مادة شرح متن البيقونية
لفضيلة الشيخ/ طارق عوض الله
الدرس (7)
إنَّ الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد:
تكلَّمنا في اللِّقاء الماضي عن بعض أنواع علوم الحديث من خلال شرحنا للمنظومة البيقونية، وذكرنا فيما ذكرناه من أنواعٍ أنَّ هناك من أنواع علوم الحديث أنواعًا تتعلق بقضية الاتصال وعدمه، أي كون إسناد الرواية مُتَّصلًا أم ليس مُتَّصلًا.
وقد ذكرنا المُرسَل وهو: ما يرويه التابعيُّ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
وقلنا أنَّ التابعي لم يُدرِك رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فبالضَّرورة هو لم يسمع ذلك الخبر من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وعليه: فالحديث بهذا الوضع لا يكون مُتَّصلًا، فقد وقع فيه سقطٌ.
كذلك ذكرنا المنقطع الذي سقط فيه من أثناء الإسناد رجلٌ واحدٌ.
وذكرنا المُعْضَل وهو: ما سقط من أثناء الإسناد رجلان على صفة التوالي، يعني الراوي وشيخه معًا.
هذا السَّقط الذي يقع في الأسانيد أحيانًا يكون واضحًا جليًّا، ظاهرًا بيِّنًا، يعرفه صغارُ الطلبة كما يعرفه العلماءُ المُتخصِّصون، يعني كون التابعي يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا لا يحتاج إلى عالمٍ مُتخصصٍ لكي يُدرك أنَّ هذا من قبيل السَّقط في الإسناد، وأنَّه ليس من المُتَّصل؛ لأنَّ الطالب المُبتدئ يعلم أنَّ التابعي لم يُدرِك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإذا ما روى التابعيُّ عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- مباشرةً يُفهَم تلقائيًّا أنَّ هناك واسطةً أو أكثر سقطت بين هذا التابعي ورسول الله -عليه الصلاة والسلام.
إذن من خلال معرفتنا بالتاريخ وطبقات الرواة وتاريخ الولادة والوفاة؛ نستطيع أن نعرف أنَّ هذا الإسناد ليس مُتَّصلًا.
لكن هناك من أنواع علوم الحديث ما يكون أيضًا من أبواب السَّقط في الإسناد، ولكنَّ إدراكه دقيقٌ وخفيٌّ وغامضٌ لا يعرفه إلا العلماء المتخصصون، يعني النتيجة واحدة، فهذا إسنادٌ ليس مُتَّصلًا، كما أنَّ المنقطعَ والمُرسَلَ والمُعْضَل أيضًا ليس مُتَّصلًا، ولكن بعض مَن ليس مُتَّصلًا يُدرِكُ عدم اتِّصاله العالمُ وغير العالم عن طريق النَّظر في التاريخ، فالتابعي تاريخيًّا لم يُدرِك رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا لا يحتاج إلى توغُّلٍ في البحث، ولا توسُّعٍ في التَّفتيش والتَّنقيب؛ وإنَّما ذلك يُدرِكه صغارُ الطلبة كما يُدركه العلماءُ المتخصصون.
هناك أيضًا بعض صور السَّقط من الإسناد لا يُدركها إلا العلماء المتخصصون المُتبحرون في هذا العلم. لماذا؟ لأنَّ ظاهر الإسناد يُوهِم أنَّ الراوي أدرك شيخه.
تذكرون أيضًا في اللِّقاء الماضي لما تكلَّمنا عن العنعنة، وقلنا: يقصد العلماءُ بقولهم "العنعنة" الإشارة إلى مسألةٍ بعينها، حيث يكون الراوي قد عاصر الشيخ.
إذن المُعاصرة موجودة، والتاريخ هنا لا يُسعفنا في معرفة الولادة والوفاة، فلا نهتدي بذلك إلى معرفة كون الرواية وقع فيها سقطٌ؛ لأنَّ الراوي عاصر شيخه، كأن يكون عاصره عشر سنين، أو عشرين سنة، أو ثلاثين سنة.
فإذن الاشتراك في العصر الزمني موجودٌ، فمن حيث التاريخ كلاهما قد وُجِدَ في زمانٍ واحدٍ؛ بل قد قلنا أيضًا: قد يكون الراوي التقى فعلًا بشيخٍ، فصلى خلفه، أو دخل عليه؛ ولكنَّه مع ذلك لم يسمع منه، ونحن قلنا سابقًا: ليس كلُّ مَن أدرك شيخه أو التقى به يلزم أن يكون قد سمع منه، فقد يكون قد دخل عليه والتقى به وهو صغير السن، كما قالوا في إبراهيم النَّخعي، حيث قالوا: إنَّه دخل على عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- لكنَّه لم يسمع منها. لماذا؟ لأنَّه دخل عليها وهو صغيرٌ، فدخل عليها كما يدخل الصِّبيان على النِّساء، ولم يكن يشغله العلم وقتئذٍ، فالدُّخول واللِّقاء تحقق أم لا؟ تحقق. لكن هل سمع من عائشةَ حديثًا ترويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم؟ لا.
فإذن وجود اللِّقاء بين التلميذ والشيخ لا يلزم منه وجود السماع، بل إنَّ العلماء يقولون: قد يسمع الراوي من شيخه أحاديث معينةً، ولكنَّه لم يسمع كلَّ ما يرويه عن ذلك الشيخ، فقد يكون قد حصل اللِّقاء بالفعل، وحصل السماع أيضًا، ولكن سمع من شيخه حديثين أو ثلاثة، ومع ذلك هو يروي عنه أكثر من ذلك.
إذن نفهم من ذلك: أنَّه فيما لم يسمعه من شيخه حيث رواه عن شيخه هو من قبيل المنقطع أم المُتَّصل؟ رجل التقى بشيخه وأخذ عنه وسمع منه خمسة أحاديث، وهو يروي عن شيخه عشرة أحاديث، إذن تلك الخمسة الأخرى هل هو سمعها من شيخه؟ لم يسمعها، إنَّما السماع والاتِّصال للخمسة الأولى.
إذن نفهم من ذلك: أنَّ هذه الخمسة الأخرى التي لم يسمعها من شيخه لا يُحكَم باتِّصالها، وليس لها حكم الاتِّصال رغم أنَّ الراوي سمع من شيخه أحاديث قليلة غير تلك الأحاديث التي رواها عن شيخه من غير سماعٍ، كأن يكون سمع من شيخه هذه الأحاديث الخمسة الأولى، والأحاديث الأخرى أخذها عن رجلٍ عن شيخه، ثم أسقط ذلك الرجل الذي بينه وبين شيخه، وارتقى بالحديث إلى شيخه مباشرةً من غير أن يذكر أنَّه لم يأخذ ذلك ولم يسمع ذلك من شيخه.
إذن هذه الاحتمالات كلها موجودة، إمَّا أنَّه عاصر ولم يلتقِ، أو التقى ولم يسمع، أو سمع قليلًا وهو يروي كثيرًا.
في خِضَمِّ هذه الاحتمالات يقع عدم الاتصال في بعض الروايات.
طبعًا عندما يكون الراوي قد التقى بشيخه ولم يسمع؛ مَنْ الذي يُدرِك أنَّه مع كونه التقى بشيخه إلا أنَّه لم يسمع؟ هل أنا وأنت أم العلماء الكبار أئمَّة هذا الشأن؟ العلماء الكبار هم الذين يعرفون هذه المسائل الغامضة الدقيقة الخفية.
فأن نعرف أنَّ هذا الراوي سمع الحديث الفلاني، أو لم يسمع الحديث الفلاني، سمع هذا الحديث بعينه من الشيخ، ونفس الشيخ لم يسمع منه بعض الأحاديث الأخرى التي يرويها عن الشيخ نفسه، مَنْ الذي يُدرِك هذا؟ أنا وأنت أم كبار العلماء؟ ولهذا كان إدراكه خفيًّا غامضًا لا يطلع عليه إلا كبار العلماء.
وهذا الغامض الخفي العلماء أفردوه بنوعٍ سموه بـ(التدليس)؛ لأنَّ ظاهر الرواية تُوحي أو تُوهم بالسماع، بينما حقيقتها أنَّها غير مسموعةٍ، فكأن الراوي يُدلِّسُ عليك ويُوهِمكَ خلاف الحقيقة، كما أنَّ البائع قد يُدلِّسُ عليك السلعة التي تريد أن تشتريها، فهو يُوحي إليك ويُوهمك أنَّها ليست معيبةً، وليس فيها أيُّ عيبٍ، فتشتريها أنت وتغترَّ بظاهرها، فنقول: هذا البائع مُدلِّسٌ، كذلك أيضًا راوي الحديث، حيث يروي حديثًا يوحي إليك أو يُوهمك أنَّه سمعه ولم يكن هذا الحديث من مسموعاته، فكأنَّه دلَّس عليك حيث أوهمك خلاف الحقيقة، فلهذا سموا هذا النوع بالتدليس، يقول الناظم في ذلك:
وَمَا أَتَى مُدَلَّسًا نَوْعَانِ:
الأَوَّلُ الإِسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ *** يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ
النوع الأول من التدليس يُسمَّى عند العلماء بـ(تدليس السَّماع)، وبعضهم يُسميه بـ(تدليس الإسناد)، ماذا يفعل الراوي؟ يسمع حديثًا عن رجلٍ عن شيخٍ، وهو إن رواه عن الرجل عن الشيخ؛ هل هناك إشكالية؟ لا توجد إشكالية، لكنَّه ماذا يفعل؟ يُسْقِط شيخه -الذي هو الرجل- الذي بينه وبين الشيخ الأعلى، ويرتقي بالحديث إلى شيخه الأعلى مباشرةً -الذي هو شيخ شيخه- ويرويه عن شيخه مباشرةً من غير أن يذكر الواسطة بينه وبين هذا الشيخ، فيُوهِمك أنَّه سمعه من الشيخ الأعلى، بينما هو في حقيقة الأمر بينه وبين هذا الشيخ الأعلى شيخٌ في الوسط.
هذا الرجل المُدلِّس إذا روى الحديثَ عن الشيخ الأعلى بقوله: "سمعتُ- أو حدَّثنا- أو أخبرنا" سيكون حينئذٍ من باب الكذب، لماذا؟ لأنَّه نسب لنفسه سماع ما لم يسمع، فإلى هنا ليس هناك إيهام، وإنَّما يجزم ويُصرِّح بأنَّه سمع، فهذا ليس من التَّدليس.
والرجل إذا قال: "سمعتُ" وهو لم يسمع، أو قال: "حدَّثنا"، وشيخه لم يُحدِّثه؛ إنَّما حدَّث غيره، أو قال أيَّ عبارةٍ من العبارات التي هي صريحةٌ في السماع وهو في الواقع لم يسمع؛ لا يكون ذلك من باب التدليس؛ وإنَّما هذا من باب الكذب الصريح، وهذا خارجٌ عن موضوعنا.
الذي يفعل هذا -يعني يُصرِّح بالسماع وهو لم يسمع- نُسميه اسمًا آخرًا، ماذا نُسميه؟ سارق، تجد في كتب الرجال: فلان يسرق الحديثَ. فالذي يفتح كتب الرجال -كتب الجرح والتعديل- ويقرأ في تراجم الرواة؛ يجد العلماء يصفون أحد الرواة بأنَّه سارق، يسرق الحديث.
ما معنى يسرق الحديث؟ يعني يدَّعي سماع ما لم يسمع، كيف؟ يعني كأنَّه يأتي إلى أحاديث غيره فيَدَّعيها لنفسه، فيصنع كما يصنع السَّارق، فيأخذ ما هو لغيره، ما يمتلكه غيره ويدَّعيه لنفسه، أليس السارق يفعل هذا؟ فكذلك سارق الحديث، يعمد إلى أحاديث لم يسمعها، فهي ليست من أحاديثه، ولا هي من مسموعاته؛ إنَّما هي أحاديث رواةٍ آخرين، فإذا به يأخذها عنهم ويدَّعي هو أنَّها أحاديثه التي سمعها من الشيخ الأعلى، فلأجل هذا نُسميه سارقًا، وهذا ضربٌ ونوعٌ من أنواع الكذب لا علاقةَ له بالتَّدليس.
طيب، ماذا يفعل المُدلِّس؟
المُدلِّس يأتي بألفاظٍ تُوهِم السماعَ ولا تقتضيه، فتُوهِم السماع وليست صريحةً فيه، مثل ماذا؟
مثلما قال الناظم:
................... بِعَنْ وَأَنْ
بـ" عن"، و"أن". يعني يأتي الراوي فيقول: عن فلان، ويذكر الشيخ الأعلى، فحين يقول: "عن" هل هو قال: أنا سمعتُ؟ ما قال: أنا سمعتُ. فلم يقل هذا، ولا قال: أنا لم أسمع. إنَّما استعمل لفظة "عن" التي تُستعمل أحيانًا في السماع وأحيانًا في غير السماع، فصار اللَّفظ محتملًا يحتمل السماع وعدم السماع، من أجل هذا كان مُوهِمًا.
مثل واحد اليوم يقول: قال الشيخُ الألباني. قال الشيخ ابن باز. قال الشيخ العثيمين -رحم الله الجميع- فالجالسون إذا لم يعرفوا حقيقةَ الأمر يتوهَّمون أنَّه التقى بهؤلاء جميعًا، هل هو قال: أنا التقيتُ بهم؟ هل هو ادَّعى ذلك؟ لكن قال هؤلاء. وقد يكون أخذ هذه الكلمة التي يعزوها إلى هؤلاء من بعض كتبهم، أو سمعها في بعض ما سُجِّلَ عنهم، أو أخذها عن بعض مَن لازم هؤلاء الشيوخ، لكنَّه حينما قال: "قال الشيخ الفلاني". أوهم السامعَ أنَّه التقى بهؤلاء الشيوخ وأخذ عنهم، والواقع خلاف ذلك.
إنَّما يستعمل مثل: "عن- وأن- وقال"، وهذه الألفاظ هي أشهر الألفاظ التي تُفيد الإيهام بالسماع.
"أن"، مثل أن يأتي فلانٌ ويقول: "أن فلانًا قال". هل هو قال: أنا سمعت؟ ما قال. هل قال: أنا لم أسمع؟ ما قال. وإنَّما استعمل لفظًا يحتمل السماع وعدم السماع، فنقول هنا هذا مُدَلِّس؛ لأنَّه لم يُعطنا لفظًا واضحًا بيِّنًا يُبيِّن حقيقة الأمر، فأوقعنا في الحيرة.
لكن إذا قال: "سمعت"، وهو سمع، فلا إشكال، وإذا قال: "سمعت" وهو لم يسمع يكون سارقًا كذَّابًا.
وإذا قال: "حُدِّثت"، أو "أُخْبِرْت"، أو "أُنْبِئْتُ" أو "بلغني عن فلانٍ أنَّه قال كذا وكذا"، هنا هل هذا يُعتبر لفظًا صريحًا في السماع؟
لا.
فهل يُعتبر لفظًا مُحتملًا؟
لا.
فهل هو لفظٌ صريحٌ في عدم السماع؟
نعم. فعندما يقول: "بلغني" أفهم منها أنَّ هناك مَنْ أبلغه، وعندما يقول: "حُدِّثتُ" فهناك مَنْ حدَّثه، "أُخبرتُ"، فهناك مَنْ أخبره، "أُنبِئْت" فهناك مَنْ أنبأه، ولهذا نحن نُقسِّم تلك العبارات إلى ثلاثة أقسام:
1- قسمٌ منها صريحٌ في السماع: مثل: "حدَّثنا- وسمعتُ- وأخبر"، فهذه إذا استعملها الراوي وهو قد سمع بالفعل؛ فالحديث مُتَّصلٌ، وإذا لم يسمع؛ يكون سارقًا كاذبًا.
2- ألفاظٌ صريحةٌ في عدم السماع: مثل: "حُدِّثتُ- أُخبِرتُ- أُنبِئتُ- بلغني"، فهذه إن استعملها الراوي فهي كالنَّصِّ منه بأن الحديث مُنقطعٌ وليس فيه اتِّصالٌ.
3- وهناك ألفاظٌ تحتمل الأمرين: السماع وعدم السماع، مثل: "عن- وأن- وقال"، فهذه العبارات تارةً تُستعمل في السماع، وتارةً تُستعمل في غير السماع.
انتبه: ولا نقصد هنا أيَّ راوٍ، فلا يأتي واحدٌ فيقول: الإمام سفيان بن عُيينة قال "عن"، والإمام الثوري قال "عن"، والإمام شُعبة بن الحجاج قال "عن". لا، ليس أيّ عنعنةٍ تتوقَّف فيها وتُعاملها معاملة التَّدليس، إنما نقول ماذا؟ مَنْ عُرِفَ عنه أنَّه يستعمل تلك الألفاظ المُحتملة حيث لم يسمع -يعني في موضع عدم السماع- حينئذٍ نعتبره مُدَلِّسًا ونُعامله معاملة المُدلِّس.
إذن لابُدَّ أن يكون الراوي معروفًا باستعمال هذه الألفاظ المحتملة في غير السماع، ما معنى معروفًا؟
يعني يستعمل ذلك كثيرًا، فكثيرًا ما يقول: "عن- قال- أنَّ" وهو لم يسمع.
إذن عرف العلماءُ بتتبع رواياته وبمعرفتهم بهذا الرجل وبمذهبه في الرواية وبشأنه فيها أنَّه كثيرًا ما يفعل ذلك؛ حينئذٍ يتعاملون معه معاملة المُدلِّس، وكيف يتعاملون مع المُدَلِّس؟
يقولون: إذا استعمل لفظًا مُحتملًا مثل: "عن- وأنَّ- وقال"؛ نتوقَّف في روايته.
انتبه إلى التعبيرات العلمية: نتوقَّف. ما معنى نتوقَّف؟
يعني لا نجزم بالصحة، ولا نجزم بالضَّعف، وإنَّما معنى التَّوقُّف أننا نبحث أكثر، فلا نُبادر إلى الحكم بالاتِّصال، ولا نُبادر إلى الحكم بعدم الاتِّصال؛ فالعنعنة ليست صريحةً في الاتِّصال، وليست صريحةً في عدم الاتصال، وإنَّما هي تحتمل الأمرين، فكلُّ مَنْ عُرِف عنه التَّدليس إذا استعمل مثل هذه الألفاظ المُحتملة؛ فنحن لا نجزم بأنَّه سمع، أو أنَّه لم يسمع حتى نتوسَّع في البحث، ونتوسَّع في النظر في الرِّوايات لعلَّ النظر في باقي روايات هذا الحديث يُبيِّن لنا هل هذا الراوي الذي عُرِفَ عنه التَّدليس واستعمل في هذا الموضع تلك الألفاظ المُحتملة سمع أم لم يسمع؟ فقد يتبيَّن ذلك من خلال رواياتٍ أخرى، ولهذا قلنا: نتوقَّف.
ثم بعد التوقُّف ماذا نفعل؟
نتوسَّع في البحث، وننظر في بقية روايات الحديث التي يرويها هذا الراوي نفسه، فإن وجدنا هذا الراوي روى حديثًا في موضعٍ آخر أو في روايةٍ أخرى وصرَّح بالسماع، بماذا نحكم حينئذٍ؟ نقول: الرواية التي جاءت بالتصريح بالسماع مُبيِّنة لما أُجمِلَ في الرواية التي وقعت بألفاظٍ محتملةٍ.
إذن كأنَّ المسألة صارت من باب المُجْمَل والمُبيَّن، كأنَّ الرواية التي استُعمِل فيها اللَّفظ المُحتَمَل من قبيل المُجْمَل، والرواية التي استُعمل فيها اللَّفظ الصَّريح بالسماع من قبيل المُبيَّن، فنحمل هذه الرواية التي جاءت بالعنعنة على الرواية التي جاءت بالتصريح، فنقول: هذه العنعنة في هذا الحديث محمولةٌ على السماع.
نحن قلنا ابتداءً أنَّ العنعنة ليست نصًّا في السماع، وليست نصًّا في عدم السماع، فلما جاءت روايةٌ أخرى وصرَّح فيها الراوي نفسه بالسماع أدركنا أنَّه حيث قال هنا "عن" قالها مُريدًا الاتِّصال، وأنَّه قد سمع الحديث بالفعل، لكنَّه في موضعٍ قال: "حدَّثنا"، وموضعٍ قال: "عن"، من قبيل الاختصار.
وإذا جاءت روايةٌ أخرى لنفس الحديث لنفس الراوي الذي عُهِدَ وعُرِفَ عنه التَّدليس تبين من خلالها أنَّها غير مسموعةٍ لهذا الراوي، كأن يأتي في روايةٍ أخرى فيقول: "حُدِّثت- أو أُخبِرتُ- أو بلغني- أو حدَّثني رجلٌ" ولا يُسميه، أو يقول: "عن فلان"، فيذكر بينه وبين شيخه الذي روى عنه الرواية الأولى بالعنعنة في روايةٍ أخرى واسطة، أو حتى يُسمِّيه، فيتبيَّن من خلال الراوي الذي ذُكِرَ في الرواية الأخرى بين هذا المُدَلِّس والشيخ الأعلى؛ أنَّ الرواية الأولى التي رواها الراوي الذي عُرِفَ عنه التَّدليس ليست من قبيل المُتَّصل؛ لأنَّ الرواية الأخرى بيَّنت الواسطة التي أسقطها المُدلِّس في الرواية التي وقع فيها الإسقاط.
وطبعًا نحن قلنا في الأول التَّدليس غامض وخفي، ولا يُدركه إلا كبارُ العلماء، لماذا لا يعرف هذا إلا كبار العلماء؟ لأنَّه يحتاج إلى توسُّعٍ في البحث، فلا يُكتفى بالنظر في روايةٍ بعينها، بل لابُدَّ أن نجمع الروايات المختلفة لهذا الحديث، والرِّوايات التي يرويها ذلك الراوي نفسه؛ لأنَّ الراوي لا يروي الحديث مرةً في حياته، فقد يرويه مرةً واثنان وأكثر، فمن خلال هذه الروايات كلها يتبين إن كان الراوي قد سمع الحديثَ أو لم يسمع.
فإذا لم نهتدِ إلى روايةٍ أخرى تُرجِّح جانب الاتِّصال والسَّماع، أو تُرجِّح جانب عدم الاتِّصال والسماع، ماذا نفعل؟
نتوقَّف، وحينئذٍ نقول: نحن نتوقَّف عن الحكم باتِّصال الحديث، ونُعامله معاملة المُنقَطِع، والمُنقَطِع قسمٌ من أقسام الضَّعيف المردود. هذا هو باب التَّدليس في السَّماع المُتعلِّق بقضية سماع الراوي من شيخه.
هناك نوعٌ ثانٍ من التَّدليس يُسمَّى بـ(تدليس أسماء الشيوخ)، وهذا ليس فيه إسقاطٌ، فالراوي لا يُسقِط أحدًا، وإنَّما يتلاعب أو يُغيِّر اسم شيخه، فالمؤلف قال هكذا، قال:
وَالثَّانِي لا يُسْقِطُهُ لَكِنْ يَصِفْ *** أَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لَا يَنْعَرِفْ
هذا نوعٌ من أنواع التَّدليس، وهذا النوع ليس فيه إسقاطٌ، بينما النوع الأول فيه إسقاط راوٍ. وهنا لا يسقط أحدٌ.
إذن لا تعنينا "عن"، ولا "حدَّثنا"، ولا "سمعتُ"، ولا "قال"، ولا "أنَّ" ما دام هو لم يُسقِط أحدًا؛ إذن هذه الألفاظ حينئذٍ تكون بمنزلةٍ واحدةٍ، وإنَّما ماذا يفعل؟ هو يعمَدُ إلى اسم الراوي -وبخاصَّة شيخه- فيُسميه باسمٍ قد يكون اسمًا صحيحًا، ولكن شيخه لا يُعرَف بهذا الاسم، كيف؟ سأقول لك:
مَن يعرف الإمام أحمد بن حنبل؟ كلنا نعرف الإمام أحمد بن حنبل.
بالمناسبة: هو ليس اسمه أحمد بن حنبل؛ وإنَّما اسمه: أحمد بن محمد بن حنبل. فأنت لو قلت: حدَّثنا أحمد بن محمد، فالسامع ماذا سيقول؟ سيقول: مَن أحمد بن محمد هذا؟! ويحتار الناسُ: مَن أحمد بن محمد هذا؟! مَن يقصد؟!
إذن هنا ماذا فعل؟ هل هو سمَّى الراوي بغير اسمه؟ هو سمَّاه باسمه، ولكنَّه سمَّاه باسمٍ لا يُعرَف، غير مشهور، فالناس يعرفون أحمد بن حنبل.
مثلما تقول اليوم: حدَّثنا محمد بن إدريس. فقد يعرف بعضُ طلبة العلم المُجيدين أنَّ محمد بن إدريس هو الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- لكن كثيرًا من الناس لا يعرفون هذا، فلما تقول: حدَّثني محمد بن إدريس. إذن أنت هنا ذكرتَ اسم الشيخ باسمٍ صحيحٍ نعم، ولكنَّه غير معروفٍ به ولا مشهورٍ به.
مثلما تقول: حدَّثنا النُّعمان بن ثابت. مَن النُّعمان بن ثابت؟ فيظهر أنَّه هو الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- فالإمام أبو حنيفة اسمه النُّعمان بن ثابت، لكنَّه مشهورٌ بأبي حنيفة، فكان بعض الرواة يعمد إلى هذا، ماذا يفعل؟ يأتي إلى أحد الرواة فيُسميه باسمٍ صحيحٍ، ولكنَّه غير معروفٍ به؛ ليُغرِبَ على السامعين، فيتوهَّم السامعون أنَّ هذا الشيخ شيخٌ قد سمع من شيوخٍ كثيرين، وقد طاف البلادَ، ودخل البلدان البعيدة وسمع من شيوخٍ لا يعرفهم سواه، فيُوهِم بذلك أنَّه رحل لطلب العلم، وأنَّه طاف البلدان لطلب العلم، وأنَّه أفنى عمره في طلب العلم، فقط بمثل هذه الأشياء؟ ماذا يعمل؟ يُسمِّي الراوي باسمٍ آخر.
وهذا يحصل في كلِّ الأوقات، وفي كلِّ الأزمنة، يعني مثلًا بعض الرواة مثل عبد الله بن سليمان السِّجستاني، مَن سليمان السِّجِسْتَاني هذا؟ ما اسم أبي داود؟ سليمان بن الأشعث السِّجستاني، ما اسم ابنه؟ عبد الله، فكان بعضُ العلماء إذا روى عن عبد الله يقول: حدَّثنا عبد الله ابن أبي عبد الله. فإذا كان هو عبد الله فأبوه أبو عبد الله، لكن لو أراد أن يُسميه على الاسم المعروف يقول: عبد الله بن سليمان بن الأشعث. أو عبد الله ابن أبي داود السِّجستاني. الإمام أبو داود صاحب السُّنن، لكن يقول: حدَّثنا عبد الله ابن أبي عبد الله. فيقول الناسُ: مَنْ عبد الله ابن أبي عبد الله هذا؟ فيظهر أنَّه هو ابن أبي داود السِّجستاني، فيُغرِب على السَّامعين.
مثلما فعل واحدٌ مرةً، حيث جلس في مجلسٍ فقال: حدَّثني ذئب ابن أبي ذئب. وأخذ يروي أحاديث بهذا الشكل: حدَّثني ذئب ابن أبي ذئب. فواحدٌ قال له: إنَّما اسمه محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذئب، وليس ذئب ابن أبي ذئب. وهذا إمامٌ من أئمَّة الحديث المعروفين. فالرجل قال: يا أخي، إذا كان أبو ذئب فهو ذئب، وهل تلد الذِّئاب إلا الذِّئاب؟!
الشاهد: هذا الراوي هل غيَّر اسمَ الشيخ؟ هو لا يُغيِّر، فهو يأتي باسم الشيخ على الحقيقة، ولكنَّه ليس مشهورًا بهذا الاسم، مثل: عندنا راوٍ من الرواة المعروفين المشهورين المُكْثِرين من الرواية، وهو مصري، كان من القُضاة المصريين، واسمه: عبد الله بن لهيعة، وجِدُّه اسمه عقبة، إذن هو عبد الله بن لهيعة بن عقبة، وكلما جاء هذا الراوي في الأسانيد يأتي إمَّا بعبد الله بن لهيعة أو ابن لهيعة.
فجاء واحدٌ من الرواة وأراد أن يُغرِب فقال: حدَّثنا عبد الله بن عقبة. فالناس احتاروا: مَن عبد الله بن عقبة؟ حتى بيَّن لهم ذلك بعضُ العلماء، فقال العلماءُ لهم: هو ابن لهيعة نسبه إلى جده، كما فعلوا في أحمد بن حنبل وقالوا: أحمد بن حنبل، وهو أحمد بن محمد بن حنبل، فنسبه إلى جدِّه؛ ليُغرِب، حتى لا يتبين له ولا يتنبه له السَّامعون من أول وهلةٍ.
وبعض العلماء كان يفعل هذا اختبارًا وتنشيطًا للطلبة، وبعضهم كان يفعل ذلك إيهامًا لكثرة الرواية وطول الرحلة في طلب العلم والحديث، وهذا ما نُسميه (تدليس الشيوخ).
طبعًا في تدليس الشيوخ إذا عرفنا الراوي الذي لُعِبَ في اسمه وعرفنا مَن هو على الحقيقة فلا إشكال، ويُحكَم على الحديث بمقتضى معرفتنا بهذا الراوي، فإن كان هذا الراوي الذي عرفناه ثقةً فالحديث صحيحٌ، وإلا فلا.
هذا هو المقصود من تدليس أسماء الشيوخ.
هناك نوعٌ آخر من تدليس الأسماء، ولكنَّه ليس مُتعلِّقًا بأسماء الشيوخ، وإنَّما يتعلَّق بأسماء البلاد، وهو مُتفرِّعٌ من أسماء الشيوخ. فماذا يفعل الراوي؟
الراوي يأتي مثلًا ويقول: حدَّثني فلانٌ بالمدينة. فأنت أول ما تسمع المدينة تفهم أنَّها مدينة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنَّما هو يقصد مدينة من المدن، فهنا ماذا فعل؟ سمَّى المدينة باسمٍ لا يسبق إلى الذهن، فأنت حينما تسمع كلمة "المدينة" أول شيء يرد على ذهنك هو مدينة النبي الكريم -صلى الله عليه وآله وسلم- ولكنَّه لا يقصد هذا، وإنَّما يقصد مدينةً أخرى، وكلها مدن.
مثل نهر اسمه نهر جَيْحُون عند إيران، وكانوا دائمًا يضربون به المثل في طول الرحلة، ومَن يصل إلى هذا المكان كأنَّه وصل إلى القطب الشمالي، يعني آخر الدنيا، فكون واحد يُحدِّث عن شيخٍ كان موجودًا في هذه الأماكن، ما معناه؟ معناه أنَّه رحل وطاف البلدان لسماع الحديث، فتجد حتى في كتب الرجال والتواريخ يقولون: سمع بما وراء النهر. يقصدون أي نهر؟ نهر بعينه وهو نهر جَيْحُون الذي في الشمال الشرقي لإيران.
فبعض الرواة أحبّ أن يُدلِّس، فيأتي مثلًا وهو جالسٌ في السادس من أكتوبر يعني في منطقة الجيزة، فيقول: حدَّثني فلانٌ بما وراء النهر. وهي يقصد نهر النيل، يعني مشى اثنين أو ثلاثة كيلو وعبر النَّهر؛ فيكون وراء النهر، فهو يقصد نهر النيل، بينما هذا المصطلح عندما يُطلَق ويُقال "بما وراء النهر" يُراد به نهر جَيْحُون وليس نهر النيل، فكان بعضُ الرواة يُدلِّس هكذا، فيعبر الضَّفة الثانية من النهر ويقول: حدَّثني بما وراء النهر.
فهذا كان موجودًا، وهو نوعٌ من أنواع التدليس الذي يُشابه تدليس أسماء الشيوخ.
إذن الغرض منه هو إيهام الرحلة في طلب الحديث، والتَّوسع في السماع من الشيوخ على اختلاف الأمصار والبلدان.
يأتي نوعٌ آخر بعد ذلك وهو ما يُسمَّى بـ(الحديث الشَّاذ).
يقول المؤلفُ -رحمة الله عليه:
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ المَلَا
أي الملأ، أي الجماعة.
فَالشَّاذُ ..................
أي أنَّ الحديث الشَّاذ: هو الذي يرويه راوٍ ويُخالِف فيه الجماعة.
نحن قلنا من قبل: هناك حديثٌ اسمه الحديث الغريب، وقلنا: أنَّ الغريب يُسمَّى الفرد، وهو الذي لم يروهِ إلا راوٍ واحد، فلما يأتي هذا الراوي الواحد ويتفرَّد فقط؛ نُسميه غريبًا، وبعض العلماء يُسميه شاذًّا، لكن هذا بحثٌ مُطوَّلٌ ليس موضعه الآن.
لكن تعالَ بنا نفهم مراد المؤلف: هذا الراوي الذي تفرَّد، إن تفرَّد فقط ولم يُوافقه أحدٌ ولم يُخالفه أحدٌ؛ إذن حديثه غريب، هذا الأمر غريبٌ عليكم؟ هناك أغرب من هذا؟
نحن قلنا قبل ذلك أنَّ الحديث الغريب الذي رواه راوٍ واحد، إذن عندنا حديثٌ رواه راوٍ واحد ولم يُوافقه أحدٌ ولم يُخالفه أحدٌ، إذن هذا حديث غريب. هل جئنا بكلامٍ جديدٍ؟ ألم نقله من حلقتين أو ثلاثة؟
فإن وجدنا هذا الراوي قد خُولِف، أي أنَّ هذا الراوي الذي جاء بهذا الحديث مُتفردًا به؛ وجدنا عددًا من الرواة أو جماعةً من الرواة خالفوه فيما روى في الإسناد أو في المتن، ما معنى خالفوه في الإسناد؟
يعني مثلًا: هو روى الحديث بإسنادٍ مُتَّصلٍ، وغيره روى الحديثَ بإسنادٍ مُرسَلٍ، فهذا خلافٌ أم ليس بخلافٍ؟ خلاف، لأنَّ الإسناد المُتَّصل يُحكَم بصحته، والمُرسَل لا يُحكَم بصحته.
أو روى الحديثَ مرفوعًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وغيره من الجماعة الآخرين رووا الحديثَ من قول الصَّحابي، وليس من قول رسول الله -عليه الصلاة والسلام- فماذا نُسمِّي ما كان من قول الصَّحابي؟ موقوف.
إذن هنا خلاف أم لا؟ هذا الراوي جعل الحديثَ من كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والجماعة جعلوه من كلام الصحابي، وفرقٌ شاسعٌ بين كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكلام الصحابي؛ لأنَّ كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حُجَّة باستقلالٍ، أي حُجَّة بانفرادٍ، فلا يحتاج إلى ما يدعمه، بخلاف قول الصحابي، فليس قوله في الحُجية كقولِ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- بل من العلماء مَن لا يحتجُّ به أصلًا، ومنهم مَن يحتجُّ به إذا لم يجد في الباب حديثًا مرفوعًا على تفاصيلٍ يعرفها العلماءُ في موضعها.
المهم: لا يمكن أبدًا أن يكون كلامُ الصحابي ككلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فرسول الله معصومٌ، والصحابي غير معصومٍ، فهذا الراوي جعل الحديثَ من كلام رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وغيرُه من الجماعة جعلوه من كلام الصحابي، فهل هذا اختلافٌ أم ليس اختلافًا؟
إذن الراوي في مثل هذا الأمر تفرَّد فقط أم تفرَّد وخالف؟ تفرَّد وخالف.
ونظرنا فيمَن خالفه فوجدناهم عددًا كثيرًا، فهم أكثر منه عددًا، أو أقوى منه حفظًا.
ونحن قلنا قبل ذلك: الضَّبط مراتب، تتذكرون لما كنا نتكلم في الحديث الحسن حين قلنا: لماذا الحسن نزل عن الصحيح؟ لأنَّ ضبط راوي الحسن أقلّ من ضبط راوي الصحيح.
إذن نفهم من هذا أنَّ الضبط مراتب ودرجات بعضها فوق بعضٍ، فقد يكون راوٍ ثقةً روى حديثًا، لكن هناك مَنْ هو أوثق منه وأحفظ منه وأتقن منه روى الحديثَ مُخالفًا له.
أو قد يكون الراوي الثِّقة روى الحديثَ وهناك مَن هو أكثر منه عددًا قد رووا الحديثَ مُخالفين له فيما روى، وقد يروي الراوي الحديثَ وهو ثقة ويُخالفه عددٌ من جهةٍ وهم أيضًا حُفَّاظ، فهم يفوقونه من حيث الوصف؛ لأنَّهم حُفَّاظ، أي أحفظ منه، ويفوقونه أيضًا من حيث العدد؛ لأنَّهم أكثر عددًا منه، والأمر كما قال الشافعي -عليه رحمة الله تبارك وتعالى: "الخطأ إلى الواحد أقرب، وهو عن الجماعة أبعد".
فالرجل إذا تفرَّد وخالف الجماعة؛ فمن الطبيعي أن يكون الصوابُ مع الجماعة، هذا هو الأصل في المسألة.
إذن إذا تبيَّن لنا ذلك وأنَّ هؤلاء الجماعة خالفوا، أو الأحفظ خالف؛ فنحن سنحكم على رواية المُخالف الواحد المُتفرد حيث خالف بأنَّها روايةٌ شاذَّةٌ، ورواية الأحفظ أو الأكثر عددًا ماذا نُسميها؟ نُسميها رواية محفوظة، وهي المقبولة المُحتجُّ بها، والشَّاذة تكون من قبيل المردود.
تذكرون أننا قلنا في شرائط الحديث الصحيح: المُسْنَد المُتَّصِل بنقل العدل الضَّابط عن مثله، ولا يكون شاذًّا، ولا معلولًا. هذا هو الذي يريد أن يقوله، فهذا هو الشَّاذ الذي كان يتكلم عنه هناك، يعني أن يكون الراوي عدلًا ضابطًا نعم، ولكن ثبت خطؤه في حديثٍ بعينه، وليس في كلِّ الأحاديث، فذلك الحديث الذي تبيَّن لنا خطؤه فيه لكونه خالف الأحفظ أو الأكثر عددًا؛ نحكم بخطئه فيه، ونحكم بأنَّه حديثٌ شاذٌّ، ونجعله من قسم المردود، مع أنَّ الراوي أصلًا من جُملة الثِّقات.
نكتفي بهذا القدر اليوم، ونستقبل ما عندكم من أسئلةٍ، ونُكمِل في اللِّقاء القادم -إن شاء الله تعالى- تفضل.
{هل التدليس يُضعف عدالة المُدلِّس؟}
لكي نعرف التدليس يقدح في الراوي أو لا نُصنِّف التَّدليس أولًا: هل التَّدليس كذب؟ هل هو يقول: سمعتُ وهو لم يسمع؟ نحن قلنا: لو قال "سمعتُ" سيكون كذَّابًا سارقًا، لكن المُدلِّس يقول: "قال فلانٌ عن فلانٍ أنَّ فلانًا".
إذن هل ادَّعى خلاف الحقيقة؟ هو لم يدَّعي أنَّه سمعه، فلم يقل: "سمعت". كما لم يقل: "لم أسمع". وإنَّما أوقعك فقط في الإيهام، فهو -كما قال أخونا الفاضل- نوعٌ من أنواع المَعَارِيض، أو كما قال القائل: "وإنَّ في المَعَارِيض لمندُوحَة عن الكذب". وبعضهم يرويه مرفوعًا ولا يصح: "وإنَّ في المعاريض لمندُوحَة عن الكذب". فالكلام الذي يحتمل أكثر من معنًى لا يُوصَف مَن أطلقه بأنَّه كاذبٌ، متى يكون كاذبًا؟ إذا صرَّح بخلاف الحقيقة.
ولهذا وجدنا التَّدليس موجودًا عند علماء كبار، كالإمام الحسن البصري، وقتادة بن دعامة السَّدوسي، وسعيد ابن أبي عُروبة، والإمام الزهري -قيل فيه يُدلِّس- والأعمش -رحمه الله تعالى.
فهو موجودٌ، ولكن كما قلتُ: التَّدليس ليس من باب الكذب حتى يُطعَن في الراوي بكونه مُدلِّسًا.
ولهم في التَّدليس أغراضٌ حميدةٌ، فأحيانًا يقع التَّدليسُ عفوًا من الراوي، ونحن نعلم أنَّ هؤلاء الرواة أغلبهم كانوا قد جمعوا بين الفقه والحديث، فيأتي رجلٌ ويسأل الزُّهري عن مسألةٍ فقهيةٍ، أو يسأل الحسنَ البصري عن مسألةٍ فقهيةٍ، فالحسن البصري يقول: "روى أبو هريرة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال كذا وكذا". ولا يذكر مَن بينه وبين أبي هريرة، فهل هو غرضه الرواية أم غرضه الفتوى؟ الفتوى، كما أننا الآن حينما نُستفتَى فنقول: "قال رسولُ الله"، هل بالضَّرورة أكون قد سمعتُ ذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أُفتي بالحديث؟ لا، فإذا كان الراوي في معرض الفتوى فاختصر الإسنادَ؛ فله ذلك.
بخلاف ما إذا كان في معرض الرواية، وإذا كان في معرض الرواية وأراد من ذلك إيهام علو الإسناد، فنحن قلنا: العُلُو قلَّة الوسائط، وهنا عندما يُسقِط راويًا من الإسناد يُوهِم عُلُو ما ليس بعالٍ، وهو يعلم أنَّ الحديث مخرجه معروفٌ عند الناس، وأنَّ الناس يعرفون من أين أخذ هذا الراوي هذا الحديث، فهذا وإن كان فيه إيهامٌ؛ لكنَّه لا يرقى إلى مرتبة القدح في الراوي -أعني في عدالته- تفضل.
{إذا كان الراوي ثقةً، فكيف يكون حديثُه شاذًّا؟ أليس من الممكن أن يكون قد أصاب في هذا الحديث؟}
علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- من دقَّتهم البالغة أنَّهم يتعاملون مع الراوي كما أراد الله -عز وجل- لأنَّ الراوي بشرٌ من البشر، يُصيب كما يُصيب الناس، ويُخطئ كما يُخطئ الناس، فعندما نقول: فلانٌ ثقة، وفلانٌ ضابط. ماذا نقصد بهذه العبارة؟ هل نقصد أنَّه لا يُخطئ أبدًا؟ عندما نقول: فلان ثقة. هل نقصد أنَّ هذا الذي وثَّقناه لا يُخطئ أبدًا؟ أبدًا، لا نقصد هذا المعنى، فالذي لا يُخطئ أبدًا هو رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لكن مع وصفنا للراوي بأنَّه ثقةٌ فنحن نعلم أنَّه يُخطئ ولو قليلًا.
ما معنى قولنا "ثقة"؟
قول العلماء في الراوي "ثقة" أي أنَّ أغلب أحاديثه صواب، كما إذا قالوا في الراوي أنَّه ضعيفٌ، ما معناه؟ معناه أنَّ أغلب أحاديثه أخطاء، وليس المعنى أنَّ كلَّ أحاديثه أخطاء.
تذكرون حين ذكرنا الحسن وقلنا أنَّ من الحسن نوعٌ يُسمَّى بـ(الحسن لغيره)، وقلنا أنَّ الحسن لغيره عبارة عن روايةٍ رواها راوٍ ضعيف. ولكن جاءت روايةٌ أخرى انضمت إلى تلك الرواية فتشكَّلت قوة من مجموع هذه الرِّوايات؛ فارتقى الحديثُ إلى الحسن وصار حُجَّةً، أليس كذلك؟
إذن حتى الضَّعيف، فليس معنى كونه ضعيفًا أنَّه يُخطئ دائمًا، فمعنى كونه ضعيفًا عند العلماء: أنَّ أغلب أحاديثه أخطاء، ومعنى كونه ثقةً: أنَّ أغلب أحاديثه صواب. فإذا تبيَّن أنَّ هذا الثِّقة أخطأ في حديثين أو ثلاثة، فكيف نتعامل مع هذا القليل النادر الذي أخطأ فيه؟
نقول: هذا خطأٌ وقع لهذا الثِّقة عن غير قصدٍ أو تعمُّدٍ. فنحن نحكم على تلك الأحاديث بأنَّها أخطاء، ومع ذلك نحن نُقِرُّ بأنَّ الراوي ثقةٌ؛ لأنَّ الراوي لا يُطعَن فيه بمجرد الخطأ، وإنَّما يُطعَن فيه بكثرة الأخطاء، ولو كان الراوي يُطعَن فيه بمجرد الخطأ لكان كلُّ الناس ضعفاء؛ لأنَّه لا يسلم أحدٌ من الخطأ.
ولهذا يقول الإمامُ مسلم -رحمه الله تعالى- في مقدمة كتابه الصحيح: "وَعَلامَةُ المُنْكَرِ في حَدِيثِ المُحدِّث إذا ما عُرِضَتْ روايتُه للحديثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا؛ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ". خالفت، كما قلنا في الشَّاذ: خالفت. ثم قال: "أَوْ لَمْ تَكَدْ تُوَافِقُهَا".
ثم قال: "فَإِذَا كَانَ الأَغْلَبُ مِنْ حَدِيثِهِ كَذَلِكَ كَانَ مَهْجُورَ الْحَدِيثِ، غَيْرَ مَقْبُولِهِ، وَلا مُسْتَعْمَلِهِ".
إذن الحكم على أحد الرواة بالضَّعف لِكَوْن الأخطاء في أحاديثه أكثر من الصواب، لكن إذا أخطأ مرتين أو ثلاثة فلا بأس، كما قال القائل:
شَخَصَ الأَنَامُ إِلَى كَمَالِكَ فَاسْتَعِذْ *** مِن شَرِّ حَاسِدِهِم بعَيْبٍ واحدِ
وكما قال الآخر:
وَمَن ذا الَّذي تُرضَى سَجَايَاهُ كُلُّها *** كَفَى المَرءَ نُبْلًا أَن تُعَدَّ مَعَايِبُهْ
فإذا أخطأ الخطأ القليل؛ قلنا: هذا خطأ، ولم نقبله منه، وحكمنا بكونه من قسم المردود، وسمَّيناه بالشَّاذ، ومع ذلك لا نطعن على الراوي بمجرد هذا الخطأ القليل النادر الذي وقع منه عن غير قصدٍ.
وهذا من دقَّة المُحدِّثين المُتناهية، فهم يتعاملون مع الراوي بميزان قسطٍ، فهم يقولون: هو كراوٍ ثقة، لكن إذا ثبت لنا أنَّه أخطأ ولو في حديثٍ واحدٍ؛ نحكم بخطأ هذا الحديث وإن كنَّا نُقِرُّ بكونه ثقةً.
تفضَّل.
{ما حكم مُرسَل الصَّحابي؟}
نحن ذكرنا أنَّ المُرسَل: هو ما يرويه التابعيُّ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وقلنا هذا من قسم المردود. لماذا؟ بسبب الانقطاع، فلماذا كان المُنقَطِع من قسم المردود؟ لاحتمال أن يكون هذا التابعي قد أسقط بينه وبين رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- مع الصَّحابي تابعيًّا آخر، والتَّابعون فيهم الثِّقات وغير الثِّقات، لكن عندما يأتي الصحابي ويروي شيئًا عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وهو لم يسمعه مباشرةً من رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وإنَّما أخذه عن صحابيٍّ آخر عن رسول الله، فهل يضره ذلك؟
لا؛ لأنَّه إذا لم يسمعه من النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فبالضَّرورة سمعه من صحابيٍّ آخر عن رسول الله، والصَّحابة كلهم عدول أمناء -رضي الله عنهم أجمعين.
فسواء عرفنا الصحابي الذي أخبر بالحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو لم نعلمه لا يضر؛ لأنَّه في النهاية إن دار فسيدور على صحابيٍّ من الصحابة الكرام، وهم جميعًا ثقات أمناء عدول -رضي الله عنهم جميعًا.
فلهذا كان مُرسَلُ الصحابي حكمه كحكم المُتَّصل سواءً بسواءٍ.
هل توجد أسئلةٌ أخرى؟
إذن أسأل سؤالًا: ذكر الإمامُ أنَّ الحديث الشَّاذَّ: هو ما يرويه الثِّقة مُخالفًا لما ترويه الجماعة. والإمام مسلم في الكلمة التي قلناها الآن ماذا قال؟ قال: "وَعَلَامَةُ المُنْكَرِ فِي حَدِيثِ المُحَدِّثِ إِذَا مَا عُرِضَتْ رِوَايَتُهُ لِلْحَدِيثِ عَلَى رِوَايَةِ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْحِفْظِ وَالرِّضَا؛ خَالَفَتْ رِوَايَتُهُ رِوَايَتَهُمْ".
إذن نحن عندنا حديثٌ ثانٍ اسمه المُنْكَر، وهو حديثٌ وقع خلاف ما ترويه الجماعة، أو الأحفظ.
إذن عندنا شاذٌّ، وعندنا مُنكَر، فما الفرق بينهما؟ وكلاهما يُدرَك بالاختلاف بين الرواة.
هل يستطيع أحدٌ أن يُجيب؟
تفضَّل.
{راوي الحديث المُنكَر يكون ضعيفًا، بينما راوي الشَّاذ يكون ثقةً}.
هذا رأيٌ لبعض أهل العلم -جزاك الله خيرًا- لكن بعض أهل العلم لا يشترط هذا، فلا يشترط ضعف الراوي.
حين نُجيب على مسألةٍ من هذه المسائل لابُدَّ أن نُصنِّف المسألة، تذكرون أننا في أول درسٍ قلنا: هناك قضايا في هذا العلم ترجع إلى جانبٍ اصطلاحيٍّ، وقضايا أخرى ترجع إلى جانبٍ تأصيليٍّ وحكميٍّ.
فمن أي الأبواب هذه المسألة؟ هل هي من جانب الاصطلاح؟ أي من حيث التَّسمية، فالحديث الذي يرويه الثِّقة مُخالفًا فيه الجماعة أو الأحفظ نُسميه شاذًّا أم نُسميه مُنكرًا؟ أو نُسميه بالاسمين معًا؟
من العلماء مَن يقول: نُسميه شاذًّا.
ومن العلماء مَن يقول: نُسميه مُنكرًا.
ومن العلماء مَن يقول: هو شاذٌّ، وهو مُنكَرٌ، والشَّاذ والمُنْكَر معناهما واحدٌ.
إذن هل هذا اختلافٌ يُؤثِّر في الحكم على الحديث أم هو اختلافٌ مُتعلِّقٌ بالتَّسمية ليس أكثر؟ هو مُتعلِّقٌ بالتَّسمية، لماذا؟ لأنَّ العلماء جميعًا سواء منهم مَن قال: نُسميه شاذًّا. أو مَن قال: نُسميه مُنكرًا. أو مَن قال: نُسميه شاذًّا ومُنكرًا؛ كلُّهم مُتَّفقون على أنَّه حديثٌ مردودٌ، وأنَّه خطأ، وأنَّه لا يُقبَل.
فإنَّما اختلافهم في التَّسمية، هل نُسميه شاذًّا أم نُسميه مُنكرًا؟ وما دام الخلاف لا يرجع إلا إلى التَّسمية فلا تأثيرَ له في الحكم على الحديث، وحينئذٍ نقول: "لا مُشَاحَةَ في الاصطلاح"، فمن سمَّاه شاذًّا أراد أنَّه مردودٌ، ومَن سمَّاه مُنكرًا أراد أنَّه مردودٌ.
وهنا نستفيد من معرفة هذا الاستعمال المُتنوع في كلام وصنيع أهل العلم أننا إذا وجدنا إمامًا استعمل لفظَ الشَّاذ نفهم أنَّه يقصد أنَّه من قسم المردود، أو آخر استعمل لفظ المُنكَر نفهم أنَّه أراد أنَّه من قسم المردود.
هذا الذي أردتُ أن أُبيِّنه، نسأل الله تعالى التوفيقَ والسَّداد في القول والفعل، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
http://islamacademy.net/cats3.php