هذا الوقت الذي يعلمه -جلَّ جلاله- فشهدوا له بالوحدانية، لكنه لكمال عدله ولتمام فضله؛ لم يُحاسب الخلق بمقتضى إقراراهم بهذا الميثاق، وإنما بعث الرسل مبشرين ومنذرين، وجعل العلماء من بعد الرسل والأنبياء ليدلوا الخلق على الحق بمنهج الأنبياء والرسل؛ ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: 165].
التقدير في يوم الميثاق مفصلٌ من التقدير الأزلي.
- التقدير الثالث: التقدير العمري: الذي فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الله تعالى وكَّل بالرحمِ ملكًا، فيقول الملك -ذكرته آنفًا حديث أنس- أي ربِّ نطفة؟ أي ربِّ علقة؟ أي ربِّ مضغة؟ أي ربِّ أذكر؟»، وحديث ابن مسعود في الصحيحين «يُخلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك»، إلى آخره. هذا تقدير عمُري، ينزل الإنسان إلى الحياة الدنيا بخريطة واضحة متكاملة، هذا تقدير عُمُري، ولا يتسع الوقت للتفصيل.
- التقدير الحولي: هو التقدير في ليلة القدر، السنوي، ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4]، يُكتب في هذه الليلة: يحج فلان، ويموت فلان، ولا يحج فلان، ويُرزق فلان؛ كل تقادير الخلائق الحولية هذه، تنزل للملائكة الموكلة في يوم أو في ليلة القدر في التقدير الحولي السنوي.
- ثم بعد ذلك: التقدير اليومي: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29] -جل جلاله- يرفع أقوامًا ويخفض آخرين، يعز ذليلًا ويذل عزيزًا، يغني فقيرًا ويسلب غنيًا، ويعافي مريضًا ويبتلي معافًا، يسوق المقادير التي قدَّرها منذ الأزل، فلا يتقدم ولا يتأخر قدر قدره.
قال -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم: «إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة»، هنا التباس عند بعض إخواننا، قالوا بأن هذا خطأ، لأنهم ظنوا أن الزمن المذكور في الحديث هو زمن التقدير، وهذا خلل.
الزمن المذكور في الحديث هو زمن الكتابة وليس زمن التقدير، زمن التقدير ماذا؟ أزلي. واضح أم ليس بواضح؟
أن بعض أهل العلم قال: هذا الحديث لا يصح حتى ولو كان في صحيح مسلم، لأنه يتناقض مع أن التقدير أزلي، أبدًا، الزمن المذكور هو زمن الكتابة وليس زمن التقدير، فالتقدير أزلي، ولا تعارض البتة بين كلام ربنا بعضه البعض وبين كلام نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن: الخمسة تقادير في المرتبة الثانية من مراتب الإيمان بالقدر وهي مرتبة ماذا؟ الكتابة.
- تقدير أزلي.
- تقدير يوم الميثاق.
- تقدير عمري.
- تقدير حولي.
- تقدير يومي.
إذن: هذه مرتبة الكتابة.
المرتبة الثالثة باختصار من مراتب الإيمان بالقدر: مرتبة المشيئة، بمعنى: أن الله -عز وجلَّ- علم وكتب وأراد وشاء، فلا يقع شيء إلا إذا أراده، ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكون، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [الإنسان: 30]، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
هذا معتقدنا نحن المؤمنين، نحن الموحدين في الإيمان بالقدر خيره شره.
فالسبب في عدم وجود الشيء هو عدم مشيئته وإرادته لوجود هذا الشيء، ووجود الشيء لإرادة الله ومشيئته في إيجاد هذا الشيء -سبحانه وتعالى-، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فكل ما يجري في الكون -يا إخواني- بمشيئته وإرادته.
وأرجو أن تعلموا أن الإرادة في كتاب الله نوعان حتى لا تضربوا الأدلة بعضها ببعض، الإرادة في كتاب الله نوعان:
- إرادة دينية شرعية.
- وإرادة كونية قدرية.
إرادة دينية شرعية: تتعلق بالأمر والنهي والحلِّ والحرمة.
وإرادة كونية قدرية: تتعلق بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وإرادته -سبحانه وتعالى-، فكل ما يجري في الكون بمشيئته.
الإمام البخاري ترجم في كتاب التوحيد بابًا رائعًا جدًا بعنوان "باب في المشيئة والإرادة"، ويروي فيه أحاديث لا يتسع الوقت لذكرها الآن.
المرتبة الثالثة: أن تؤمن بمشيئة الله وإرادته، وأنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن.
المرتبة الرابعة: هي مرتبة الخلق، وهذه المرتبة التي ضل فيها كثير من أهل الضلال، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الحق.
أن تؤمن بأن الله -عز وجل- هو الذي خلق الخلق، وهو أيضًا خالق الإنسان، وخالق فعله، قال الله -عز وجلَّ: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ [الصافات: 96]، وقال -تبارك وتعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16].
وفي صحيح مسلم النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «اللهم آتِ نفسي تقواها، وزكّها أنت خير مَن زكَّاها»، فهو يؤكد -صلى الله عليه وسلم- أن الفاعل لهذه الأمور هو الله -تبارك وتعالى.
«اللهم آتِ نفسي تقواها»، فالذي يؤتي النفس تقواها هو الله، والذي يزكي النفس هو الله، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يؤكد أن الفاعل لكل هذا والذي يُطلب منه هذا هو الله -سبحانه وتعالى.
وقال سعيد بن جبير في قوله -تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ [الشمس 7، 8]، قال: "فالخلق لله، والإنسان قادر على سلوك أيهما شاء"، ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ [البلد: 10]؛ أي السبيلين أو الطريقين.
فكما أن الله -تبارك وتعالى- أثبت له -جلَّ جلاله- مشيئة؛ فقد أثبت أيضًا للعبد مشيئة وفي نفس الآية: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً﴾ [الإنسان: 30].
فالأمر كله بيده، إن تيسر شيء فبتيسيره، وإن تعسر أمر فبتقديره -سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا رَبُّكُ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
فعلى المؤمن ألا يشغل قلبه ولا عقله بكلام القدرية المعطلة النفاة، ولا بكلام القدرية الجبرية، ولا بكلام المعتزلة، ولا بكلام غيرهم، عليك أن ترجع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإلى سلف الأمة الأخيار؛ حتى تسعد بهذا المعتقد الصافي، وتنجو في دنياك وأخرك.
وانتهت الساعة سريعًا ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقدر الله وما شاء فعل، وإلا فكيف نعارض ونحن نؤمن بالقدر خيره وشره، وأكمل -إن شاء الله تعالى- في الدرسين المقبلين الأخيرين من دروس هذه الأكاديمية المباركة.
أسأل الله أن ينفع بها وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
وقبل أن أغادر هذا المجلس الطيب المبارك أرى أنه من الحتم والواجب عليّ أن أوجه كلمة للشرفاء العقلاء والحكماء على أرض مصر.
في هذا الظرف العصيب، وفي هذا الوقت الحرج، وفي هذه المرحلة الفارقة التي تمر بها مصرنا الحبيبة.
أخاطب المجلس العسكري، وأخاطب رجال القضاء، وأخاطب اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية، وأخاطب رجال الإعلام، وأخاطب الشباب الثوري كله بكل أطيافه، وأخاطب كل القوى السياسية على أرض مصر، وأقول لهم بنبض قلبي ودمع عيني: اتقوا الله في هذا البلد.
فأشهد الله أنني لستُ راضيًا عن المشهد السياسي كله، اتقوا الله في شعب مصر الأصيل، في شعب مصر الذي عانى، في شعب مصر الذي صبر وطال صبره ورب الكعبة.
اتقوا الله في هذا البلد، واتقوا الله في هذا الشعب، لا تتلاعبوا بمشاعره، ولا تتلاعبوا بعواطفه، ولا تتجاهلوا إرادته، ولا تفتئتوا على اختياره، فورب الكعبة هذا لعب بالنار، وسوف تحرق النار الجميع، وسوف تُعرضون مصر لفتنة تدمر الأخضر واليابس ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: 25]، لا تُغرقوا سفينة مصر، فوالله لو غرقت لن ينجوا أحد.
لا ينبغي أن يتوهم فصيل أنه إن أغرق الآخرين في مصر وانفرد وحده بالسلطة والحكم أنه سينجو، والله لن يحمل مصر أبدًا فصيل بعينه، لا المجلس العسكري ولا الإسلاميون ولا الليبراليون.
أستحلفكم بالله يا من ملككم الله علينا ومكّنكم الله منا، أستحلفكم بالله اتقوا الله في هذا البلد، واتقوا الله في هذا الشعب الذي عانى، ورب الكعبة عانى، لِينوا لبعضكم البعض، وتنازلوا لبعضكم البعض، واتركوا جانبًا المصالح الشخصية والحزبية والفئوية، قدموا مصلحة هذا البلد، ومصلحة هذا الشعب الأبي الصابر، لا تعرضونا -بالله عليكم- لفتنة لا يعلمها خطرها إلا الله.
أخشى أن تسفك الدماء، وأن تمزق الأشلاء، وأن تخسر مصر خسارة فادحة بهذا التلاعب المرعب بمشاعر الشعب وعواطف الجماهير، اتقوا الله في هذا الشعب، واتقوا الله في هذا البلد.
هذه كلمة أقولها بنبض قلبي وبدمع عيني، وأسطرها لهؤلاء جميعًا بدمي، حتى لا نبكي جميعًا دمًا بدل الدمع.
أسأل الله -جل وعلا- أن يحفظ مصر من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يُلهم القائمين عليها رشدهم وصوابهم، وأن يرزقهم التوفيق والسداد، وأن يجنبنا وإياهم الفتن، وأن يرزقنا وإياهم العظة والعبرة مما حدث، وأن يذكرنا بحقيقة دنيانا وبأخرانا، وإقبالنا على ربنا ووقوفنا بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://islamacademy.net/cats3.php