مادة شرح متن البيقونية
لفضيلة الشيخ/ طارق عوض الله
الدرس (8)
إنَّ الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شُرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
وقفنا في اللِّقاء الماضي في شرح المنظومة البيقونية عند الحديث الشَّاذ، واليوم -بإذن الله تعالى- سنتكلم ونتناول عدَّة أنواعٍ من أنواع علوم الحديث، أولها: الحديث المقلوب:
يقول الناظم -رحمه الله تعالى:
............ *** ..... وَالمَقْلُوبُ قِسْمَانِ تَلَا
إِبْدَالُ رَاوٍ مَا بِرَاوٍ قِسْمُ *** وَقَلْبُ إِسْنَادٍ لِمَتْنٍ قِسْمُ
عندما نتكلم عن الحديث المقلوب لابُدَّ أن يكون عندنا تصوُّر لهذا النوع وللنَّظائر له من أنواع علوم الحديث.
تذكرون سابقًا لما تكلَّمنا عن الحديث الصَّحيح قلنا: لكي يكون صحيحًا لابُدَّ أن يكون سالمًا من الشُّذوذ، سالمًا من العِلَّة.
وشرحنا الشُّذوذ والعِلَّة وقلنا: إنَّ الشُّذوذ والعِلَّة طريقان من خلالهما يعرف العلماءُ -رحمة الله عليهم- أنَّ الحديث وقع فيه خطأٌ في الإسناد أو خطأٌ في المتن، وهذا الخطأ مَن الذي وقع فيه؟ الرَّاوي، فالرَّاوي الذي روى الحديثَ أخطأ في الإسناد أو أخطأ في المتن.
كيف نستدلّ ونهتدي إلى هذا الخطأ؟
ذكرنا في أكثر من مرَّةٍ أنَّ العلماء يعتمدون في ذلك إمَّا على أن يتفرَّد الرَّاوي وهو ليس عنده أهلية التَّفرُّد، أو أن يُخالفه مَن هو أوثق منه وأحفظ، أو أكثر منه عددًا.
إذن نحن بين أيدينا حديثٌ خطأ، وسلكنا الطرقَ العلمية لمعرفة كيفية إثبات أنَّ هذا خطأ، ما نوع هذا الخطأ؟ ما شكل هذا الخطأ؟ والراوي إذا ما أخطأ في الرواية ماذا يفعل؟ بطبيعة الحال هو يُغيِّر فيها، فهو سمع الحديثَ من شيخه على وجهٍ من الوجوه، لكنَّه عندما روى لم يَرْوِ الحديثَ كما سمعه، فإمَّا أن يكون قد أبدل شيئًا بشيءٍ، أو قدَّم شيئًا وأخَّر آخر، وإمَّا أن يكون قد زاد في الحديث شيئًا ليس منه، أو نقص من الحديث شيئًا هو فيه. هذه هي الاحتمالات التي يمكن أن يكون الراوي قد أخطأ بها.
هذه الصور -صور الأخطاء- نُسميها نحن (أنواع العِلل)، فمنها هذا النوع تحديدًا، وهو ما يُسمَّى بـ(الحديث المقلوب)، وسيأتي نوعٌ قريبًا -إن شاء الله- يُسمَّى بنوع (المُدْرَج)، فنحن حينما نتكلم عن المقلوب نتكلم عن علم علل الأحاديث، وكذلك نوع المُدْرَج، وهنا سيأتي أيضًا نوع المُضْطَرِب، فكلُّ هذه الأنواع تدور في فلك علم علل الأحاديث، وهذا علمٌ عظيمٌ.
نحن قلنا: إنَّ هذا العلم يدور على ثلاثة أقسام:
- قسمٌ مُتعلِّقٌ بسماع الراوي من عدم سماعه من شيخه.
- وقسمٌ مُتعلِّقٌ بحال الراوي: ثقةً أو ضعفًا.
- وقسمٌ مُتعلِّقٌ بحال الرواية نفسها: شذوذًا أو علَّةً، أي: صوابًا أو خطأً.
فما كان مُتعلِّقًا بالسَّماع تناولناه عندما تكلَّمنا عن المُرسَل، والمُنْقَطِع، والمُعْضَل، وغير ذلك.
وما يتعلَّق بالراوي جرحًا وتعديلًا هذا علمٌ مُفرَدٌ يُسمَّى بعلم الجرح والتَّعديل، وله أئمَّة مُتخصِّصون فيه، وله كتبه المُختصَّة به، وكذلك له قواعده وأُسسه وضوابطه.
ثم يأتي علمُ علل الأحاديث التي من خلالها نعرف الخطأ الواقع في الرواية كيف وقع؟ وكيف نُثبت أنَّه وقع؟ وعلى أيِّ وجهٍ من الوجوه وقع؟
نحن عندما نتكلم عن المقلوب نتكلم عن صورةٍ من صور الأخطاء الواقعة في الرِّوايات سندًا أو متنًا، هذه الصورة شرحها الناظمُ بأن قسَّم هذا النوع إلى قسمين، أي إلى صورتين:
الصورة الأولى: إبدال راوٍ براوٍ.
الثانية: إبدال إسنادٍ لمتنٍ.
ما معنى هذا الكلام؟
نحن مثلًا عندنا حديث يُروى عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بسندٍ، وليكن مثلًا حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» الذي ذكرناه كثيرًا، ويرويه مَنْ؟ يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التَّيمي عن علقمة بن وقَّاص اللَّيثي عن عمر بن الخطاب عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن نحن بين أيدينا سند ومتن، فإذا روى الراوي الحديثَ بهذا السَّند وذاك المتن يكون مُصيبًا؛ لأنَّه روى الحديثَ على وجهه الصواب، لكنَّه لو غيَّر راويًا من رواة هذا الإسناد وجعل مكانه راويًا آخر ليس هو من رواة هذا الحديث، ماذا فعل؟ أخطأ، جعل الحديث لراوٍ؛ بينما هو لراوٍ آخر، فقد لا يُخطئ في المتن، والمتن صحيحٌ، لكنَّه أخطأ حينئذٍ في الإسناد.
واحد يقول: ما دام المتنُ صحيحًا لماذا نشغل أنفسنا بالإسناد؟
لا، علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- كما يُعنون بضبط وتحرير المتون كذلك يُعنون بضبط وتحرير الأسانيد؛ لأنَّ الإسنادَ هو السَّبيل إلى معرفة المتن، فنحن عرفنا أنَّ من الأسانيد أو من المتون ما لا يُروى إلا بسندٍ واحدٍ، أو ما لا يرويه إلا راوٍ واحد، وسمَّينا ذلك بالحديث الغريب، فإذا أخطا مُخطئٌ فجعل للحديث راويًا آخر، أو سندًا آخر؛ حينئذٍ لن يكون الحديثُ من قسم الغريب، وسيكون من قسم العزيز، ويتغير حينئذٍ الحُكم على الحديث؛ لأنَّ الراوي قد يكون ضعيفًا -أعني الراوي الذي تفرَّد بالحديث- فإذا روي الحديثُ عن راوٍ آخر هو ثقة؛ سنقول: نعم، هذا الراوي ضعيف، لكنَّه لم ينفرد بالحديث، وإنَّما وافقه غيرُه على رواية هذا الحديث.
يأتي علماء الحديث فيقولون: لا، الحديث إنَّما رواه ذلك الراوي الضَّعيف، أمَّا من رواه عن الراوي الثِّقة بعد إبداله بالضعيف فنقول: أخطأ؛ لأنَّ هذا الثِّقة لم يروِ هذا الحديث، فليس هو من رواة هذا الحديث، إنَّما راويه الذي رواه هو ذلك الراوي الضَّعيف، وعليه يظل الحديثُ ضعيفًا لتفرد الضَّعيف به، ولا يتقوَّى الحديثُ ولا ينتفع بتلك الرواية التي جاءت عن ذلك الثِّقة؛ لأنَّها روايةٌ مقلوبةٌ أُبدِلَ فيها الراوي براوٍ آخر، فتوهم الناظرُ أنَّ الحديث يرويه رجلان، بينما هو من رواية رجلٍ واحدٍ.
عندنا حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما ويرويه عنه عبد الله بن دينار- أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- نهى عن بيع الولاء وعن هبته.
يقول العلماء في هذا الحديث: لم يروهِ عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- إلا عبد الله بن دينار، وهو ثقة. إذن الحديث صحيحٌ، وهذا الحديث في الصَّحيحين، فقد أخرجه البخاريُّ ومسلمٌ، إذن هو صحيحٌ بهذا الإسناد الصَّحيح.
ثم جاء أحدُ الناس وبدلًا من أن يرويه على الصواب عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن رسول الله، قال: عن نافع مولى عبد الله بن عمر عن ابن عمر عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ماذا قال العلماء؟ قالوا: هذا غلطٌ؛ فنافع لم يروِ هذا الحديث ولم يسمع به، إنَّما يرويه فقط عبد الله بن دينار -رحمه الله- أمَّا نافع -وإن كان ثقةً- فهو لم يروِ هذا الحديث، لكن الحديث مما تفرَّد به عبدُ الله بن دينار.
هب أنَّ عبد الله بن دينار ليس من الثِّقات، ثم جاء رجلٌ فأوهمك أنَّه أيضًا يرويه نافع كما يرويه ابن دينار عن ابن عمر؛ ليتوهَّم الناسُ أنَّ الحديث لم ينفرد به الضَّعيف، وإنَّما جاء أيضًا من رواية الثِّقة.
فقال العلماء: هذا غلطٌ؛ إنَّما هو من رواية ابن دينار، ولا شأن لنافع بهذا الحديث، وإن كان نافع قد روى عن ابن عمر أحاديث أخرى.
الصورة الثانية: قلب سندٍ لمتنٍ:
علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- عندهم كلُّ متنٍ له سند، فلا يوجد خلطٌ، أي لا يُروى أيُّ متنٍ بأيِّ سندٍ؛ إنَّما كلُّ متنٍ -أي كلّ حديثٍ- له إسناده الذي يعرفه العلماءُ -عليهم رحمة الله تعالى- ويحكمون على هذا المتن بمُقتضى هذا السَّند.
يأتي أحد الرواة إلى بعض المتون، فإذا به يروي هذا المتنَ بإسنادٍ آخر غير الإسناد الذي يعرفه العلماءُ لهذا المتن. ماذا فعل؟ أبدل سندًا بسندٍ، أي ركَّبَ سندًا على متنٍ.
وهنا يقول العلماءُ: دخل عليه حديثٌ في حديث. ما معناه؟ أي عمل نوعًا من التَّداخل بين الرِّوايات، فبينما المتن يُروى بسندٍ مُعينٍ معروفٍ عند العلماء إذ به يرويه بسندٍ آخر ليس هو من أسانيد هذا المتن. مثل ماذا؟
أيضًا حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، فنحن نعرف إسنادَه، فيرويه يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التَّيمي عن علقمة بن وقَّاص اللَّيثي عن عمر بن الخطاب عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
فجاء رجلٌ اسمه عبد العزيز بن أبي روَّاد، وهذا صدوقٌ، أي من جملة الثِّقات، لكن عنده بعض الأخطاء يعرفها العلماءُ، ومن أشهر أخطائه هذا الحديث. ماذا فعل؟ روى الحديثَ نفسه -أي المتن- لم يُخطِئ فيه، ولكنَّه رواه عن مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخُدري عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ماذا فعل؟ غيَّر الإسنادَ، فجاء بسندٍ آخر غير السَّند الذي يُعرَف لهذا المتن، بينما المتن يُعرَف بإسنادٍ صحيحٍ عن عمر بن الخطاب عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فإذا به يجعل المتنَ نفسه مرويًّا بسندٍ آخر عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه.
فهنا يقول العلماء: الحديث صحيحُ من حيث المتن، لكنَّه لا يصح عن رسول الله بهذا السند الذي هو عن أبي سعيد الخدري، إنَّما يصح بالإسناد الأول الذي هو عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه.
كذلك حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن قتادة الأنصاري عن أبيه أبي قتادة الأنصاري عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا المَكْتُوبَة».
فهذا الحديث صحيحٌ، وهذا الإسناد أيضًا صحيحٌ، والحديث في الصَّحيحين، فجاء رجلٌ اسمه جرير بن حازم -وهو في المرتبة كابن أبي روَّاد له بعض الأخطاء القليلة المعروفة عند العلماء، ومنها هذا الحديث- ماذا فعل؟ بدلًا من أن يرويه بهذا الإسناد الصَّحيح عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله ابن أبي قتادة عن أبي قتادة عن رسول الله؛ إذ به يرويه عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ماذا فعل؟ هو لم يُغيِّر في المتن شيئًا، فالمتن هو المتن، لكنَّه غيَّر في الإسناد، فركَّب متنًا على إسنادٍ، وإسنادًا على متنٍ؛ فقال العلماء: هذا غلطٌ، فهذا الإسناد ليس من الأسانيد التي يُروى بها ذلك المتن، إنَّما تُروى بهذا الإسناد متونٌ أخرى غير هذا المتن، وإنَّما غلط الراوي عندما جعل هذا الإسناد من أسانيد ذلك المتن، فدخل عليه إسنادٌ في إسنادٍ.
انظر إلى الدِّقة المُتناهية عند العلماء -عليهم رحمة الله.
هاتان الصُّورتان اللتان ذكرهما المؤلف -عليه رحمة الله- يتعلَّقان بالقلب في الإسناد كما ترون، ولم يُعَرِّج على القلب في المتن، والقلب يقع في الإسناد ويقع في المتن، مثل ماذا؟
نحن قلنا في الإسناد قلب راوٍ براوٍ، كذلك أيضًا في المتن قد يقع مثل ذلك. كيف؟ بمعنى أنَّ الراوي يُبدِل كلمةً بكلمةٍ، وقد يترتَّب على إبدال هذه الكلمة اختلافُ الحكم الفقهي المُستنبط من الحديث، أو فهم وتفقُّه الحديث. مثل ماذا؟
مثل حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وهو في الصَّحيحين- أنَّه سأل رسولَ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال له: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي كنتُ قد نذرتُ في الجاهلية -يعني قبل أن يُسلِم- أن أعتكِفَ ليلةً في المسجد الحرام. فهو يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن هذا النَّذر الذي عقده على نفسه في الجاهلية هل يلزمه بعد الإسلام أن يفي به أم لا؟ فماذا قال له النبي -عليه الصلاة والسلام؟ قال له: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ». حديثٌ صحيحٌ.
أحد الرواة روى الحديثَ نفسَه ولكن بدلًا من أن يقول: إنِّي قد نذرتُ في الجاهلية أن أعتكف في المسجد الحرام ليلًا. ماذا قال؟ قال: "يومًا"، فأبدل كلمةً بكلمةٍ، وغيَّر في لفظةٍ من ألفاظ الحديث، فبدلًا من أن يقول: "ليلة" كما هو في الصَّحيحين، قال: "يومًا". فهذا اسمه قلبٌ؛ لأنَّه إبدال كلمةٍ بكلمةٍ.
طبعًا هذه الكلمة من الممكن أن يتغير بها فقه الحديث، أو قد يُفهَم من تلك الرواية معنى لا يُفهَم من الرواية التي ورد فيها لفظة: "ليلة" لماذا؟ لأنَّ الرواية الأولى التي فيها لفظة: "ليلة" استنبطت منها طائفةٌ من أهل العلم أنَّ المُعْتَكِف لا يُشترط عليه أن يكون صائمًا، فلا يُشترط أن يكون المُعْتَكِفُ صائمًا، فقد يصح اعتكافه بدون صومٍ، وفهموا ذلك من ماذا؟ من قول عمر: "ليلة". وإقرار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- له ذلك، وأمره بالوفاء بهذا النَّذر الذي عقده على نفسه، ولم يأمره أن يصوم مع اعتكافه. لماذا؟ لأنَّ اللَّيل ليس موضعًا للصَّوم، إنَّما الصَّوم يكون في النَّهار لا في اللَّيل.
بخلاف الرواية التي وردت فيها لفظة: "يومًا"، فإنَّه قد يُفهَم منها، أو قد يكون ظاهرها أنَّ الاعتكاف يُشترط معه الصوم.
انظر: فهنا من الممكن أن يُستَنْبَط حكمٌ فقهيٌّ من لفظةٍ من روايةٍ، وقد لا يُستَنبط أو لا يُفهَم هذا الحكم الفقهي من روايةٍ أخرى تغيَّرت فيها اللَّفظة التي هي موضع الاستدلال.
إذن هنا أبدل كلمةً بكلمةٍ.
هناك أيضًا في القلب في المتن: أن يُقدِّم أو يُؤخِّر في الحديث، فيُؤخِّر ما حقّه أن يُقدَّم، ويُقدِّم ما حقّه أن يُؤخَّر، وقد يترتب على ذلك تغيير في الحكم الفقهي، وتغيير في المعنى المُستنبط من الحديث. مثل ماذا؟
عندنا الحديث المعروف في السَّبعة الذين يُظلّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظلّه -وهو حديث أبي هريرة في الصَّحيحين- ففي روايةٍ أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَم شِمَالُه مَا تُنْفِق يَمِينُه»، وهذه الرواية صحيحة.
وفي روايةٍ أخرى: «حَتَّى لَا تَعْلَم يَمِينُه مَا تُنْفِق شِمَالُه»، قال العلماءُ: هذه رواية مقلوبة وقع فيها تقديمٌ وتأخيرٌ.
ومثل الحديث الآخر: «إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ». فهذه الرواية الصَّحيحة.
وجاءت روايةٌ أخرى بلفظ: «إِنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ يُؤَذِّنُ بِلَيلٍ، فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ بِلَال»، فغيَّر وقدَّم وأخَّر، فهذا نُسميه قلبٌ.
إذن من القلب ما يكون بالإبدال، ومن القلب ما يكون بالتَّقديم والتَّأخير.
ننتقل بعد ذلك إلى نوعٍ آخر، وهذا النوع له علاقة بالغريب الذي ذكرناه سابقًا، يقول:
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةِ *** أَوْ جَمْعٍ اوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
نحن قلنا أنَّ الحديث الغريب: هو ما يرويه راوٍ واحد، وقلنا وقتئذٍ: إنَّ الغريب والفرد معناهما واحد، وهناك مَن يُفرِّق بين الغريب والفرد بفروقٍ ليست مُؤثِّرةً.
والواقع أنَّ الغريب والفرد عند العلماء معناهما واحد، فيستعملون الغريبَ ويستعملون الفرد ويريدون من وراء ذلك معنًى واحدًا.
هنا المؤلف تكلَّم عن الفرد، وهذا يُشعِر بأنَّه يراه غير الغريب الذي سبق أن ذكره في أوائل المنظومة، لكنَّه هنا فصَّل أنواع الفرد، فنأخذ تلك الأنواع ونجعلها للغريب وللفرد.
قال:
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةِ *** أَوْ جَمْعٍ اوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
فالحديث الذي لم يروه إلا رجلٌ واحدٌ قد يكون هذا الراوي الذي روى هذا الحديث هو المُتفرِّد به إسنادًا ومتنًا.
إسنادًا: أي لم يُرْوَ هذا المتن في الدنيا إلا بهذا الإسناد، ولا رواه راوٍ إلا ذلك الراوي الذي جاء بهذا الإسناد وذاك المتن، أي أنَّه حديثٌ لا وجودَ له في كتب الحديث إلا بهذا الإسناد وبهذا المتن وبرواية هذا الراوي تحديدًا.
لكن عندنا نوعٌ آخر نُسميه (الغريب النِّسبي)، وهو الذي أشار إليه المؤلف هنا بقوله: "الفَرْد"، وهو أن يتفرد الراوي نعم، ولكن ليس تفرُّدًا مُطلقًا، بمعنى أنَّ الحديث قد يكون مرويًّا من غير رواية هذا الراوي، ولكن وقع تفرُّد الراوي في جزءٍ من الرواية وليس في الرواية كلها.
انتبه معي: نحن قلنا في لقاءٍ سابقٍ أنَّ أبواب علوم الحديث كلها فيها المُطلَق وفيها النِّسبي، كما قلنا أنَّ الصَّحيح منه الصحة المُطلَقة، وهناك الصحة النِّسبية، والعالي والنَّازل فيه المُطلَق وفيه النِّسبي.
كذلك هنا نقول في التَّفرد: فيه المُطلَق وفيه النِّسبي، والمُطلَق شرحناه: وهو ألا يوجد الحديثُ في الدنيا إلا من رواية هذا الراوي بهذا الإسناد وذاك المتن.
لكن التَّفرُّد النِّسبي -وهو الذي أشار إليه المؤلفُ هنا- يُقصَد به أن التَّفرُّد وقع في جزءٍ من الرواية، وليس في الرواية كلها. كيف؟
هو ذكر ثلاثة أقسام، فقال:
......... مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةِ
فعندنا حديثٌ رواه راوٍ ثقة مُتفرِّدًا به، ورواه رواةٌ آخرون أيضًا ولكنَّهم ضُعفاء، فإذا نظرنا إلى العدد فلم يقع تفرُّد؛ لأنَّه لم يتفرَّد برواية راوٍ واحد، وإنَّما رواه عددٌ من الرواة، أمَّا إذا نظرنا إلى الصِّفة فيكون هناك تفرُّد؛ لأنَّ الراوي الموصُوف بالثِّقة واحد، بينما الرواية الأخرى التي رواها الرُّواة الآخرون إنَّما هم رواة ضُعفاء، فمن حيث الوصف لم يروه ثقةٌ إلا واحد. مثل ماذا؟
عندنا حديث يرويه الإمام مالك بن أنس عن محمد بن شهاب الزُّهري عن أنس ابن مالك -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- دخل مكَّةَ وعلى رأسه المِغْفَر. أي الخوذة التي يلبسها الناسُ في الحرب.
فهذا الحديث رواه عن الزُّهري عددٌ كثيرٌ، فإذا نظرنا إلى العدد؛ لم يتفرَّد به مالك عن الزهري. لكن قال العلماءُ: إنَّ كلَّ مَن رواه غير مالك ضُعفاء، أمَّا الثقة الذي رواه عن الزهري فهو مالك فقط.
فنقول هنا: تفرَّد به مالك بن أنس -رحمه الله تعالى- باعتبار الوصف، أي لم يروه ثقةٌ عن الزهري إلا مالك، فهذا تفرُّد بالنِّسبة إلى وصف الراوي، أي حال الراوي.
الصورة الثانية:
أَوْ جَمْعٍ..................
تفرُّد مُتعلِّق بالجمع، ما معنى كلمة "جمع"؟ ماذا يقصد منها المؤلف؟
الحديث قد يكون له أكثر من إسنادٍ، فيرويه أكثر من راوٍ، وكلُّ راوٍ يأتي له بسندٍ، أو هؤلاء الرُّواة يتَّفقون في الإسناد أيضًا، مثل: حديث يرويه أبو هريرة، ويرويه أبو سعيد الخدري؛ كلاهما عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فحديث أبي هريرة رواه عنه عددٌ كثيرٌ، وحديث أبي سعيد الخدري لم يروه عنه إلا واحدٌ، فإذا نظرنا إلى الحديث من حيث عدد الرواة فهم كثيرون، فليس فردًا، لكن إذا نظرنا إلى رواية أبي سعيد الخدري تحديدًا فهناك راوٍ واحد رواه عن أبي سعيدٍ؛ فنقول: هذا تفرُّد بالنسبة إلى حديث أبي سعيد الخدري تحديدًا، وإن كان حديث أبي هريرة مشهورًا.
إذن هنا التَّفرُّد بالنسبة إلى روايةٍ بعينها، وهي تلك التي تُروى عن أبي سعيدٍ الخدري، فهي غريبةٌ؛ لكونها لم يروها عن أبي سعيدٍ إلا رجلٌ واحدٌ، بينما إذا نظرت إلى المتن نفسه فهو ليس غريبًا؛ لأنَّه قد رواه عددٌ. فهنا تفرُّد بالنسبة إلى روايةٍ معينةٍ -رواية بخصوصها- وهي تلك التي تُروى عن أبي سعيدٍ الخدري.
ثم قال:
أَوْ جَمْعٍ اوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
هنا قلنا في النظر إلى حال الراوي، أو النظر إلى الجمع؛ بمعنى النظر إلى علاقة الراوي بالشيخ، فحديث أبي سعيد الخدري الراوي عنه تفرَّد، وإن لم يتفرَّد الرواة الذين رووا الحديثَ عن أبي هريرة.
هناك نوعٌ آخر يُسمَّى بـ(التَّفرُّد عن أهل بلدٍ)، ونحن نعرف أنَّ الحديث كان يُروى في بلادٍ كثيرةٍ، فيُروى في الحجاز، وفي مكة والمدينة، ويُروى في الشَّام، ويروى في العراق، ويُروى في اليمن، ويُروى في مصر، فهذه البلدان التي كثرت فيها الرواية وانتشرت، فقد يكون الحديثُ مرويًّا -أعني رواته- في غير بلدٍ، أي له أكثر من بلدٍ، فله مثلًا إسنادٌ في مصر، وله إسنادٌ في الشام، وله إسنادٌ في البصرة، وهكذا.
لكن تجد حديثًا لا يُروى إلا في بلدٍ واحدٍ، فمصري يروي عن مصري يروي عن مصري يروي عن مصري، وشامي عن شامي عن شامي عن شامي، فنقول: هذه سُنَّة تفرَّد بها أهلُ مصر، أو تفرَّد بها أهلُ الشام.
ولقد ذكرنا من قبل شيئًا اسمه مخرج الحديث، ما مخرج الحديث؟
هو الراوي الذي تدور عليه الأسانيد، كأن يكون لحديثٍ أكثر من سندٍ، لكن تلك الأسانيد كلها تلتقي عند راوٍ مُعينٍ، هذا الراوي من أهل مكة مثلًا، فنقول هنا: هذا الحديث تفرَّد به أهلُ مكة، ولا نقصد أنَّه لم يروه في الدنيا إلا أهلُ مكة؛ وإنَّما نقصد أنَّ الراوي الذي هو مخرج الحديث من أهل مكة، فمن عنده خرج الحديث.
إذن الحديث مخرجه مكي، أو مخرجه من أهل العراق، أو مخرجه من أهل مصر، وهكذا، وفهذا تفرُّد بالنسبة إلى بلدٍ.
مثل حديث أبي هريرة أنَّ النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «إِذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَبْرُكْ كَمَا يَبْرُكُ البَعِيرُ، وَلْيَضَعْ يَدَيهِ قَبْلَ رُكْبَتَيهِ»، قال الإمامُ أبو داود: هذا الحديث تفرَّد به أهلُ المدينة؛ لأنَّه من عندهم خرج، فهذه سُنَّة خرجت من عند أهل المدينة.
هذا هو المقصود بالتَّفرُّد النِّسبي الذي أشار إليه المؤلفُ في هذا البيت.
ثم يأتي نوعٌ آخر، وهو لا يُعتبر نوع، فهو يُمثِّل أنواعًا كثيرةً، ولكن بعض العلماء يجعله مُلْحَقًا، وبعضهم يُفرِده أو يجعله بابًا عظيمًا تندرج تحته أقسامٌ كثيرةٌ، وهو باب العِلَّة:
نحن قلنا: حينما نتكلَّم في المقلوب نتكلم في العِلَّة، وفي المُصَحَّف والمُحَرَّف نتكلم في العِلَّة، في المُدْرَج نتكلم في العِلَّة، وفي المُضْطَرِب نتكلم في العِلَّة، وفي الشَّاذ نتكلم في العِلَّة، وفي المُنْكَر نتكلم في العِلَّة، فكلُّ هذا داخلٌ تحت باب العِلَّة.
قال:
وَمَا بِعِلَّةِ غُمُوْضٍ أَوْ خَفَا *** مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا
فالحديث المُعَلَّل أو المَعْلُول هو حديثٌ خطأٌ عند العلماء، فقد وقع فيه خطأٌ أو بعض خطأ، ما معنى خطأ أو بعض خطأ؟
فالراوي ليس بالضَّرورة إذا ما غلط يغلط في الحديث كله، فقد يُخطئ في كلمةٍ منه كما ذكرنا "يومًا"، و"ليلةً"، أو يُخطئ في الإسناد، أو يُخطئ في المتن، فقد يكون خطؤه يقدح في الحديث كُليةً، وقد يكون خطؤه يقدح في جانبٍ من جوانب هذا الحديث، في الإسناد أو في المتن، أو بعض الإسناد أو بعض المتن.
فهنا إذا ما ثبت خطأٌ نُسمِّي الحديث مَعلولًا، لكن العلماء قالوا: المعلول لابُدَّ أن يتَّصف بوصفين:
الوصف الأول: أن يكون السَّبيلُ إلى التَّوصُّل إلى كون الحديث خطأ غامضًا خفيًّا، فلا يكون واضحًا، إنَّما يُدرِكه العلماءُ الكبار:
وَلَيْسَتِ العِلَّةُ مما يُدرَكُ *** بِظَاهِرِ الإِسْنَادِ ذَا مُشْتَرَكُ
هذا أمرٌ يشترك فيه جميعُ الناس، لكن العِلَّة أمرٌ خفيٌّ جدًّا -دقيق جدًّا- لا يُدركه إلا كبار الأئمَّة النُّقاد، مثل العِلَّة التي تعتري البدن، فهناك بعض العِلل والأمراض التي تعتري الجسمَ قد يعرفها المريضُ نفسه، أو يعرفها من عنده ثقافة طبية، كواحدٍ عنده ارتفاعٌ في درجة الحرارة فيأخذ ليمونًا وعسلًا وأدويةَ البرد وأشياء من الممكن أن يُسعِف بها الإنسانُ نفسه، لكن هناك أشياء لابُدَّ أن تذهب فيها لاستشاري كبيرٍ، أو طبيبٍ مُتخصِّصٍ، وهو الذي يُدرِك العِلَّة الخفيَّة التي لا يطَّلع عليها ولا يعرفها بسطاءُ الناس ولا عامَّة الناس.
كذلك أيضًا: هناك عللٌ ظاهرةٌ وعللٌ خفيَّةٌ في الحديث، فالظَّاهرة مثل أن يأتي الحديثُ مُرسَلًا، فيروي التَّابعي عن رسول الله، فهذا أمرٌ يحتاج لبحثٍ؟ فهذا تابعيٌّ يروي عن الرسول الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- ونحن بالضَّرورة نعلم أنَّ التابعي لم يُدرِك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إذن الإسناد غير مُتَّصل، وعليه فليس هو بصحيحٍ.
وكأن يكون عندنا راوٍ كذَّاب في الإسناد، أو راوٍ سيئ الحفظ وضعيف تفرَّد بالحديث؛ فيكون الحديثُ ضعيفًا، لكن عندنا راوٍ ثقة روى حديثًا بإسنادٍ ظاهره الاتصال، إذن ليس فيه خللٌ واضحٌ، وليس فيه قادحٌ واضحٌ، وليس فيه سببٌ واضحٌ يُوجِب عليك أن تقدح في الحديث، ومع ذلك يقول العلماءُ: هذا غلطٌ، فالحديث خطأ. كيف؟ هذا عملنا.
فأنت حين تذهب للطبيب فيقول لك: أنت مريض بمرض كذا، هل تقول له: كيف؟ اذهب وتعلَّم الطب مثله.
فهذا عالِمٌ نِحْرِير، عالم جَهْبَذ، أفنى عمره في الحديث، وأنت تريد أن تأخذ منه الخلاصة!
وليس معنى ذلك أنَّ العلماء يبنون أحكامَهم هذه على التَّخمين، ولا على الكشف؛ لا، فعندهم علمٌ وعندهم أصولٌ وعندهم براهين، لكن تلك الأصول والبراهين قد لا يفهمها عامَّة الناس، فمن الممكن أن يشرح لك العالمُ العِلَّة، وبعدما يشرحها لك لا تفهمها أيضًا؛ لأنَّك لا تعرف الأسبابَ التي تستوجب الإعلالَ، والأصول والأسس والقواعد التي عليها يُعَلُّ الحديثُ، فلابُدَّ أن تدرس ما درسوه.
مثل الذي جاء إلى الإمام أبي حاتم الرَّازي ومعه كتابٌ فيه أحاديث وسأله عن تلك الأحاديث، فقال له الإمام: هذا حديثٌ مُنكَرٌ، وهذا حديثٌ باطلٌ، وهذا لا أصلَ له، وهذا موضوعٌ، وباقي الكتاب أحاديثه صحيحة. فتعجَّب الرجلُ: كيف عرفها؟! وقال له: أأخبرك صاحبُ هذا الكتاب أنَّ هذا باطل، وأنَّ هذا مُنكَر، وأنَّ هذا موضُوع، وأنَّ هذا لا أصلَ له، وأنَّ الباقي صحاح؟ قال: لا، أنا لا أعرف أصلًا صاحب هذا الكتاب ولا مَن رواه. قال: أتدَّعي الغيبَ؟ قال: ما هذا ادِّعاء غيبٍ، ولكن هذا علمٌ علَّمنيه الله -عز وجل- أي نحن طلبنا العلم من بابه وأخذناه عن الشيوخ وأفنينا فيه أعمارنا؛ فبطبيعة الحال لابُدَّ أن نُدرِك ما لا يُدرِكه عامَّةُ الناس. فقال: وما الدليل على ما تقول؟
اليوم من الممكن أن يقول لك أيُّ واحدٍ: نريد الدليلَ يا شيخ على أنَّ هذا الحديثَ ضعيفٌ. طيب أنا من الممكن أن آتي لك بدليلٍ ولا تفهمه أيضًا، فمن الممكن أن آتي لك بالدليل على صحته والدليل على ضعفه، وستقتنع بهذا وستقتنع بهذا.
لكن الإمام أبا حاتم كان ذكيًّا، فخاطب السَّائل على قدر ما يفهم، فلمَّا قال له: ما الدليل على ما تقول؟ قال: الدليل أن تذهب إلى من رُزِقَ هذا العلم مثلي وتسأله عن مثل ما سألتني عنه، فإن أجاب بمثل جوابي فاعلم حقيقة هذا العلم، وإن اختلفنا فاعلم أنَّ كلًّا قال باجتهاده.
وهذا أحسن دليلٍ يفهمه مثل هذا العامي. لماذا؟
لأنَّك أنت نفسك حين تذهب للطبيب وتشُكّ في الوصفة وفي التَّشخيص وفي العلاج، ماذا تفعل؟ أتسأل طبيبًا آخر، أم تذهب فتدرس الطبَّ حتى تعرف الوصفة؟ تلقائيًّا تذهب فتسأل واحدًا ثانيًا لتطمئن.
فقال: ومَن يفهم مثلما تفهم؟ ومن يُحسِن مثلما تُحْسِن؟ قال: أبو زُرعة الرازي. قال: أويقول أبو زُرعة مثلما تقول؟ قال: نعم. قال: سبحان الله! تعجَّب.
فذهب إلى أبي زُرعة الرَّازي وسأله عن نفس الأحاديث، ولم يذكر له أنَّه سأل أبا حاتم الرَّازي، فإذا بأبي زُرعة يُجيب بمثل جواب أبي حاتم الرَّازي، فقال الرجل: سبحان الله! تتفقان من غير مُواطأةٍ بينكما! أي من غير اتِّفاقٍ.
فرجع إلى أبي حاتم الرازي وقال له ما قاله أبو زرعة في تلك الأحاديث، فقال له أبو حاتم: ذلك حتى تعلم حقيقة هذا العلم. ثم أخذ يشرح له ذلك، فضرب له مثالًا فقال: لو أنَّك جئتَ مثلًا بقطعةٍ من الزُّجاج وقطعةٍ من الجوهر، فهذه وهذه شكلها واحد، وأنا نفسي من الممكن أن أغترَّ، ومن الممكن أن تلمع الزجاجةُ أكثر، فأقول: ما شاء الله، من المؤكد أنَّ هذه أغلى من هذه. لكن إذا ذهبتَ إلى المُتخصِّص في الجواهر يُميِّز لك الحقيقي من المُزَيَّف.
مثل العُمْلَة -كالجُنيه والدُّولار والرِّيال وهكذا- فأنا كشخصٍ ليس لدي خبرة بالتَّعامل في هذه الأوراق من الممكن أن يختلط عليَّ الأمرُ، وأظنّ الورقة المُزَوَّرة صحيحة، والصَّحيحة أظنُّها مُزَوَّرة، مَن الذي يفهم هذا؟ الصَّرَّاف الذي طوال عمره يعمل في الفلوس، ويده تعوَّدت، وصار عنده حاسَّة، أو خبرة، فهذه هي الخبرة.
مثل الأطباء: فهناك طبيب تدخل عليه فتقول: يا دكتور، أنا عندي كذا وكذا وأشعر بكذا، فينظر في وجهك ويقول: ليس عندك شيءٌ، خُذْ عسلًا وليمونًا وهكذا.
هل معنى الخبرة أنَّه لا توجد أصولٌ ولا توجد قواعدُ؟ ولا توجد أُسسٌ؟
لا، هذه القواعد وتلك الأسس موجودة، ولكنَّها ترتقي وتزيد وتنمو بالخبرة والمُمارسة والمُدارسة وكثرة البحث والتَّنقيب.
فلأجل هذا قالوا: العِلَّة لابُدَّ أن تكون خفيَّةً، فلا يطَّلع عليها إلا كبار الأئمَّة.
وأن تكون قادحةً، فنحن قلنا قبل ذلك: ليس كلُّ تفرُّدٍ يكون سببًا لإعلال الحديث، ولا كلّ اختلافٍ يكون سببًا لإعلال الحديث، إنَّما التَّفرُّد الذي اقترنت به القرائن التي تُرجِّح جانب الخطأ على جانب الصواب، والاختلاف المُؤثِّر الذي يدلُّ على خطأ مَن خالف غيره من الثِّقات أو الحُفَّاظ.
فهذه هي العِلَّة، والعِلَّة تقع في الأسانيد وتقع في المتون، وبصورٍ كثيرةٍ، فمنها القلب، ومنها الإدراج، وغير ذلك مما يعرفه العلماءُ المُتخصِّصون.
ثم ذكر بعد ذلك نوعًا هو أيضًا من الأنواع التي تندرج تحت باب العِلَّة، وهو ما يُسمَّى عند العلماء بـ(المُضْطَرِب)، فقال:
وَذُو اخْتِلافِ سَنَدٍ أَوْ مَتْنِ *** مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَنِّ
أي عند أهل العلم والفن، ما هو المُضْطَرب؟
نحن قلنا: من دلائل العِلَّة الاختلاف، وقلنا أيضًا: ليس كلُّ اختلافٍ يكون قادحًا في الرِّواية، ولا مُوجبًا لإعلالها.
طيب، متى يكون هذا الاختلاف قادحًا؟
عندما يكون مُؤثِّرًا، كأن يُخالف الراوي الأحفظ، أو يُخالف الراوي الأكثر عددًا.
هناك صورة من صور الخلاف يكثر استعمال العلماء لفظ (المُضْطَرِب) عليها، وذلك إذا كان الاختلافُ من راوٍ على نفسه.
وطبعًا نحن هنا -كما قلنا من قبل ونحن نشرح البيقونية- نذكر أشهر الصور والتَّعريفات، وإلا فالباحث المُتخصِّص يعرف أنَّ هناك أقوالًا كثيرةً جدًّا وتفريعات وصورًا أخرى، لكن نذكر الصورة الواضحة البيِّنة التي لا يكاد يُهمِل ذكرها واحدٌ من أهل العلم.
هناك اختلافٌ يكون من عددٍ من الرواة، وهناك اختلافٌ يكون من راوٍ على نفسه، كيف؟
عددٌ من الرواة كما قلنا: راوٍ خالف غيره. فعندنا حديث يرويه الزُّهري عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مُرسَلًا، والزُّهري تابعيُّ، فإذن روايته عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- من قبيل المُرسَل.
فوجدنا عددًا ممن يروون الحديثَ عن الزُّهري عن رسول الله مُرسَلًا، ووجدنا رجلًا واحدًا يرويه عن الزُّهري عن سعيد بن المُسيب عن أبي هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بالإسناد المُتَّصل، إذن هذا الراوي خالف، خالف مَن؟ خالف عددًا من أصحاب الزُّهري؛ لأنَّ أصحاب الزُّهري إنَّما رووا الحديثَ عن الزُّهري مُرسَلًا، بينما هو يرويه عنه موصولًا، فهنا الخطأ بيِّن، والاختلاف واضحٌ، فواحدٌ خالف الجماعة، وهذا الواحد قد يكون في الأصل من حيث الحفظ أقلّ حفظًا من أفراد هذه الجماعة، فخالف الأحفظَ الأكثر عددًا.
لكن هناك خلافٌ من راوٍ على نفسه، كيف؟
راوٍ واحد روى حديثًا واحدًا أكثر من مرةٍ، وكلّ مرةٍ يرويه على شكلٍ آخر، فهو نفسه يروي الحديثَ مرةً مُرسَلًا، ومرَّةً موصُولًا، ومرةً مرفُوعًا، ومرةً موقوفًا، ومرةً يزيد شيئًا في المتن، ومرةً ينقص، ومرةً يُقدِّم، ومرةً يُؤخِّر.
فالراوي نفسه روى الحديثَ أكثر من مرةٍ، وفي كلِّ مرةٍ يُغيِّر في الرِّواية، وهذا يدلُّك على أنَّه لم يُتْقِن حفظ الحديث؛ لأنَّ اضطرابه هكذا وتردده في الرِّواية دليلٌ على عدم إتقانه لهذه الرواية، فهذا نُسميه راوٍ مُضْطَرِب الحديث، لا يثبت على قولٍ واحدٍ، وإنَّما يروي الحديثَ مرةً على وجهٍ، ومرةً على وجهٍ.
إذن الاضطراب هنا من راوٍ على نفسه، فهو الذي اضطرب على نفسه ولم يُخالِف أحدًا، ولم يُخالفه أحدٌ. فهذا نُسميه المُضْطَرب.
فالاضطراب الأول: أن يُخالف الراوي الجماعة، عنصر المخالفة البينة التي تُؤثِّر ولا يمكن معها التوفيق بين رواية هذا الراوي ورواية غيره؛ فنلجأ إلى الحكم للحديث بالاضطراب، ونحكم حينئذٍ بأنَّه من قسم الضَّعيف.
كذلك إذا اضطرب على نفسه ولم يكن لاضطرابه هذا وجهٌ، فبعض الرُّواة قد يكون من المُكثِرين في رواية الحديث، فقد يكون له أكثر من سندٍ للحديث، وهذا واردٌ.
مثل الزُّهري، وشُعبة، وسُفيان الثَّوري، ومالك بن أنس، والحُفَّاظ الكبار الذين قد يُحتَمَل من مثلهم أن يأتوا للحديث الواحد بأكثر من إسنادٍ؛ لكثرة ما سمعوا من الأحاديث.
لكن واحد لا يُعرَف بهذا، فلا يُعرَف بكثرة السَّماع، ولا بالرِّحلة في طلب الحديث، ولا بكثرة الطَّوفان في البلدان لسماع الأحاديث بأكثر من إسنادٍ؛ فأنَّى لمثل هذا أن يروي المتن الواحد بأكثر من إسنادٍ؟! إنَّ هذا ليدُلّ دلالةً واضحةً أنَّه لم يُتقِن حفظ الحديث، وإنَّما أخطأ فيه.
ثم يأتي نوعٌ آخر وهو (المُدْرَج)، يقول:
وَالمُدْرَجَاتُ فِي الحَدِيْثِ مَا أَتَتْ *** مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّواةِ اتَّصَلَتْ
نحن قلنا: القلب صورةٌ من صور المُعَلَّل، وصورةٌ من صور الأخطاء التي تقع في الروايات، فكذلك الإدراج صورةٌ من صور الأخطاء، فإذا كان القلبُ إنَّما هو صورة راجعة إلى الإبدال والتَّغيير، فالإدراج صورة راجعة إلى أنَّ الراوي يزيد في الرواية ما ليس منها.
وَكُلُّ إِسْنَادٍ وَمَتْنٍ يُدْمَجُ *** مِنْ غَيْرِهِ بِهِ فَهَذَا المُدْرَجُ
يُدخِل في الرِّواية شيئًا ليس منها، حتى وإن كان هذا الشيء مرويًّا في روايةٍ أخرى، لكن في هذه الرواية تحديدًا لا يُعرَف. كيف يكون ذلك؟
أحيانًا يكون الحديثُ عبارةً عن كلامٍ للرسول -عليه الصلاة والسلام- وبعد أن رواه الراوي قال الراوي نفسه كلامًا من قِبَل نفسه؛ استنباطًا من الحديث، وتفريعًا على الحديث.
فيأتي بعضُ الرواة فيجعل الكلامَ كله -سواء منه ما كان عن رسول الله أو عن الصحابي- من كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مثل حديث أبي هريرة: «إِنَّ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَومَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ». "فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل".
فقوله: "فمَن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل"، هو أصلًا من كلام أبي هريرة -رضي الله عنه- قاله بعقب الحديث، فبعد أن انتهى من رواية الحديث أراد أن يحُثَّ الناسَ على العمل بالحديث بحسب ما فهمه هو من الحديث فقال: "فمَن استطاع منكم أن يُطيل غرَّته فليفعل".
قال العلماءُ: هذا كلام أبي هريرة، وأخطأ مَن جعله من جملة كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
وعندنا الحديث الطَّويل -حديث أم المؤمنين عائشة- الذي يرويه الزُّهري عن عُروة بن الزبير عن عائشة: "أول ما بُدِئَ به رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من الوحي الرُّؤيا الصَّالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُّبح، ثم حُبِّب إليه الخلاءُ، فكان يخلو بغار حِرَاء فيتحنَّث فيه -وهو التَّعبُّد- الليالي ذوات العدد".
فقوله: "وهو التَّعبُّد" هذا ليس من كلام عائشة أم المؤمنين، إنَّما قاله الزُّهري أثناء روايته للحديث وهو يشرح كلمة "التَّحنُّث" الواردة في كلام عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- فكأنَّ عائشة قالت: "فيتحنَّث فيه اللَّيالي ذوات العدد". فالإمام الزُّهري ماذا فعل؟ جاء بجملةٍ اعتراضيةٍ فقال: "وهو التَّعبد" حتى يشرح التَّحنُّث، فكأنَّه يقول: التَّحنُّث هو التَّعبد. فهذا ليس من قول عائشة، فقوله: "وهو التَّعبُّد" هو من قول الزُّهري، وليس من قول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها.
رأيت الدِّقة المُتناهية عند المُحدِّثين -رحمهم الله تعالى- فهي دقَّة ما بعدها دقَّة، فهم يفصلون كلامَ الراوي من كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ويفصلون كلام التابعي من كلام الصحابي؛ حتى لا يُنسَب قولٌ إلى غير قائله.
ومثل حديث أبي هريرة أيضًا -رضي الله عنه- أنَّه رأى قومًا يتوضَّؤون ولا يُحسِنون الوضوء، فقال لهم: "أسبغوا الوضوءَ فإني سمعتُ أبا القاسم -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ»". إذن ما هو كلام الرسول؟ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».
فجاء أحدُ الرواة فقال عن أبي هريرة أنَّه قال: سمعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «أسبغوا الوضوء، وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ». فجملة "أسبغوا الوضوء" هي من قول أبي هريرة، وليست من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد تكون ثابتةً عن رسول الله في حديثٍ آخر، كما في صحيح مسلمٍ من حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص، لكنَّها في حديث أبي هريرة هي من قول أبي هريرة نفسه، وليست من قول رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
نكتفي بهذا القدر، ونُكمِل -إن شاء الله تعالى- ما تبقى من أبيات المنظومة في اللِّقاء القادم، فمَن كان عنده سؤالٌ فليتفضَّل به.
{أليس من الممكن أن يكون الحديثُ صوابًا عن الرَّاويين، وليس أحدُهما مقلوبًا عن الآخر؟}
تُريد أن تقول أننا في المقلوب قلنا: إنَّ الراوي أبدل راويًا بآخر، فما المانع أن يكون الاثنان من الرواة رووا الحديثَ؟ ألا يمكن أن يكون هذا رواه وهذا رواه أيضًا؟ فلماذا نقول أنَّ الأول هو الذي رواه والآخر لم يروهِ؟ هل هذا واردٌ أم ليس بواردٍ؟
واردٌ، ولكن عند العلماء شيء اسمه: احتمالٌ ضعيف، واحتمالٌ قوي.
فالعلماء حينما يقولون: هذا خطأ والصواب رواية الأول. يقولون ذلك بناءً على أدلَّةٍ وبراهين، فإمَّا أنَّ رواية هذا الراوي التي حُكِمَ بخطئها وأنَّه ليس من رواة هذا الحديث قد جاءت بإسنادٍ ضعيفٍ إليه؛ إذن لم يصح أنَّ الراوي الآخر روى الحديث.
أو ثبت بدليلٍ آخر أنَّ هذا الراوي نفسه الذي زُعم أنَّه من رواة هذا الحديث إنَّما يرويه بسندٍ آخر، أو يرويه عن الرجل الأول، فإذا بالرواية وقعت خطأً، بينما الراوي يرويه عن الراوي الأول، فإذا به يرويه على أنَّه مُوافِقٌ للراوي الأول.
فلها أدلة وبراهين.
فلابُدَّ أن تفهموا -أيُّها الإخوة- أنَّ علماء الحديث عندما يتناولون القضايا الحديثية والأحكام على الأسانيد والمتون لا يتكلَّمون عما يمكن أن يقع، إنَّما يتكلمون عمَّا وقع بالفعل، ومعلومٌ أنَّه ليس كلُّ ما يجوز عقلًا يجوز في الواقع، أليس كذلك؟
فمثلًا العرب حينما تأتي (كان وأخواتها) ماذا يعملون في المبتدأ؟ وماذا يعملون في الخبر؟ يرفعون المبتدأ وينصِبون الخبر، طيب، لماذا لا يعملون العكس؟ ألا يمكن أن يعملوا العكس؟ لم يعملوا، فنحن حينما ندرس اللُّغة العربية ندرس اللغة التي نطق بها العربُ بالفعل، وليس التي يُمكن أن يكون العربُ قد تكلَّموا بها.
كذلك أيضًا نحن ندرس الرِّواية التي وقعت بالفعل، فنُحرر ونُحقق من خلال هذه العلوم والقواعد والأُسس الرِّواية التي وقعت بالفعل، لا التي يمكن أن تكون قد وقعت.
تفضَّل.
{هل يُشترط أن تُوصَف العِلَّة بأنَّها قادحةٌ أم أنَّ كلَّ علَّةٍ تقدح؟}
لا، ليست كلُّ علَّةٍ تقدح، أي ليس كلُّ اختلافٍ في الرواية يقدح، ولا كلّ تفرُّد يقدح -كما أشرنا إلى ذلك آنفًا- لكن العلماء يُعِلُّون بالتَّفرُّد ويُعِلُّون بالاختلاف حيث يترجَّح لديهم أنَّ هذا التَّفرُّد غير مُحتَمَلٍ في هذا الحديث، فلا يُقبَل من مثل هذا الراوي الذي جاء بالحديث مُتفرِّدًا به، أو أنَّ هذا الاختلاف اختلافٌ واضحٌ بيِّنٌ يدلُّ على خطأ مَن خالف الجماعة أو خالف الأحفظ، والعِلَّة إذا كانت على هذا النَّحو فهي قادحةٌ، حتى وإن لم يُسمِّها العالمُ قادحةً.
واعلم أنَّ علماء الحديث إذا أعَلُّوا حديثًا وحكموا بخطأ الراوي فيه؛ فهم إنَّما أعلُّوا الحديثَ وخطَّؤوا الرَّاوي بناءً على سببٍ يرونه قادحًا ومُوجبًا للحكم على خطأ ذلك الراوي في تلك الرِّواية، وليس كلُّ اختلافٍ عند العلماء يُسمَّى عِلَّة، ولا كلّ تفرُّدٍ عندهم يُسمَّى علَّة.
عندنا سؤالٌ من الإخوة الذين أرسلوا لنا على الإيميل يقول:
{إذا كان هناك حديثٌ نازلٌ لكن رواته أوثقُ من الحديث العالي، فأيّهما نُقدِّم؟}
لا شكَّ أنَّ الأصح والأوثق هو المُقدَّم، لكن قضية العُلو قضية أخرى، أي نقول: هذا نازلٌ ولكنَّه صحيحٌ أو أصح، وهذا عالٍ أو أعلى ولكنَّه أقلّ صحة.
لكن إذا كان العالي من رواية الكذَّابين والمتروكين؛ فهذا لا ينفع أصلًا، وهذا عُلوٌّ لا معنى له.
سبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد ألا إلهَ إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
http://islamacademy.net/cats3.php