السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فحياكم الله جميعًا أيها الإخوة الفضلاء، وأيتها الأخوات الفاضلات من أبناء الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، واسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد والإخلاص.
وبلا مقدمات، نحن الليلة على موعد مع اللقاء الثاني ومع الدرس الأول من "الدروس المهمة لعامة الأمة" لشيخنا الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله تعالى.
واسمحوا لي أن أكون سريع الطرح في هذه الليلة لأن درس الليلة طويل، وسأقف بصورة مجملة مع السور الكريمة التي حثَّ الشيخ -رحمه الله تعالى- المسلمين على حفظها وعلى فهمها وعلى العمل بها، أسأل الله أن يعيننا على ذلك.
ومَن أراد التوسع والتفصيل فليرجع إلى موقع الأكاديمية، فقد شرحتُ هذه الدروس قبل ذلك بفضل الله -تبارك وتعالى- في الأكاديمية العلمية على قناة المجد العلمية، والدروس بالتفصيل موجودة بفضل الله -تبارك وتعالى.
الدرس الأول، يقول فيه شيخنا -رحمه الله-: (سورة الفاتحة وقصار السور، من سورة الزلزلة إلى سورة الناس تلقينًا وتصحيحًا للقراءة وتحفيظًا وشرحًا لما يجب فهمه.)
ولنبدأ بسماع سورة الفاتحة من أحمد حسان، تفضل..
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾ [سورة الفاتحة].}
الشيخ:
آمين.. أحسنت.
سورة الفاتحة هي أعظم سورة في القرآن الكريم كله، وهي سورة مكية، وبكل أسف لا يتسع الوقت لذكر الأدلة على كل لفظة أقولها، وهذا هو منهجي، لكن لضيق الوقت فقط.
سورة الفاتحة سورة مكية، وهي أعظم سورة في القرآن الكريم كله، فمن الثابت أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يصلي في مكة، وهو القائل كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
سورة الفاتحة لها أسماء كثيرة، منها: فاتحة الكتاب، أم الكتاب، أم القرآن، الصلاة، السبع المثاني، الرقية، الواقية، الكافية، الشافية.
كل هذه أسماء لسورة الفاتحة، وهذا إن دلَّ فإنما يدلُّ على عظمة السورة.
سورة الفاتحة نبدأها، أو نبدأ قراءتها بالاستعاذة: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"، أجمع العلماء -يا أحبابي- على أن الاستعاذة ليست آية من كتاب الله جل وعلا- هذا إجماع، أجمع العلماء على أن الاستعاذة ليست آية من كتاب الله -جل وعلا.
ومعنى الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام والاحتماء والامتناع والاستجارة.
"أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" أي ألتجئ وأعتصم وأمتنع وأستجير وأتحصن بالله المألوه وحده -سبحانه- أي الذي يستحق وحده العبادة بلا منازع ولا شريك، بغاية الحب وبغاية التعظيم والإذعان والاستسلام، فالعبادة، العبادة هي كمال الحب مع كمال الذل.
"أعوذ بالله": المألوه الذي يستحق وحده العبادة.
"من الشيطان الرجيم": أي من الشيطان المطرود والْمُبْعَد من رحمة الله -سبحانه وتعالى-، أو المبعد من رحمة الله -سبحانه وتعالى.
الاستعاذة مندوبة في كل قراءة في غير الصلاة، كما قال جمهور أهل العلم.
قال -تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾ [النحل: 98].
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ -هذا بإيجاز شديد جدًّا- ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، ستعجبون إذا قلتُ لكم: لقد ذكر الإمام القرطبي -رحمه الله تعالى- سبعًا وعشرين مسألة في البسملة، وقد أفردتُ للبسملة حلقة كاملة في التفسير على شاشة قناة الرحمة المباركة لمن أردا منكم أن يرجع للتفصيل.
فالبسملة فيها من المعاني ما يرقق القلب، ويملأ القلب بالخشية من الله -سبحانه وتعالى.
اتفق العلماء على أن البسملة بعض آية أو جزء من آية من سورة النمل، هذا اتفاق، وهي قول الله -تبارك وتعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنِّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل 29-31].
إذن اتفق العلماء على أن البسملة جزء من آية من آيات سورة النمل.
اختلف العلماء بعد ذلك، هل البسملة آية سور القرآن أو لا على أقوال:
- الأول: أن البسملة ليست آية من آيات القرآن الكريم.
- الثاني: البسملة آية من كل سورة من سور القرآن الكريم، باستثناء سورة براءة.
- القول الثالث: هي آية من سورة الفاتحة فقط.
- القول الرابع: مَن قال إن البسملة ليست من الفاتحة، البسملة ليست آية من الفاتحة وإن كانت البسملة آية مستقلة من آيات سورة النمل. يعني ليست آية من سورة الفاتحة، وإن كانت آية مستقلة في سورة النملة، وكذلك هي آية مستقلة في بدايات سور القرآن الكريم كله باستثناء سورة براءة.
هذه أقوال لأهل العلم في حكم البسملة.
المعنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾: أي أبتدئُ باسم الله المألوه المعبود وحده بلا منازع ولا شريك، أبتدئُ باسم الله كل شيء، أبتدئُ قراءتي، أبتدئ أكلي، أبتدئُ شربي، أبتدئُ عملي، والأدلة على ذلك من أحاديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كثيرة لا يتسع الوقت لذكرها الآن.
فمعنى ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ أي أبتدئُ باسم الله المألوه المعبود وحده بلا منازع ولا شريك، أبتدئ قراءتي.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾، اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى دالَّان على أنه -تبارك وتعالى- موصوف بصفة الرحمة، فهو ذو الرحمة الواسعة الشاملة التي وسعت كل شيء.
وقال بعض أهل العلم: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ذو الرحمة الشاملة التي وسعت الخلق في أرزاقهم ومصالحهم وعمَّت المؤمن والكافر.
إذن: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ ذو الرحمة الشاملة الواسعة التي وسعت كل شيء وعمَّت المؤمنين والكافرين.
وقال: أما ﴿الرَّحِيمِ﴾ فهو ذو الرحمة الخاصة بالمؤمنين، واستدلوا على ذلك بقول الله -تبارك وتعالى-: ﴿وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً﴾ [الأحزاب: 43]. وهذا القول مردود عليه بقول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 143]، ﴿إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ﴾ولم يقل: بالمؤمنين فقط.
ولذا قال شيخي ابن القيم -رحمه الله تعالى: "الرحمن -هذا كلام نفيس جدًّا- ﴿الرَّحْمَنِ﴾ دالٌّ على الصفة القائمة به -سبحانه وتعالى-، فالرحمن هو الموصوف بالرحمة. أما "الرحيم" دالٌّ على الصفة المتعلقة بالمرحوم".
إذن: ﴿الرَّحْمَنِ﴾ دالٌّ على الصفة المتعلقة بالذات، و﴿الرَّحِيمِ﴾ دالٌّ على الصفة المتعلقة بالمرحوم.
فـ"الرحمن" هو الموصوف بالرحمة، و"الرحيم" هو الراحم برحمته مَن يشاء، ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156].
إذن: نؤمن بأسماء الله الحسنى كلها الثابتة في الكتاب والسنة الصحيحة، ونؤمن بالصفات التي أثبتها الله -جل وعلا- لنفسه في القرآن الكريم وأثبتها له أعرف الخلق به -صلى الله عليه وسلم-، ومنهجنا ومعتقدنا: نؤمن بهذه الأسماء الصفات من غير تحريف لألفاظها أو تحريف لمعانيها، ومن غير تعطيل ولا تشبيه ولا تمثيل، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11].
ولا يتسع الوقت لذكر منهج السلف الصالح -رضي الله عنهم- في مبحث الأسماء والصفات، لكن هذا باختصار.
نحن -الموحدين المؤمنين- نؤمن بالأسماء الحسنى والصفات العلى الثابتة في القرآن والسنة الصحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف أو تعطيل ولا تكييف ولا تشبيه ولا تمثيل.
قال -جل وعلا-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، ابتدأ الحق -تبارك وتعالى- أول سورة في القرآن بالحمد والثناء على ذاته، فإن أول مَن حَمِدَ الله وأثنى على الله هو الله، لأنه -تبارك وتعالى- علم أنه لن يستطيع أحد من خلقه أن يحمده وأن يثني عليه بما يليق بكمال وجهه وجلال سلطانه، ولذا تدبروا هذا الأدب النبوي الرفيع وهو يقول لربه -سبحانه-: «لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».
فأنا أرجو أن تنتبهوا لهذه اللطيفة، ابتدأ الله أول سورة في القرآن الكريم كله بالحمد والثناء على ذاته؛ لأنه تبارك وتعالى علم أنه لا يستطيع الخلق ولو اجتمعوا أن يحمدوه وأن يُثنوا عليه بما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه، ولصفات كماله، صفات الذات والأسماء والصفات والأفعال، فابتدأ بالثناء على ذاته بقوله: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾.
فالحمد: وصف المحمود جل جلاله بالكمال، كما يقول شيخنا ابن عثيمين -رحمه الله تعالى-: "مع المحبة والتعظيم" لا بد من هذين القيدين، وصف للمحمود -تبارك وتعالى- بالكمال مع المحبة والتعظيم.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ كما قال ابن عباس: "كلمة كل شاكر"، والله -جل وعلا- يُحب من عبده أن يحمده على كل شيء، على الأكلة والشربة، وعلى كل نعمة يتفضل بها -تبارك وتعالى- على عبده، ولا شك ولا ريب أن نِعَمَ الله لا تُعد ولا تُحصى ﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا﴾ [النحل: 18]، فربك -سبحانه وتعالى- يُحبُّ أن يُثني عليه عبده، يُحبُّ أن يحمده عبده، فأكثر من الحمد له -تبارك وتعالى، ومن الثناء عليه بما ينبغي وبما يليق بكمال وجهه وعظيم سلطانه.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، الله: هو الاسم المفرد العلم الدال على كل الأسماء الحسنى والصفات العلى.
ولذا؛ رجَّح شيخنا ابن القيم والإمام الطحاوي وغيرهما أن لفظ الجلالة (الله) هو اسم الله الأعظم الذي إن سُئِلَ به أَعطَى، وإن دُعِيَ به أجاب، على خلاف بين أهل العلم.
الشاهد: أن لفظ الجلالة (الله) هو الاسم المفرد العلم الدال على كل الأسماء الحسنى والصفات العلى، وهو المألوه الذي تألهه القلوب محبة واستسلامًا وانقيادًا.
فالعبادة كمال الحب مع كمال الذُّل، لا يجوز أبدًا أن تعبد الله بالحب فقط، أو أن تعبد الله بالاستسلام والذُّل والانقياد فقط، بل لا بد أن تعبد الله -تبارك وتعالى- بحب وانقياد، كمال حب لله مع كمال ذل لله، المحمود الموصوف -سبحانه وتعالى- بصفات الكمال والجلال بمحبة وتعظيم.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، "الرب" كما قال العلامة الآلوسي: "هو الخالق ابتداءً، والمربِّي غذاءً والغافر انتهاءً".
تدبَّر معي: الرب: هو "الخالق ابتداءً"، فهو ربُّ كلِّ شيء، وخالق كلِّ شيء، ومُدبر الأمر، ومصرِّف الكون.
الرب: هو "الخالق ابتداءً، والمربِّي غذاءً"، هو الذي يُربِّي الخلق بنعمه، الكافرين والمؤمنين على السواء، فهو ربُّ الكافر والمؤمن سواء، "الغافر انتهاءً".
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، وقد تعرضنا لهذين الاسمين الكريمين.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ﴾، العالمين: كما تعلمون جميعًا جمع عالَم، وهو كل شيء موجود سوى الله -سبحانه وتعالى.
﴿الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، مدح آخر من الله -تبارك وتعالى- لنفسه؛ لأنه -تبارك وتعالى- ربُّ العالمين، وهو مع ذلك رحمن رحيم، فـ ﴿رَبِّ العَالَمِينَ﴾ فيه ترهيب، فجاء الحق -تبارك وتعالى- بهذين الاسمين الكريمين بعد ذلك ليقترن الترغيب بالترهيب.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ -سبحانه وتعالى-.
النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول كما في صحيح مسلم -وأنا لا أريد أن أستطرد في الأحاديث جليلة جميلة في تأكيد هذه المعاني النبوية ومنهجي الذي أدين لله -تبارك وتعالى- في التفسير أن أفسر الآية بآية، فإن لم أجد؛ أفسر الآية بحديث، فإن لم أجد؛ أفسر الآية بأقوال السلف، فهم أعرف الناس بكتاب الله، وهذا هو المنهج المعتبر الصحيح، ثم بعد ذلك نُسقط هذه المعاني على واقع الأمة لأنني أدين لله أن هذا القرآن الذي أنزله الله على قلب نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليُربِّي به الأمة، وليقيم به للإسلام دولة، لا زال هذا القرآن مُصلحًا لكل زمان ومكان؛ بل ومُسعدًا لأمتنا إن امتثلت أمره واجتنبت نهيه ووقفت عند حدِّه، لقوله -سبحانه: ﴿إِنَّ هَذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9]، في جانب الاعتقاد، في جانب التعبد، في جانب الإعلام، في جانب التعليم، في جانب الاقتصاد، في جانب السياحة، في جانب السياسية، في كل أمور الدين والدنيا.
فما أنزل الله القرآن -يا أحبابي- من أجل أن نُزيِّن به جدران المساجد، أو من أجل أن تُحليَ به النساء صدورهن في المصاحف الذهبية والفضية، أو من أجل أن يُتلَى على المقابر على الأموات؛ بل قال فيه رب الأرض والسماوات: ﴿لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ﴾ [يس: 70].
﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه 1-5]، سبحانه وتعالى.
فما أنزل الله القرآن لتشقى به الأمة، أو ليشقى به نبينا -صلى الله عليه وسلم-، أو لتشقى به الأمة من بعد جيل الصحابة، وإنما أنزل الله القرآن لتسعد به الأمة في دنياها وفي أخراها، وورب الكعبة، لا سعادةَ لنا إلا إذا عُدنا من جديد إلى القرآن لنردد مع السابقين الأولين قولتهم الخالدة: ﴿سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
يقول -صلى الله عليه وسلم- كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد».
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءًا، وأنزل إلى الأرض جزءًا واحدًا، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلائق، حتى ترى الدابة ترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه».
أرجو أن تتدبروا هذا المعنى النبوي البليغ، لاحظ رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، الذي قال الله فيها: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، والذي قال الله فيها، ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، لاحظ رحمة الأم بولدها، لاحظ صور الرحمة في الكون، كل صور الرحمة في الكون بما فيها رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما هو جزء من جزء واحد من مئة جزء من رحمة الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-.
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾. المالك والمتصرف وحده -تبارك وتعالى- في يوم الدين أي في يوم الجزاء، أي في يوم الحساب، فيوم الدين هو يوم الجزاء، هو يوم الحساب.
ولذا، خصَّ الله -تبارك وتعالى- بالملك، فقال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، مع أنه -جل جلاله- مالك الدنيا ومالك الآخرة؛ لأن البعض قد يُتصوَّر لامتلاكه في الدنيا أنه صار مالكًا، فيفاجأ بحقيقة مُلْكِهِ ومِلْكِهِ في الآخرة أنه لا يملك شيئًا، ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: 116].
ولذلك يُنادي ربنا -تبارك وتعالى- يوم القيامة ويقول ﴿لِّمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ﴾ [غافر: 16]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة واللفظ لمسلم، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «يقبض الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض بيمينه» -جل جلاله- «يقبض الله السماوات والأرض بيمينه، وكلتا يديه يمين، فيقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون -وفي لفظ: لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار»، فقد يتصور البعض أنه حين ملَّكَه الله -تبارك وتعالى- شيئًا من مُلْكِهِ -جلَّ وعلا- توهَّمَ أنه صارَ مالكًا، لا، لذا خصَّ الله -تبارك وتعالى- يوم الدين، فقال: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ لأنه اليوم الذي تظهر فيه الحقائق للجميع.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، أي صاحب يوم الجزاء والحساب.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، بعدما أثنى العبد على الله -تبارك وتعالى- فحمد الله وأثنى عليه ومدحه بصفة الرحمن، بصفة الرحمة، بذكر اسم الرحمن والرحيم، وأقرَّ له -تبارك وتعالى- بأنه مالك يوم الدين، حينئذ صار العبد مؤهَّلًا أن يستعين بالله -تبارك وتعالى- ليُعينه -جل وعلا- على عبادته وحده بلا منازع ولا شريك، فيقول حينئذٍ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾؛ أي أنا أُفْرِدُكَ وحدكَ بالعبادةِ بلا منازعٍ ولا شريكٍ.
والعبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
العبادة هي: اسم جامع، التوحيد والصلاة والصيام والزكاة والحج والإنابة والتفويض والإخلاص والرجاء والخشية والنذر والذبح والحلف، كل هذا وغير هذا من العبادة.
فالعبادة ليست أمرًا على هامش الطريق يا أحبابي، إنما هي الصيحة الأولى لكل رسالة، الصرخة الأولى لكل نبوة ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 85]، ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 65]، ﴿وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73].
وبالجملة يقول -جل جلاله-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
أرجو أن ننتبه، فهذه الغاية الأولى التي من أجلها خُلِقَ الخلق؛ بل وخُلِقَت الجنة والنار، بل ومن أجلها أنزل الله الكتب والصحف وأرسل جميع الأنبياء والرسل، فهي قضيتنا الأولى، وستبقى قضية العبادة قضية أمة التوحيد الأولى، لم نُقدِّم على قضية التوحيد ولا على قضية العبادة قضية أخرى على الإطلاق؛ بل أنا أقول: الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، تُنظمُ هذه الشريعةُ كلَّ شؤون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحَّت عقيدتهم.
انتبهتم؟ هذا كلا نفيس جدًّا.
الإسلام عقيدة تنبثق منها شريعة، تُنظمُ هذه الشريعةُ كلَّ شؤون الحياة، ولا يقبل الله من قوم شريعتهم إلا إذا صحَّت عقيدتهم.
﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، أي إياك وحدك نعبد، ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، أي نستعين بك وحدك على العبادة؛ بل وعلى أمورنا كلها، فتجرَّد وتبرأ من حولكَ وطَوْلِك، فلا يستطيع العبد أن يعمل صالحًا إلا بعون الله وإلا بتوفيق الله له.
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، نستعين على عبادتك بك وحدك، ونستعين على طاعتك بك وحدك؛ بل ونستعين في أمورنا كلها بك وحدك، فلا عون لنا إلا بك، فتبرَّأ من حولكَ وطَوْلِكَ، واعلم أن الفضل كله بيد الله.
ومن هنا يتضرع العبد بعد أن تأهَّل بهذا الدعاء، وبهذا التبرُّؤ من الحولِ والطولِ؛ تأهَّل ليدعو ربَّه بأجمعِ وأشملِ وأكملِ دعاءٍ في القرآن الكريم كله من أول الفاتحة إلى الناس، ألا وهو ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾، وأنا لا أريد أن أُطيل النفَس وقد فسَّرتُ هذا في لقاءات متعددة.
الهداية -أيها الأحبة- المقصودة هنا: هداية التوفيق، فالهداية أنواع:
- هداية دَلالة -أو دِلالة.
- وهداية إرشاد وتعريف وبيان.
- وهداية التوفيق.
- والهداية العامة.
- والهداية في الآخرة.
لا يتسع الوقت في التفصيل، المراد بالهداية هنا: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾ أي هداية توفيق، وهداية التوفيق لا يملكها مَلَك مُقرَّب، ولا نبي مرسل؛ إنما هي بيد الله وحده، لا يملكها نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ولو امتلكها لهدى عمه أبا طالب.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، هذه الهداية ليست هداية التوفيق، إنما هي هداية الدلالة والتعريف والإرشاد والبيان.
فلو كانت هداية التوفيق بيد أحد لهدى النبي عمه أبا طالب، ولذلك قال الله -عز وجل-: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، فالهداية المثبتة لنبينا هي هداية الدلالة، والهداية المنفية عن نبينا هي هداية التوفيق، ولو كان يملكها نوح لهدى ولده ولهدى امرأته، ولهدى لوط امرأته، ولهدى إبراهيم والده آزر.
فأنت تدعو الله أن يرزقك هداية التوفيق، ما هي هداية التوفيق؟
يقول شيخنا شيخ الإسلام ابن تيمية: "هي جَعْلُ الهدى في القلب".
وذلك فضل الله -تبارك وتعالى- يؤتيه مَن يشاء. لأن البعض قد تصوَّرَ أن سؤالَ العبد ربَّه الهدايةَ في كل ركعة من ركعات الصلاة نوع من أنواع المبالغة، ولم يستوعب هؤلاء أن العبد في حاجة إلى هداية توفيق في كل لحظٍ، وفي كلِّ لحظة، وفي قول، وفي كل صمتٍ، وفي كل فعلٍ، فأنت في حاجة إلى هداية التوفيق حتى لا تنطق ولا تتصرف إلا وَفْقَ مرضات الحق -سبحانه وتعالى.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾، والصراط المستقيم هو الطريق المستقيم المعتدل الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف فيه، الموصل إلى رضوان الله ونعيمه وجنته.
وهناك تفسير جميل من النبي -صلى الله عليه وسلم- للصراط المستقيم في مسند الإمام أحمد بسند حسن، وغيره من حديث النواس بن سمعان أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ضرب الله مثلًا صراطًا مستقيمًا، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة عليها سطور مرخاة، وعلى رأس الصراط داعٍ يقول: أيها الناس ادخلوا الصراط جميعًا ولا تعوجُّوا، وعلى ظاهر الصراط داعٍ آخر إذا همَّ أحدهم أن يدخل بابًا من هذه الأبواب المفتحة قال: ويحك لا تفتحه، إنك إن تفتحه؛ تلجه» يعني إن فتحتَ دخلتَ- قال -صلى الله عليه وسلم-: «الصراط الإسلام. والسوران: حدود الله. والأبواب المفتحة عليها السطور المرخاة: محارم الله. والداعي على رأس الصراط: كتاب الله. والداعي على ظهر الصراط: واعظ الله في قلب كل مسلم»، هذا تفسير رائع جميل للصراط المستقيم.
ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كما في رواية الترمذي بسند حسن من حديث عبد الله بن مسعود «خطَّ خطًّا مستقيمًا، وخطَّ عن يمينه وشماله خطوطًا -أي منحرفة معوجَّة- ثم قال -بأبي وأمي: هذا صراط الله مستقيمًا، وهذه سُبُل، وعلى رأس كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾» [الأنعام: 153].
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ﴾، صراط مَن؟ ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، مَن المُنعَم عليهم؟ هم المذكورون في قول الله -تعالى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً * ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً﴾ [النساء96، 70] .
ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من هؤلاء. إذن هذا هو صراط المُنعَم عليهم.
﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسنت هذه الرفقة في الدنيا والآخرة، ﴿وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً﴾.
﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ﴾، أي جنِّبنا طريق المغضوب عليهم، ممن فسدت إراداتهم فعلموا الحق وانحرفوا عنه، وعدلوا عنه. وجنبنا يا رب صراط الضالين الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في طريق الضلال.
وعن أبي هريرة كما في صحيح البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا أمَّنَ» يستحب لمن قرأ الفاتحة أن يُؤمِّن بعدها، قال: «إذا أمَّن الإمام فأمِّنوا، فإنه مَن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفرَ له ما تقدم من ذنبه».
هذا باختصار شديد جدًا في سورة الفاتحة، ولنشرع في قراءة سورة الزلزلة تفضل يا شيخ طلعت.
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾ [سورة الزلزلة].}
الشيخ:
سورة الزلزلة، زلزلة ترج القلوب وتهز الأفئدة، إنه زلزال خاص ليس كأي زلزال يحدث في الدنيا، أو يقع للأرض من يوم خلقها ربنا إلى يوم هذا الزلزال، بل هو زلزال مخصوص خاص يرج الأرض رجًا، يفك أواصرها كلها، ويدك جبالها، ويبعثر أنهارها ووحوشها وشموسها وأقمارها، ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ﴾ [إبراهيم: 48]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ﴾ [الحج: 1].
وأريد أن تتخيلوا معي -إخواني وأخواتي هنا، وكذلك في الرياض وفي أي مكان- أرجو أن تتخيلوا أن الذي يصف هذا الزلزال وهذا اليوم بأنّه عظيم هو ربنا -جلّ وعلا- العظيم.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ [الحج 1، 2]، يكفي هذا من قول ربي في وصف هذا اليوم.
﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا﴾ رجتْ رجًا عظيمًا.
﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾ لتتخلص من هذا الحمل الثقيل في جوفها وفي بطنها؛ لتخرج كل ما في جوفها من الإنس، ومن كل شيء يعلمه ربي -تبارك وتعالى.
﴿وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا﴾، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان - أي الأعمدة - من الذهب والفضة -الله أكبر- من الذهب والفضة فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت. ويجيء القاطع لرحمه فيقول: في هذا قطعت رحمي. ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطعت يدي. ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا»، لا يأخذون ذهباً ولا فضة، إذ لا قيمة لهذا في هذا اليوم المهيب العظيم الذي تذهل فيه كل مرضعةٍ عما أرضعت.
﴿يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس 34-37].
وقال الإنسان المذعور المفزوع: ما لها؟ ما الذي جرى للأرض؟ ما الذي بدل أمنها؟ ما الذي حول استقرارها؟ ما الذي حول سكونها إلى هذا الزلزال المزلزل المدمر المرعب.
﴿وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾ تنطق الأرض، يُنطقها ربنا -تبارك وتعالى- والله على كل شيءٍ قدير، وتُحدّث بما فعله كل إنسانٍ على ظهرها -وإن كان في سند الرواية في سنن الترمذي ضعف- لكن الأرض تحدث لأنّها من الشهود التي ستشهد على كل إنسان بما عمل على ظهرها.
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا﴾؛ أي تُحدّث بكل هذا بأمر من الله -تبارك وتعالى-، بأمرٍ من الله -عز وجل-، قال البخاري -رحمه الله تعالى: "أوحى لها، وأوحى إليها، ووحى لها، ووحى إليها كل هذا معناه واحد".
﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً﴾، يومئذ يخرج الناس من قبورهم حفاةً عراةً غرلًا، متفرقين، مشتتين، موزعين، مذعورين، مفزوعين، مذهولين، إنَّها لحظة من أرهب لحظات القيامة، ومشهدٌ من أصعب مشاهد القيامة، مشهد البعث والحشر.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾، ليقف الجميع بين يدي الله -تبارك وتعالى- للسؤال عن الكثير والقليل، تدبر قول الله -عز وجل-: ﴿وَنَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47].
تدبر قول الله -عز وجل-: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلاَ أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لاَ عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ [طه 105-109].
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ﴾ يعني يتبعون هذا الملك الذي جاء ليقودهم إلى أرض المحشر للوقوف بين يدي الله -جل وعلا- في ساحة الحساب بلا ترددٍ ولا اعوجاج، لا يستطيع أحدٌ أن يمانع، لا يستطيع أحدٌ أن يمتنع، وفي هذا اليوم أيضًا لا تنفع الشفاعة إلا بإذن الله -سبحانه وتعالى- للشافع وبإذن الله تعالى في المشفوع فيه، فالشفاعة لا تتم إلا بإذن الله للشافع نفسه ولو كان المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وللمشفوع فيه أيضاً. كما سأبين إن شاء الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ﴾، تتطاير الصحف، ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة 19-21]، إلى آخر الآيات، ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ القَاضِيَةَ﴾[الحاقة 25-27]. الآيات.
﴿يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ﴾، انتهى، ﴿وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ﴾ [القمر: 53].
يا الله، فكم من معصيةٍ قد كنت نسيتها ذكرك الله إياها، وكم من مصيبةٍ قد كنت أخفيتها أظهرها الله لك وأبداها، فيا حسرة قلبك وقتها على ما فرطت في ديناك على طاعة ربك ومولاك.
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾.
روى البخاري ومسلم من حديث عدي بن حاتم أنّه -صلى الله عليه وسلم- قال: «ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه فاتقوا النار ولو بشق تمرة».
وقال -صلى الله عليه وسلم-: «لا تحقرن من المعروف شيئًا، ولو أن تلقَ أخاك بوجهٍ طلق»، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «وإياكم ومحقرات الذنوب؛ فإنّهن يجتمعن على المرء حتى يهلكنه». فلا تحتقر ذنبًا ولا تحتقر معروفًا، ربما يرجح ميزانك بحسنة، وترجح كفة السيئات بسيئة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَراًّ يَرَهُ﴾، هذا باختصار شديد في سورة الزلزلة.
نقرأ سورة العاديات من يقرأ؟ تفضل..
{بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾ [العاديات 1-5]}.
الشيخ:
قلقل القاف؛ لأن لا بد..، شيخنا قال: لا بد من التعليم.
{﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾}.
الشيخ:
لا، ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾
{﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً * إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾ [سور العاديات 5-12] }.
الشيخ:
أحسنت، هذه السورة الجميلة ربما لا يلتفت كثيرٌ منكم إلى أنها -بكلماتها البليغة المختصرة الرائعة- تحكي ملحمةً قتاليةً حتى النصر كاملة من أول المعركة إلى آخرها في هذ الكلمات بل في نصف السورة، ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾، انتهت المعركة، انتهت الملحمة، ثناءٌ من الله -تبارك وتعالى- على الخيل التي تعدو في الصباح الباكر تضرب الأرض بأقدامها حتى ينقدح من حوافرها التي تصطدم بالصخر والحصى النار.
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾، ضبحًا: أي الخيل التي تحمحم وتخرج هذا الصوت وهذا الصهيل وهي في عدوها يعلوها مقاتلٌ مسلمٌ مجاهدٌ في سبيل الله.
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾ الواو: واو القسم، واعلم أن الله -جلّ جلاله- له أن يقسم بما يشاء من خلقه، وليس للمخلوق إلا أن يُقسم بالله -سبحانه وتعالى- وحده، فلا يجوز للمسلم أن يقسم بالنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا بأبيه ولا بأمه ولا بزوجته، ولا بأي أحد، وإنما يجب عليك إن كنت حالفًا أن تحلف بالله أو اصمت، كما قال -صلى الله عليه وسلم-، لكن الله جلّ جلاله يُقسم بما شاء من خلقه، وما أقسم الله -تبارك وتعالى- بشيءٍ إلا ليلفت النظر إلى عظمة وأهمية هذا الشيء.
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾، الواو: واو القسم، مدحٌ من الله -تبارك وتعالى- للعاديات أي للخيل التي تعدو مسرعةً وهي تحمحم.
والضبح: الحمحمة، صهيل الخيل.
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً﴾، أي التي تقدح بحوافرها الصخر والحصى وهي تعدو عدوًا شديدًا سريعًا، ينبعث شرارُ من نار من سرعة هذه الخيل التي تعدو للغزو في سبيل الله.
﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً﴾، ثناءٌ آخر من الله -تبارك وتعالى- على هذه الخيل التي تخرج في الصباح الباكر لتغير في سبيل الله سبحانه وتعالى.
﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾، أي فأوقعن بالوادي الذي هو محل المعركة والملحمة غبارًا.
النقع هو: التراب والغبار من أثر هذا الجري وهذا العدو وهذه الحركة السريعة.
﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً﴾، أي فأحدثن غبارًا وترابًا مرتفعًا في هذا الوادي الذي به أرض الملحمة وأرض المعركة.
﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾، أي يباغت العدو ويفاجأ العدو بهؤلاء الأبطال على ظهر هذه الخيول التي تعدو وتغير في سبيل الله في وسط الجمع، أي في وسط جمع الأعداء، انتهت الملحمة، انتهت المعركة.
انظروا إلى عظمة هذا القرآن، أنا أشهد أن مصدريته دليل إعجازه، أشهد أنّ مصدرية القرآن دليل إعجازه، فإن علمت أنّه كلام الله فاعلم أنّه كلام معجز، معدن كل فضيلة وأصل الأصول، وطريق الوصول والسعادة في الدنيا والآخرة بصحبة الحبيب الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾.
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً﴾، عرفتم المعنى؟
﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾، جواب القسم: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ لا حول ولا قوة إلا بالله، كل هذا قسم، جواب القسم: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، ما تعني ﴿لَكَنُودٌ﴾؟ لجحود، لكفور لنعمه، لكفور لفضله -سبحانه وتعالى-، والله جواب قسمٍ مؤلم في غاية الألم، ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، أي لجحود.
المؤمن هو الذي يشكر النعم، ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7] ولا حول ولا قوة إلا بالله.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾، هذا جواب القسم، والمعنى: إنّ الإنسان لربه لكفور.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾، الآية فيها تأويلان وتفسيران.
وإنّه على مَن يعود الضمير؟ من أهل العلم من قال: يعود الضمير على الله -جلّ جلاله-، ومنهم من قال يهود على الإنسان.
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾، أي إنّه الله -جلّ وعلا- على كنود الإنسان وكفرانه وجحوده لشهيد.
والمعنى الآخر: إنّ الإنسان شاهد على جحود نفسه وإنكاره كثير من فضل الله عليه ونعمه.
﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾، أي وإنّه لحب المال لشديد.
قال الله -عز وجل-: ﴿وَتُحِبُّونَ المَالَ حُباًّ جَماًّ﴾ [الفجر: 20]، الإنسان مفطور على حب المال، قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ..﴾ [آل عمران: 14]. الآيات.
﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ﴾، أفلا يعلم إذا بُعث ونُثر وأخرج ما في القبور من الموتى، وأخرجوا من قبورهم للحشر وللحساب بين يدي الله -تبارك وتعالى-، هل علم هذا الإنسان الكنود الجحود الكفور كيف تكون عاقبته بين يدي الله -تبارك وتعالى-؟
﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ﴾، كيف يكون حاله من الثواب والعقاب هل هو من أهل الجنة أم من أهل النار؟
﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾؛ أي وأبرز ما تحمله صدورهم من خيرٍ وشر، وأبرز ما فيها من الخير والشر، ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾، إنّ ربهم بأعمالهم من الخير والشر وما أسَرُّوا في أنفسهم؛ بل وما أعلنوه وما أضمروه في صدورهم، وما بيّنوه وما أبرزوه، ربهم -تبارك وتعالى- خبير بكل هذا، عليمٌ بكل هذا، لا يغيب عنه شيءٌ -جل جلاله- يعلم ما تكنّه صدورهم وما تخفيه، فضلاً عما يعلنونه من كلمات وأفعال﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾.
أسأل الله أن يسترنا وإياكم في الدنيا والآخرة، هذا باختصار.
من يقرأ سورة القارعة؟ تفضل يا أخي:
{أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ [سورة القارعة].}
نسأل الله أن ينجينا من النار.
﴿الْقَارِعَةُ﴾: اسم من أسماء القيامة، فهي القيامة والقارعة والصاخة والحاقَّة والغاشية والطامة، إلى غير ذلك.
﴿الْقَارِعَةُ﴾، أي التي تقرع القلوب بفزعها وهولها، التي تقرع القلوب بهولها وفزعها.
﴿الْقَارِعَةُ * مَا القَارِعَةُ﴾، انظروا إلى هذا التعظيم لشأنّها والتأكيد على هولها وفظاعتها.
﴿مَا القَارِعَةُ﴾ يذكر ربنا -تبارك وتعالى- هذا الاستفهام مرة أخرى معظمًا لشأن القيامة، معظمًا لشأن القارعة.
﴿مَا القَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَارِعَةُ﴾، تأكيد لهولها وفظاعتها.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَارِعَةُ﴾ وكأن أهوال القارعة لا يستطيع أحدٌ من الخلق أن يدركها، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَارِعَةُ﴾ ، لا يستطيع أحدٌ إدراك كنهها وإدراك هولها وفظاعتها.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا القَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ﴾، فراش: الطير الصغير المتداخل، بل والمتهافت على النار وهو لا يعلم حتفه، ولا يدري مصيره، يوم يخرج الناس من قبورهم أشتاتًا مفرقين مبعثرين كالفراش المبثوث، كالفراش الطائر المنتشر المتداخل الذي ربما يتهافت على النار وهو لا يعلم حتفه ولا يعلم مصيره.
﴿يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ المَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ﴾، كالعهن: أي كالصوف المتعدد الألوان، الممزق المتناثر المتطاير.
﴿وَتَكُونُ الجِبَالُ﴾، تصور هذه الجبال، ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً﴾ [طه: 105]، ﴿وَإِذَا الجِبَالُ سُيِّرَتْ﴾ [التكوير: 3].
﴿وَتَكُونُ الجِبَالُ كَالْعِهْنِ المَنفُوشِ﴾، أي كالصوف الملون المتناثر المفتت المتطاير.
﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ -اللهم اجعلنا منهم- ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ نحن نؤمن بالميزان، نعم، أهل السنة يؤمنون بميزان حسي له كفتان مشاهدتان، وليس كما أنكرت بعض الفرق الميزان، وقالت: الميزان للفوال والبقال. وهذا ورب الكعبة غاية الانحراف والضلال.
فأهل السنة يؤمنون بميزانٍ حسي له كفتان مشاهدتان، يزن الحق -تبارك وتعالى- فيه العبدَ، على خلافٍ بين أهل العلم العبد أو الأعمال فقط، أو العبد بأعماله، كل هذا ثابت عن أهل العلم.
قال ربنا -تبارك وتعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وَجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون 102-104].
وقال نبينا -صلى الله عليه وسلم-: «كلمتان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، هما سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم».
وقال بمسند أحمد بسند حسن أنّه -صلى الله عليه وسلم- رأى عبد الله بن مسعود يصعد يومًا على شجرة أراك يجني سواكًا فجعلت الريح تكفأه، قامت ريحٌ فقلبته على الأرض، فجعل القوم يضحكون. فقال -عليه الصلاة والسلام-: «ممَّ تضحكون؟ قالوا: من دقة ساقيه يا رسول الله، قال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد».
وفي الصحيحين أيضًا من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-: «يُؤتى بالرجل السمين العظيم، فلا يَزن عند الله جناح بعوضة، اقرؤوا إن شئتم، ﴿فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا﴾».
﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾، ﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾، أي في نعيمٍ دائمٍ في جنة الله -تبارك وتعالى-.
﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ فإذن: نحن نؤمن بالميزان.
﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾، أي من خفت موازين حسناته، ورجحت كفة سيئاته أو موازين سيئاته، فمن رجحت موازين حسناته نجا، وهو في عيشةٍ راضية سعيدةٍ في جنة ونهر.
وأما من خفت موازينه ورجحت موازين سيئاته على موازين حسناته -ولا حول ولا قوة إلا بالله- ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾.
﴿هَاوِيَةٌ﴾: ما هي؟ ما هي هاوية؟ ربنا -جلّ وعلا- قال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾، لماذا قال: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾؟ لأنّه يهوي إلى النار -أعاذنا الله وإياكم منها- كما يهوي الطفل إلى أمه.
﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾.
كان عمر بن الخطاب يقول: "أيها الناس، اتقوا النار فإنّ قعرها بعيد، وإنّ حرها شديد، وإنّ مقامعها حديد".
وأنا أقول لكم: الطعام في النار نار، والشراب في النار نار، والثياب في النار نار، الطعام في النار زقوم، الطعام في النار غسلين، الطعام في النار ضريع.
والآيات كثيرة في التأكيد لهذه المعاني، حتى الشراب في النار من النار، ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ المَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَائِه عَذَابٌ غَلِيظٌ﴾ [إبراهيم 15- 17].
قال الله عز وجل -فيه آيات كثيرة ولا أريد أن أطيل- الطعام نار والشراب نار، حتى الملابس نار، ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحَمِيمُ﴾ [الحج: 19]، هذا كلام ربنا -جلّ وعلا- ليست هذه مفردات من عندي أنا؛ وإنما هي كلمات ربنا -تبارك وتعالى-.
﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾، أي قد انتهى حرها، وبلغ في الشدة غايته، فهي شديدة الحر قوية اللهب والسعير والنيران -ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: «ناركم هذه التي توقدون جزءٌ من سبعين جزءًا من نار جهنم» هل ترى نار الدنيا؟ تصور نار مشتعلة في بئر بترول، أو في حقل، أو في مستودع وقود، تصور هذه النيران.
يقول -صلى الله عليه وسلم-: «ناركم هذا جزءٌ من سبعين جزءاً من نار جهنم، قال يا رسول الله: والله إن كانت لكافية قال: ولكنّها فضلت على ناركم بتسعة وستين جزءًا كلهن مثل حرها». نسأل الله أن ينجينا وإياكم من النار.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ هذا باختصار، نقرأ سورة التكاثر سريعًا تفضل:
{بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾}
الشيخ:
لو ستقف على ﴿المَقَابِرَ﴾ رقق الرَّاء، ﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾.
{﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾. [سورة التكاثر].}
الشيخ:
سورة تهز القلوب، أيضًا ولا يتسع الوقت للحديث بتفصيل عن السورة وأسباب النزول وعن المفردات مفردةً مفردةً إلى غير ذلك، لكني أجمل القول إجمالًا.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ تحذيرٌ ووعيدٌ من الله -تبارك وتعالى- أي شغلكم وألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد والدنيا الزائلة والمناصب الفانية.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ شغلكم التكاثر بالأموال والأولاد، والتفاخر بزينة الحياة الدنيا، والتغالب عليها والتصارع عليها، والاستكثار من تحصيلها، شغلكم كل هذا عن طاعة ربكم -سبحانه وتعالى- وعن طاعة نبيكم -صلى الله عليه وسلم-، وعن الاستعداد والعمل للآخرة.
﴿ألهاكم التكاثر﴾ ظللتم في لهوٍ وغفلةٍ حتى فوجئتم بزيارتكم للمقابر، أي بالموت، وسمى الله الموت زيارة؛ لأنه وإن طالت مدة بقائك في القبر فهي مدة معلومة محدودة، وحتمًا بعدها ستخرج من قبرك لتسأل بين يدي الله -جل وعلا-، فكأن مدة إقامة في القبر وإن كالت زيارة، ليست إقامة دائمة.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، أي بالموت، والموت حق ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كَنتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19]، تحيد إلى الطبي إذا جاءك المرض خوفًا من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع خوفًا من الموت، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ خوفًا من الموت، ولكن ثم ماذا أيها القوي الفتي، أيها الذكي العبقري، يا أيها الكبير ويا أيها الصغير.
كل باكٍ فسيُبكى، وكلُّ ناعٍ فسيُنعى، وكل مذكور سيفنى، وكل مذكور سينسى، ليس غير الله يبقى، من علا فالله أعلى.
﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ﴾، ولذلك أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نُكثر من ذكر هادم اللذات «أكثروا ذكر هادم اللذات» يعني الموت.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾.
النبي -عليه الصلاة والسلام يقول كما في صحيح البخاري من حديث أنس: «لو أن لابن آدم واديًا من ذهب لأحب أن يكون له واديان، ولن يملأ فم ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على مَن تاب». نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، أي ما زلتم في انشغال بالدنيا، وتكاثر بها وغفلة عن الآخرة، حتى أدرككم الموت وأنتم على تلك الحال.
﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة».
﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ﴾، لكن المقصود بالزيارة على الراجح من أقوال أهل التفسير: الموت.
﴿حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ هذا وعيد بعد وعيد، وتهديد بعد تهديد، وهو زجر لهؤلاء الغافلين اللاهين، زجر لهم وتنبيه لهم أنهم سيعلمون عاقبة ذلك اللهو، وعاقبة ذلك الانصراف والانشغال عن الآخرة يوم القيامة.
﴿كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ﴾، أي لو علمتم حق العلم لَما ألهاكم هذا التكاثر، ولَما شغلتكم الدنيا، ولَما غفلتم عن الآخرة.
﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾ أي في الآخرة.
فلطالما ذُكِّرتم بآية من كتاب ربكم، أو بحديث من كلام نبيكم، لكنكم ستعلمون هذا العلم عين اليقين حينما تشاهدون بأعينكم دار النعيم ودار الجحيم.
لكن الله -تبارك وتعالى- خصَّ هنا فقال: ﴿كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الجَحِيمَ﴾، أي في الآخرة.
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، من أهل العلم مَن يقول: "يقين وعين يقين" أي أن يرى هؤلاء بأعينهم دار الجحيم، «يؤتى بجنهم يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها»، هذا حديث في صحيح مسلم، تزفر جهنم، تزمجر غضبًا لغضب ربها -تبارك وتعالى.
﴿ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليَقِينِ﴾، أي تشاهدونها بأعينكم يوم القيامة في أرض المحشر.
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾، النعيم: اسم عام لكل ما يُنعِمُ الله -تبارك وتعالى- به على العباد من الأمن والصحة والطعام والشراب إلى غير ذلك، فهي لفظ شاملة؛ لأن فيه تفسيرات كثيرة لسلفنا -رضوان الله تبارك وتعالى عليهم- لكن أكتفي بحديث واحد رواه الإمام البخاري من حديث ابن عباس، أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ».
فيه رواية ثانية جميلة في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه -صلى الله عليه وسلم- خرج ذات يوم أو ذات ليلة، وإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟» فقالا: الجوع يا رسول الله، ما أخرج أبا بكر وعمر إلا الجوع، فقال -صلى الله عليه وسلم- «والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما»، يعني أنا والله ما خرجتُ أيضًا إلا بسبب الجوع، قال -عليه الصلاة والسلام: «قوموا»، فقاموا معه -صلى الله عليه وسلم-، فأتى النبي رجلًا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلما رأت المرأة رسول الله وصاحبيه، قالت: مرحبًا، فقال لها رسول الله: «أين فلان». قالت: ذهب يستعذب لنا الماء -يعني يطلب لنا الماء-، فجاء الأنصاري -رضي الله عنهم جميعًا-، فنظر إلى رسول الله وصاحبيه، فقال الأنصاري: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا مني، وانطلق وجاء بعذق -أي بغصن- من النخل فيه بسر وتمر ورطب، فقدم للنبي -عليه الصلاة والسلام- ولصاحبيه، فقال: كلوا من هذه، وأخذ المُد -يعني السكين- وذهب ليذبح لهم ذبيحة، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «إياك والحلوب»؛ يعني لا تذبح الحلوب، فذبح لهم شاةً وأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا، فلما أن شبعوا وشربوا، قال -صلى الله عليه وسلم- لأبي بكر وعمر: «والذي نفسي بيده، لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم».
﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الشاكرين.
طيب.. نكتفي بهذا القدر لأن الوقت قد مضى وقد أزف، وإن شاء الله تعالى مَن أراد أن يرجع إلى بقية السور الكريمة فيُراجعها في موقع الأكاديمية، فالآيات بفضل الله -تبارك وتعالى- مشروحة بالتفصيل، وسأكتفي بهذا القدر؛ لأن الوقت قد أزف.
وسامحونا على الإطالة، وأسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وألئك هم أولوا الألباب، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
http://islamacademy.net/cats3.php