الحقوق محفوظة لأصحابها

طارق عوض الله
مادة شرح متن البيقونية

لفضيلة الشيخ/ طارق عوض الله

الدرس (2)

إنَّ الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].

أمَّا بعد:

فإنَّ خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار، وبعد:

في اللِّقاء الماضي تكلمنا عن تعريف الحديث الصحيح، وذكرنا ما يتعلَّق بأول شرطٍ من شرائطه، ألا وهو: اتِّصال الإسناد، فأخذنا في شرح معنى الإسناد، وتصور هذا المعنى عند علماء الحديث.

واليوم -بإذن الله تبارك وتعالى- نُكمل حديثنا عن باقي شرائط الحديث الصحيح، فنقف أولًا عند الاتصال، وهو قول الناظم -رحمه الله تعالى:

(أَوَّلُها الصَّحِيْحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ إِسْنَادُهُ)

نحن ذكرنا أنَّ الإسناد هو الإخبار عن طريق المتن، أو حكاية طريق المتن، فما معنى كون هذا السند مُتَّصلًا؟

معنى هذا: أنَّ كلَّ راوٍ من رواة هذا الإسناد إنَّما روى الحديثَ عمَّن تلقَّى عنه الحديثَ بالفعل.

بمعنى: أنني عندما طلبتُ الحديثَ سمعته من شيخي، وشيخي سمعه من شيخه، وهكذا إلى أن وصل الإسنادُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

فبالضرورة لكي يكون الإسنادُ مُتَّصلًا لابُدَّ عندما أروي ذلك السند أرويه كما تحمَّلته، فأرويه عن شيخي الذي أخذتُ عنه ذلك الحديث، وشيخي يرويه عن شيخه الذي أخذ عنه ذلك الحديث، وهكذا إلى أن يصل بالحديث إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن: يكون كلُّ راوٍ قد أخبر بحقيقة الإسناد، فأخبر بما قد تمَّ بالفعل، فهو قد أخذ الحديث عن شيخه الذي تحمَّل الحديثَ عنه، وشيخه قد أخبر أنَّه أخذه عن الشيخ الفلاني الذي تحمَّل فعلًا الحديثَ عنه، إلى أن وصل الحديثُ والإسنادُ إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

فإن روى الراوي هذا الحديثَ على هذا النحو كان مُتَّصلًا؛ لأنَّه أخبرنا بكلِّ مَن روى الحديث من أول الإسناد إلى منتهاه حيث وصل إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فهذا إسنادٌ مُتَّصلٌ، فكلُّ راوٍ روى الحديثَ عمَّن تحمَّل عنه الحديث بالفعل.

لكن لا يقع ذلك دائمًا، فأحيانًا يقع في الإسناد ما يُسمَّى عند العلماء بـ(السَّقط)، ما معنى السَّقط؟

أي لا يُذكَر بعضُ الرواة الموجودون في الإسناد، فأنا مثلًا أخذتُ الحديثَ عن محمد، ومحمد أخذه عن عليٍّ، فإذا ما رويتُ الحديث عن محمدٍ عن عليٍّ فالإسناد متصل، لكنني إذا رويتُه عن عليٍّ مباشرةً بعد إسقاطي لمحمدٍ الذي هو الواسطة بيني وبين عليٍّ، هل يكون ذلك الإسناد مُتَّصلًا؟

لا، لا يكون مُتَّصلًا، لماذا؟

لأنَّ هناك راوٍ من أثناء الإسناد لم يُذكَر، وسقط ذكرُه، فلم يُذكَر في الرواية حيث رواها الراوي.

وما دام أنَّ الراوي لم يُذكَر، إذن هناك انقطاعٌ، وهناك عدم اتصالٍ، فهناك سقطٌ في الإسناد، وهذا السَّقط يضر بالحديث؛ لأننا عندما نكون بين يدي إسنادٍ وقع فيه سقط راوٍ أو أكثر؛ فنحن لا نعرف هذا الراوي: أهو من الثِّقات أم من غير الثقات؟ ولو ذُكِرَ اسمه وذُكر في الإسناد لعرفنا أهو من الثقات أم من غير الثِّقات؟ وعليه نعرف أهو مقبول الرواية أم ليس مقبولَ الرواية؟

لكنَّه لم يُذكَر، فإذا لم يُذكر فلا سبيلَ أمامنا لكي نعرف أهو من الثقات أم من غير الثقات؟ لأنَّ معرفتنا بكونه ثقةً أم غير ثقةٍ مبنية على معرفتنا بشخصه، وكما يُقال: "ثبِّت العرشَ ثم انقش".

فإذن نحن لا نعرف حقيقة هذا الرجل، ولا عين هذا الرجل، ولا هذا الشخص؛ فكيف لنا أن نعرف أهو من الثقات أم من غير الثقات؟!

من هذه الحيثية كان من الضَّروري جدًّا لكي يكون الحديثُ صحيحًا مقبولًا مُحتجًّا به أن يكون إسناده متصلًا، بمعنى أن يكون كلُّ راوٍ من رواة الإسناد الذين رووا الإسنادَ بالفعل مذكورًا في الإسناد.

هذا معنى كون الإسناد مُتَّصلًا.

وبطبيعة الحال هذا الاتصال أحيانًا يكون عن طريق السماع، بمعنى أنَّ الراوي عندما تلقَّى الحديثَ عن شيخه سمع لفظ الشيخ، فجلس في مجلسٍ من مجالس العلم التي تُروى فيها الأحاديث بالأسانيد إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- والشيخ يُملي الأحاديثَ والطالب يتلقَّى -كما هو الحال الآن- فالشيخ يتكلم والطلبة يستمعون.

وهذا النوع من التَّلقي هو من أعلى مراتب تحمل الحديث، وهو الذي يُسمَّى عندهم بـ(السَّماع) -سماع لفظ الشيخ- فيأتي الشيخ فيعقد مجلسًا فيُحدث بالحديث، فالشيخ هو الذي يُسمِع الناسَ، والناس يسمعون روايته من فمه، فهذا التَّلقي هو من أعلى المراتب.

لكن هناك مراتب أخرى في التلقي، فهناك ما يُسمَّى عند العلماء بـ(العرض) أو (القراءة)، كما نعرف ذلك في تلقي القرآن على المشايخ، فالطالب هو الذي يقرأ على الشيخ، والشيخ يُقرُّ تلك القراءة، وكذلك كان هذا النوع من التَّلقِّي موجودًا في رواية الحديث، فيجلس الشيخ في مجلسٍ وهناك قارئ يقرأ الحديثَ من كتابٍ، سواء كان هذا الكتاب هو أصل الشيخ أو نسخةً أُخذت عن أصل الشيخ، فيقرأ تلك النُّسخة بين يدي الشيخ، والشيخ يُقرُّ تلك القراءة أو يُصحح ما عَنَّ فيها من أخطاء، ثم بعد أن تنتهي هذه القراءة يُجيز الشيخُ لهذا الطالب أن يروي عنه ذلك الكتاب الذي هو مأخوذٌ عن أصله المعتمد.

هذا نوعٌ من أنواع التلقي يُسمَّى بـ(العرض)، ويُسمَّى أيضًا بـ(القراءة على الشيخ)، وهذا عند جمهور المُحدِّثين منزلته كمنزلة السماع، وهناك مَن يُفضِّل هذا النوع على السماع، وهناك مَن يُفضِّل السماع على القراءة، لكن الذي عليه جمهور أهل العلم -عليهم رحمة الله تعالى جميعًا- هو أن التَّلقي عن الشيخ سواء عن طريق سماع لفظ الشيخ أو عن طريق القراءة والعرض كلاهما في المرتبة سواء.

وهناك ما يُسمَّى بـ(الإجازة)، ولها صورٌ متعددةٌ، ومن أعلى صورها: ما يُسمَّى بإجازة مُعيَّنٍ لمُعيَّنٍ، بمعنى أن يأتي الشيخُ بكتابٍ من كتبه التي يرويها، سواء كان الشيخ هو الذي صنَّف الكتاب، أو كان كتابًا له فيه هو سماعٌ أو قراءةٌ أو إجازةٌ، مثل أن يكون عنده نسخة من صحيح البخاري، أو صحيح مسلم، أو غيرهما من الكتب المشهورة المعتمدة، فهذا الكتاب يُجيز لبعض تلامذته أن يرويه عنه، فهو أجاز الكتابَ، والكتاب شيءٌ معروفٌ مُعيَّنٌ.

فيقول للطالب: أجزتُ لكَ -أو لفلان بن فلانٍ- صحيح البخاري. فهو أجاز لمُعَيَّنٍ -أعني الراوي- فسمَّاه باسمه فقال: أجزتُ فلان بن فلان. فعيَّنه، ولم يقل مثلًا: أجزتُ المسلمين. أو أجزتُ أهل الأرض. أو أهل الزمان والعصر. وإنَّما أجاز شخصًا بعينه فقال له: أجزتُ فلان بن فلان. أو أجزتك الكتاب الفلاني. فيُعيِّن أيضًا الكتاب.

وهذا من أعلى مراتب الإجازة عند علماء الحديث، وهو أن يُجيز راويًا مُعيَّنًا، أو تلميذًا مُعيَّنًا بكتابٍ مُعيَّنٍ، وهذا أيضًا يُفيد الاتصال، بمعنى أنَّ هذا التلميذ إذا ذهب وأخذ يروي ذلك الكتاب عن ذلك الشيخ الذي أجازه بهذا الكتاب؛ فإنَّه حينئذٍ يكون إسنادًا متصلًا.

إذن: ليس بالضَّرورة لكي يكون الإسنادُ مُتَّصلًا أن يسمع الراوي لفظ الشيخ، وإنَّما أن يكون تحمَّل الحديثَ بطريقةٍ من الطرق التي تُعتمد عند العلماء كوسيلةٍ لتلقِّي الحديث، وهناك طرقٌ أخرى، لكن هذه الطرق هي أشهر ما لدى المُحدِّثين من طرقٍ لتحمُّل الأحاديث، وحينئذٍ يكون الإسنادُ مُتَّصلًا، وقد تحقق فيه الشرط الأول من شروط قبول الحديث.

عرفنا اتصال الإسناد، وعليه فنحن عرفنا كلَّ راوٍ من رواة هذا الإسناد، أي عرفنا هذا الشخص، هذا المُعَيَّن، هذا المُسَمَّى، لكن يبقى بعد ذلك أن نعرف حاله؛ لأنَّ هذا الراوي الذي عرفناه قد لا يكون ثقةً؛ فلا يُقبَل حديثه.

فمعرفتنا بشخصٍ تُساعدنا على معرفة حاله، وعليه بالضَّرورة نعرف منزلة حديثه وروايته، فليس الغرضُ أن نعرف الشخصَ من حيث هو شخص، ليس هذا هو المقصود في ذاته، إنَّما نعرف هذا الشخصَ عن طريق اتِّصال الإسناد، وأن يُسَمَّ كلُّ راوٍ في الإسناد لكي نعرف بعد ذلك أهو من الثِّقات فيُقبل حديثه؟ أم ليس من الثِّقات فلا يُقبَل حديثه؟

ولهذا كان لابُدَّ من اشتراط شرائط أخرى بعضها يتعلَّق بالراوي الذي عرفناه، وبعضها الآخر يتعلَّق بالرواية نفسها.

فما يتعلَّق بالراوي هو: أن يكون الراوي قد تحقق فيه شرطان أساسيان، وهذان الشَّرطان إذا ما تحققا في الراوي يكون الراوي حينئذٍ مقبولَ الرواية، وهو ما أشار إليه الناظم في البيت الثاني حيث قال:

يَرْوِيْهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ ** * مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ

أي أنَّ كلَّ راوٍ من هؤلاء الرواة -الذين هم رواة ذلك الإسناد- لابُدَّ وأن يكون موصوفًا بوصفين:

الوصف الأول: العدالة.

الوصف الثاني: الضَّبط.

وقد ذكرنا معنى العدالة ومعنى الضبط في اللِّقاء الماضي إجمالًا، حيث جاء ذكر العدالة والضبط عَرَضًا عندما كنا نتكلم عن الراوي الثِّقة، لكن اليوم نُريد أن نقف عن معنى العدالة علميًّا، وعن معنى الضبط علميًّا عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى.

قلنا: إنَّ العدالة هي الديانة والأمانة، فكيف يتحقق ذلك؟ كيف نعرف أنَّ هذا الراوي عنده أمانة، وعنده ديانة، ولا يكذب، ولا يتعمَّد كذبًا على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- ولا غيره من الناس حتى يكون حينئذٍ موصوفًا بالعدالة؟

يقول العلماء: هناك شرائط إذا ما تحقَّقت في الراوي كان عدلًا:

الشرط الأول: أن يكون مُسلمًا؛ لأنَّ الكافر ليس عدلًا؛ لأنَّه كفر بالله -عز وجل- فوقع في أكبر الكبائر، ومثل هذا لا يكون عدلًا، فالكافر ليس عدلًا، بمعنى: أنَّ هذا الكافر إذا شهد شهادةً أمام قاضٍ من القُضاة، أتقبل شهادته؟ بالطبع لا، فكيف تُقبَل روايته وشأن الرواية أعظم من شأن الشَّهادة؟! فإنَّ غاية الشهادة هي ردُّ الحقوق إلى أهلها، بخلاف الرواية فإنَّه ينبني عليها دين الله -عز وجل- فيُعرَف من الرواية الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، وما يتعلَّق بأخبار الجنة وأخبار النار، وأخبار رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وغير ذلك من الأمور التي تمسُّ أمر الدين، فكان شأن الرواية أعظم من شأن الشَّهادة، فإذا لم تُقبَل شهادة الكافر فكيف تُقبَل روايته؟!

الشرط الثاني: أن يكون مُكلَّفًا، فلا يكون صبيًّا لا يُميز الأشياء ولا يعقل الأمور؛ وإنَّما يكون قد بلغ السن التي تجري فيه عليه الأحكام، فحينئذٍ يصح وصفه بكونه عدلًا، فالطفل الصغير الذي لا يُميز الأشياء ولا يعرف الحلالَ من الحرام، ولا ما يجوز وما لا يجوز؛ لا يُوصَف لا بعدالةٍ ولا بغير عدالةٍ، فمثل هذا لا تُقبَل روايته؛ لأنَّه ليس موصُوفًا بالعدالة.

وقد يسأل سائلٌ فيقول: يا شيخ، العلماء تكلَّموا في كتب علوم الحديث واختلفوا متى يصحّ سماع الصغير؟ فمنهم مَن جوَّز سماع الصغير مُطلقًا، ومنهم مَن قيَّده بسنٍّ مُعينةٍ، ومحمود بن الربيع وهو صحابي من صغار الصحابة عقل مجَّةً مجَّها في وجهه رسولُ الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكان سِنُّهُ وقتئذٍ خمس سنين، وقيل أربعة، فكيف تقول: إنَّ العدل لابُدَّ أن يكون مُكلَّفًا قد جرى عليه التكليف، وقد بلغ السِّنَّ الذي يُحاسَب فيه؟!!

نقول: هنا يأتي المَحَكُّ، ودائمًا وأبدًا ننبه إخواننا من طلبة العلم إلى فهم كلام العلماء ووضعه في موضعه اللائق به.

فهناك فرقٌ بين تحمُّل الحديث ورواية الحديث، فقد يتحمَّل الحديثَ مَن ليس عدلًا، ويجوز ذلك، لكنَّه لا يُقبَل منه الحديث إلا إذا رواه وقت أن تحقق بصفة العدالة.

نقول مرَّةً ثانيةً: العدالة لا تُشترط عند تحمُّل الحديث، وإنَّما يشترطها العلماءُ عند رواية الحديث، فقد يكون الرجلُ كافرًا ويسمع حديثًا في حال كفره، ثم يُسلِم بعد ذلك فيروي ما قد تحمَّله وهو كافرٌ، أيُقبَل ذلك منه أم لا؟

يُقبَل. لماذا؟

لأنَّه لما رواه رواه وهو موصوفٌ بالعدالة، أمَّا إذا روى ما تحمَّله في حال كفره -يعني رواه وهو كافر- فلا يُقبَل.

مثل مَن؟

سيدنا أبو سفيان -رضي الله عنه وأرضاه- متى أسلم؟

أسلم عام فتح مكة، ومعلومٌ أنَّه دارت له حكايةٌ طويلةٌ في قصة الحُديبية رواها البخاري ومسلم، فرواها البخاري في أوائل الصحيح، وفي مواضع أخرى أيضًا داخل الصحيح، وهذه القصة كانت عام الحُديبية، أي كانت وقت أن كان كافرًا -أعني أبا سفيان- لأنَّ أبا سفيان أسلم عام الفتح، وعام الفتح بعد الحُديبية بزمنٍ.

إذن هذه القصَّة التي حكاها أبو سفيان وقعت حال إيمانه أم حال كفره؟

حال كفره، لكنَّه بعد أن أسلم -رضي الله عنه وعن سائر الصحابة الكرام- حدَّث ابنَ عباس بهذه الحكاية بطولها، فالعلماء اعتمدوا ذلك واحتجُّوا به، وأدخلوه في كتبهم في الصحاح، لماذا؟ لأنَّه إنما حدَّث به بعد أن أسلم فصار عدلًا.

فالعدالة لا تُشترط عند التَّحمُّل، وإنَّما تُشترط عند الرواية والنَّقل لما قد تحمَّله أولًا، ومن هنا نفهم كلام العلماء، فالعلماء اختلفوا في ماذا؟ متى يصحّ سماع الصغير؟ أي تحمُّل الصغير، فاختلفوا في السن الذي يصح فيه التحمُّل، لكن لم يختلفوا أنَّه لا يجوز له أن يروي وهو صغيرٌ لم يبلغ الحلم، وإنَّما يجوز له ذلك عندما يبلغ فيصير عدلًا.

إذن: الشرط الأول: أن يكون مسلمًا.

والشرط الثاني: أن يكون مُكلَّفًا.

والشرط الثالث: ألا يكون مُتلَبِّسًا بالفِسْق: فلا يشرب الخمرَ، ولا يزني، ولا يفعل أيَّ أمرٍ من الأمور التي تستوجب الفسق.

حتى قال النَّاظم:

العَدْلُ مَن يَجْتَنِبُ الكَبَائِرَ ** * وَيتَّقِي فِي الْغَالِبِ الصَّغَائِرَ

ومن الفسق أيضًا: الكذب، لكن الذي يكذب في كلام الناس إن تاب وأناب واستغفر من كذبه وصار بعد ذلك صادقًا؛ يُقبَل ما قد رواه بعد صدقه وبعد توبته، إلا مَن عُرفَ عنه تعمُّد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- خاصَّة، لماذا؟

تعظيمًا لشأن حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوبيخًا لمَن تجرأ فكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولو مرَّةً في حياته، فتوبته بينه وبين ربِّه -سبحانه وتعالى- لكنَّ لا يُقبَل حديثُه أبدًا حتى بعد توبته إذا ما ثبت عنه تعمُّد الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- إجلالًا لحديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وتوبيخًا لهذا الذي تعمَّد وسوَّلت له نفسُه في يومٍ من الأيام أن يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فالكذب عليه ليس كالكذب على سائر الناس -صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن: الشرط الثالث: ألا يكون مُتلَبِّسًا بالفسق.

الشرط الرابع: ألا يكون مُتلَبِّسًا بخَوارم المروءة: ما خوارم المروءة؟

خوارم المروءة هي من الصَّغائر، وليست من الكبائر، ولكنَّها صغائر تدلُّ على خِسَّة نفس صاحبها، فنُسميها خوارم المروءة، كما عبَّر عن ذلك بعض أهل العلم حيث قال في وصف خوارم المروءة: "صغائر الخِسَّة"، ما صغائر الخِسَّة؟

نحن نعلم أنَّ السرقة حرامٌ، لكن قد يسرق شخصٌ رغيفًا، فهل هذا تُقطع يده؟

لا تُقطع يده؛ فالرسول قطع في ربع دينارٍ فصاعدًا، لكن الرغيف لا تُقطَع فيه يد السارق، لكنَّه يدلُّ على أنَّه إنسانٌ خسيسٌ، أمثل هذا يُؤتمن على حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام؟

لا، لا يُؤتمن على حديث رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.

هذه هي الخوارم.

أيضًا ذكر العلماء أمورًا كثيرةً تدخل تحت خوارم المروءة، منها مثلًا: الأكل في الطُّرقات، فقد كان السلف -رضي الله عنهم- يعتبرون هذا من خوارم المروءة، فلم يكن السلفُ -رضي الله عنهم- يعرفون أنَّ الواحد يمشي في الطريق وهو يُمسك رغيفًا يأكله، فهذا شيءٌ يعتبرونه من العيب، ومن خوارم المروءة.

ويحكي الخطيبُ البغدادي في كتاب "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" أنَّ رجلًا جلس بباب المدينة، والمدن قديمًا كانت لها أسوارٌ وأبوابٌ عملاقةٌ، وكانت تلك الأبواب مثل الميادين العامَّة الآن؛ لأنَّ معنى باب في المدينة أنَّ أُناسًا يدخلون وأُناسًا يخرجون، فتصير كميدان التحرير مثلًا، وميدان رمسيس، وميدان العباسية، والميادين العامَّة، فواحدٌ جالسٌ على باب المدينة -مثل باب المندب مثلًا- ويأكل، والناس يذهبون ويجيؤون أمامه، فقال له رجلٌ: ألا تستحي أن تأكل والناس يمرون من أمامك؟ فالناس يعتبرون هذا من العيب، وليس فقط العلماء، فقال: يا أخي، لو أنَّك جلستَ في حظيرة بقرٍ أكنت تستحي أن تأكل أمام البقر؟ قال له: لا. قال: تعالَ حتى أُعلِمُكَ أنَّهم بقرٌ. فهو يريد أن يقول له: ليس هؤلاء مَن يستحي الواحد أن يأكل أمامهم.

فجلس في مكانٍ عالٍ وقال: أيُّها الناس، استمعوا، أيها الناس استمعوا. ثم قال -طبعًا وهذا كذبٌ، لكن القصَّة هكذا- حدثنا فلانٌ عن فلانٍ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أنَّه قال: «مَن بلغ طرفُ لسانه أرنبةَ أنفه دخل الجنة». فإذا بكلِّ واحدٍ من هؤلاء الناس -وهم عوامٌّ طبعًا من رعاع الناس- يحاول أن يُخرج لسانه ويبلغ به إلى أرنبة أنفه، مَن يفعل هذا؟

البقر. فقال له: ألم أُعْلِمكَ أنَّهم بقر؟!

فهذه قصَّة لطيفة تُذكَر في هذا السياق، ومن خوارم المروءة اليوم مَن يمشي وهو يلبس "الشُّورت"، فكم من شحطٍ أطال الله قامته لا يصلح إلا لجرِّ الحناطير، فتجد الواحد من هؤلاء طويلًا عريضًا وهو لابسٌ"الشُّورت" أو "المايوه" في الطريق مثلًا، فهذا من خوارم المروءة، فلن نقول له: حلال أو حرام، لكن هذا يُعتبر في عُرف الناس شيءٌ مُسْتَهْجَنٌ.

ولذلك يقول الخطيبُ البغدادي: "إنَّ خوارم المروءة تختلف من زمانٍ إلى زمانٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ" بحسب أعراف الناس.

الشرط الخامس: ألا يكون مُغَفَّلًا: مَن هو المُغَفَّل؟

المُغَفَّل له معنى عامّ ومعنى خاصّ.

فالمعنى العام: هو الذي لا يُميز حقيقة الأشياء.

وهو مثل مَن تُعطيه ربع جُنيه جديد –أي ورقته جديدة- وهو معه عشرة جنيهات قديمة، فتقول له: خذ هذه وأعطني هذه. فيفرح لأنَّه يُريد الجديد، وهو لا يعرف قيمة هذا ولا قيمة هذا، فهذا مُغَفَّلٌ.

وهناك قصة تُحكَى عن رجلٍ اسمه سالم العلوي، لما سُئل عنه ابن معين قال: "ذاك الذي يرى الهلالَ قبل الناس بيومين"، فهو يطلع ليلة سبع وعشرين أو ليلة ست وعشرين ويُشاهد الهلال، ويقول: هذا هو الهلال. فهو يتصور أشياء على غير حقيقتها، فهذا معنى عامّ.

والمعنى الخاص الذي يعنيه المُحدِّثون من قولهم: "إنَّ فلانًا مُغَفَّلٌ": هو الذي لا يُميز حديثَه من حديث غيره.

فهو كلُّ راوٍ من الرواة سمع أحاديث وغيره سمع أحاديث لم يسمعها هو، فإذا جاءه رجلٌ وقال له: أنت حدَّثتنا بالحديث الفلاني -يعني من غير أحاديثه- فلا يُميز حديثَه من حديث غيره، ويقول له: نعم، أنا حدَّثتك. فكلُّ مَن جاءه يقول له: أنت حدَّثتني. يقول له: نعم حدَّثتك، أو أنت أعلم بما قد حدَّثتك به. فلا يُميز حديثَه من حديث غيره.

وهذا الذي يُسمَّى عند العلماء بـ(قابل التَّلقين) فكلما لُقِّنَ حديثًا يقبَل ذلك التلقين، فهذا مُغفَّلٌ، فلا يُقبَل حديثه أبدًا؛ لأنَّه لا يُميِّز حديثَه من حديث غيره، كم قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى: "كلُّ مَن لا يعرف حديثَه من حديث غيره فلا أروي عنه". هذا هو الرجل العدل.

الشرط الآخر: الضَّبط: مَن هو الضَّابط؟

نحن قلنا آنفًا في اللقاء الماضي: قد يكون رجلٌ عنده ديانة، وعنده أمانة، لكنَّه ليس عنده حفظٌ ولا إتقانٌ ولا تثبُّتٌ، وهذه هبةٌ من الله -عز وجل- يمنحها لبعض عباده، فقد يكون الرجلُ على خلقٍ ودينٍ وتقوى وورعٍ وزُهدٍ؛ ولكنَّه لم يُرزق نعمة الحفظ.

فهناك مَن يحفظ، وهناك مَن لا يحفظ، ولا علاقةَ بين الحفظ والعدالة، فقد يكون الرجلُ عدلًا وليس ضابطًا، وقد يكون عدلًا وهو ضابطٌ، وقد يكون ضابطًا وليس عدلًا، ولابُدَّ لكي يكون مقبولَ الرواية أن يتحقق فيه الأمران، فليس كلُّ مَن روى الأحاديثَ وجمعها وحفظها هو ضابطٌ لها ومُتقِنٌ.

مثل نوح ابن أبي مريم، فقد كان يُلقَّب بـ"نوح الجامع"، لماذا؟ قالوا: لأنَّه جمع كلَّ شيءٍ إلا الصدق، فقد كان جمَّاعًا للعلم، حافظًا له، لكنَّه كان كذَّابًا -للأسف- فكانوا يُسمُّونه بالجامع، فيُلقِّبونه بذلك، قالوا: لأنَّه جمع كلَّ شيءٍ إلا الصدق؛ فخسر كلَّ شيءٍ.

إذن ما هو الضبط؟

الضبط هو الإتقان والتَّثبُّت، كيف يتحقق ذلك؟

نظر العلماء إلى الرواة واستقرؤوا أحوالَهم فتبيَّن لهم أنَّ هناك مَن يجمع أحاديثه في صدره، فيحفظها عن ظهر قلبٍ، وهناك مَن لم يُرزق هذه النِّعمة، ولكنَّه مع ذلك مُتقِنٌ، كيف؟ قالوا: لأنَّه جمع أحاديثه في كُتبه، فكتبه مُراجعة مُقابلة مُنقَّحة مُصحَّحة، فليس كلُّ راوٍ بالضرورة يكون حافظًا لحديثه في صدره، فقد يكون حديثُه مجموعًا في صدره، وقد يكون حديثه مجموعًا في كتابه، والكتاب مُراجَع ومُنقَّح ومُصحَّح.

وقد يكون حديثُه كذلك في كتابه، وهو أيضًا حافظٌ لما في كتابه، فيكون قد جمع بين الحُسْنَيين، فالناس مراتب.

يقول العلماء: الضبط نوعان:

- ضبط صدرٍ.

- وضبط كتابٍ.

ضبط الصدر: هو أن يحفظ أحاديثَه في صدره، ويكون مُتقنًا لها مُتثبِّتًا، وعنده المقدرة على استحضار الحديث وقتما يشاء، فإذا ما رواه يرويه كما تحمَّله من غير أن يُخطِئ فيه، فلا يزيد فيه ولا ينقص، ولا يُقدِّم فيه ولا يُؤخِّر، فهذا ضابطٌ.

النوع الآخر: ضبط الكتاب: وهو أن يكون حديثُه في كتابه من يوم أن تحمَّله إلى أن رواه، والكتاب مُراجَعٌ مُصحَّح مُنقَّح مُقابَلٌ بأصله، ثم الكتاب محفوظٌ لديه عنده، لا يُعيره لغيره، فربما إذا ما أعاره لغيره أفسد في الكتاب، وهو لا يدري بما حدث في الكتاب، فلم تكن الكتب وقتئذٍ مطبوعةً، يتميز فيها الخطُّ المكتوب باليد عن الخط المكتوب بالطباعة، وإنَّما كان كله باليد، فربما زاد بعضُ الناس حديثًا أو شيئًا بين الأسطر فلا يتبين له ولا يُميزه، اللَّهم إلا إذا كان قد أعار الكتابَ مَن يثق فيه، واطمأنت نفسه، وسكن قلبه إلى أنَّ هذا الكتاب لم يتغيَّر، وأنَّ مَن أعاره الكتاب لم يُغيِّر في الكتاب شيئًا؛ فهذا لا يضر.

المهم تطمئن نفسُه إلى أنَّ الكتاب رجع إليه كما خرج من عنده.

فإذا ما روى من كتابه فقد تحقق فيه وصف ضبط الكتاب، فنقول حينئذٍ: مَن كان ضبطه ضبط صدرٍ له أن يروي من حفظه.

ومَن كان ضبطه ضبط كتابٍ؛ فليس له أن يروي إلا من كتابه، فإن روى من حفظه لا يُقبَل منه.

ومَن جمع بين الحُسنيين -كتابه مضبوطٌ مُنقَّحٌ مُصحَّحٌ، وهو أيضًا حافظٌ لما في كتابه- فمثل هذا يجوز له أن يروي من كتابه، ويجوز له أن يروي من حفظه، وفي كلا الحالتين هو موصوفٌ بالضبط، لكن الأفضل له أن يُحدِّث من كتابه؛ لأنَّ الكتاب أتقن وأبعد عن الخطأ والنِّسيان، فالحفظ مهما كان خوَّان.

ولهذا نجد أنَّ العلماء الكبار الحُفَّاظ الأثبات كانوا في الأغلب الأعمّ يروون من كتبهم مع كونهم حافظين لها، بخلاف مَن كان يعتمد على حفظه مع إتقانه وثقته فقد وقعت منه بعض الأخطاء، وهي معروفة عند أهل العلم.

مثل الإمام أحمد بن حنبل، فالإمام أحمد -رحمه الله تعالى- كان موصوفًا بالوصفين، فكانت عنده كتبه، وكانت كتبه من أجود الكتب وأصحها، ومع ذلك كان حافظًا لها، ومن إتقانه وتثبُّته -رحمه الله ورضي عنه- أنَّه ما كان يُحدِّث إلا من كتابٍ كما يقول عليّ بن المديني -رحمه الله- فقد قال: "أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أُحدِّث إلا من كتابٍ"، وهذا غاية في الإتقان والتَّثبُّت.

فأحمد هذا من إتقانه وحفظه لكتبه كان يقول لابنه عبد الله: "يا بني، افتح أيَّ كتابٍ من كتبي واذكر لي السند أذكرُ لك المتنَ، واذكر لي المتن أذكرُ لك السند"، فالمسألة بسيطةٌ جدًّا، وليس لديه مشاكل، وطبعًا لم يكن عنده كتابٌ مثل هذا، فإنَّه لما مات -رحمه الله- أرادوا أن ينقلوا كتبَه من مكانٍ لآخر، فوضعوا كتبه على ستة عشر بعيرًا، فكلُّ بعيرٍ يحمل كم كتابٍ؟ طبعًا الكتب كانت كلها بخط اليد، فإذا كان المجلد أو السفر مثلًا 1000 صفحة، أو 500 صفحة، أو 700 صفحة، فإنَّه لو طُبع اليوم فيُمكن أن يكون في 10 مجلدات. هكذا كانوا من الحفظ.

وإليكم نموذج من الحفظ عندهم: فقد أراد الإمام ابن عمرو ابن أبي عاصم أن يكتب من حفظه أحاديث فوجد صاحبَ دُكانٍ كلما أغلق دكانه في الليل ترك مصباحًا على باب الدُّكان، فعنَّت له فكرة، وهي أن يأتي كلَّ ليلةٍ بعد أن يُغلق صاحب الدُّكان دكانه، فيأتي بالأوراق فيكتب ما يحفظه في صدره من الأحاديث في أوراقٍ، ففعل هذا مُدَّةً، فكتب بيده من حفظه ثلاثين ألف حديثٍ، وطبعًا الحديث عندهم سند ومتن، فقد كتب من حفظه في أوراقه ثلاثين ألف حديثٍ، ثم تذكَّر بعد ذلك -وهذا هو الورع- أنَّه لم يستأذن من صاحب المصباح، فأخذ الأوراق فألقاها في النَّهر ثم كتبها ثانيةً.

فهذا نموذجٌ من حفظ هؤلاء الأعلام -رضي الله عنهم ورحمهم الله عز وجل.

طيب، هنا العدالة والضبط، فعندنا إسنادٌ مُتَّصلٌ، فكلُّ راوٍ من رواة الإسناد عرفناه، وعرفنا أنَّه عدلٌ، وأنَّه ضابطٌ.

وقد يسأل سائلٌ: يا شيخ، عرفنا أنَّ هذا الرجل عدلٌ ضابطٌ، فهل نأمن عليه الخطأ؟ أهو معصومٌ من الغلط؟ أم أنَّ العصمة قد دُفنت بموت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وليس هناك معصومٌ بعد رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم؟

نقول له: لا، قد يُخطئ.

إذن أليس من الممكن أن يقع من هذا الرجل الذي تصفه بالعدالة والضبط الخطأ عن غير قصدٍ ولو مرةً في حياته؟ ولو في حديثين، أو ثلاثة؟

نقول له: نعم، هذا واردٌ.

طيب، كيف نُميز هذا؟ إذن أنتم يا مُحدِّثين ليس عندكم ضوابط كاملة، فلا تستطيعون أن تُعطونا أحاديث نطمئن إلى صحَّتها؛ لأنَّكم تعتمدون على رواةٍ أنتم تقولون أنَّهم عُدولٌ ضابطون وتعترفون أنَّه من الممكن أن تقع لهم أخطاء، فكيف تهتدون إلى تلك الأخطاء؟

نقول: لا، لم يمر هذا على المُحدِّثين، ولهذا قالوا: (وَلَم يَشِذَّ أَو يُعَلَّ). فاشترطوا في صحَّة الحديث شرطين آخرين مُتعلِّقان بالرواية لا بالراوي.

فالشَّرطان المُتعلِّقان بالراوي هما: العدالة، والضبط.

لكن هناك شرطان آخران لا علاقةَ لهما بالراوي، إنَّما تعلُّقهما بالرواية نفسها، وهما أن تكون الروايةُ سالمةً من الشُّذوذ، وأن تكون الرواية سالمةً من العلة.

ما معنى سالمة من الشُّذوذ وسالمة من العِلَّة؟

نحن نعلم أنَّ الراوي بشرٌ من البشر، يُصيب كما يُصيب الناس، ويُخطئ كما يُخطئ الناس، وكونه عدلًا ضابطًا يجعلنا نطمئن إلى أنَّ أغلب أحاديثه صواب، لكن هل نستطيع أن نجزم بأنَّ كلَّ أحاديثه صواب؟

لا، لا نجزم بهذا.

إذن: هناك بعض الأخطاء، فكيف نضع أيدينا على تلك الأخطاء ونُميزها؟

عن طريق تحقق سلامة الحديث من الشُّذوذ والعِلَّة.

فالشُّذوذ والعِلَّة هما سببان يعتريان الرواية نفسها، يدلُّ كلٌّ منهما على أنَّ هذا الراوي الثِّقة الذي هو في الأصل يُصيب أخطأ في هذا الحديث بعينه.

نقول مرةً ثانيةً: كون الراوي عدلًا ضابطًا يجعلنا نطمئن إلى أنَّ أغلب أحاديثه صحيحة، صواب؛ لأنَّه مُتقِنٌ ضابطٌ، لكن قد يُخطئ مرةً في حياته.

قال الشاعر:

شَخَصَ الأَنَامُ إِلَى كمَالِكَ فاستَعِذْ *** مِن شَرِّ حَاسِدِهِمْ بِعَيْبٍ واحدِ

وقال الآخر:

وَمَن ذَا الَّذي تُرضَى سَجَايَاهُ كُلُّها *** كَفَى المَرءَ نُبْلًا أَن تُعَدَّ مَعَايِبُهْ

فكلُّ إنسانٍ عرضة للخطأ، فسيدنا يحيى بن معين -رحمه الله- يقول: "لست أعجب ممن يُخطئ، إنَّما أعجب ممن لا يُخطئ"، فهذا هو الذي يُتعجَّب له، كيف لا يُخطئ وهو بشرٌ من البشر؟!

قال العلماء: هذا الراوي الثِّقة أخطأ في هذا الحديث. كيف؟ يقولون: شُبِّه له فأخطأ عن غير قصدٍ، وتوهَّم شيئًا على غير حقيقته.

كيف عرفتم ذلك؟ نظرنا في روايته فعرفنا كونها خطأ، يعني تلك الرواية بعينها، لا كل رواياته.

ما الذي لاحظتموه في الرواية فعرفتم من خلاله أنَّها خطأ؟

قالوا: وضع العلماءُ -عليهم رحمة الله- أحاديثَ كلِّ راوٍ من رواة الحديث تحت المنظار، ودرسوها دراسةً مُستفيضةً، بحيث عرفوا ما أصاب فيه وما أخطأ فيه، كيف يعرفون ذلك؟

بأحد أمرين، وهذان الأمران كُليَّان تندرج تحت كلٍّ منهما فروعٌ كثيرةٌ:

الأمر الأول: الاختلاف، كيف؟ أن يأتي الراوي فيروي حديثًا -وهو ثقة على العين والرأس- لكننا نجد مَن هم أوثق منه قد رووا نفس الحديث فخالفوه، سواء كان الخلافُ في الإسناد أو في المتن، فنفهم من تلك المخالفة أنَّ هذا الراوي الذي خالف الأحفظ والأوثق والأتقن والأكثر عددًا أخطأ في هذا الحديث بعينه، واستدللنا بتلك المخالفة على كون ذلك الراوي الثِّقة أخطأ هاهنا على وجه التَّحديد.

مثلما يكون هناك رجلٌ نحن نثق فيه، ثم يأتي فيُخبرنا بخبرٍ، ثم نُفاجأ بأنَّ هناك مَن هو أوثق منه يقول غير ما قاله، أو عددٌ كثيرٌ من الثِّقات يقولون شيئًا بخلاف ما قال، فنقول: أنت عندنا ثقة ولكنَّك توهَّمت، فأخطأت عن غير قصدٍ في هذا الموضع، وجلَّ مَن لا يسهو، أليس كذلك؟

وهنا نجعل هذا الحديث شاذًّا أو معلولًا، ولا نقبله ونرده، ولا نحكم له بالصحة مع كوننا نعترف بأنَّ راويه ثقةٌ؛ لأنَّ الثقة إذا أخطأ مرَّتين أو ثلاثة نقول: هو ثقة ويُستثنى من حديثه ما قد أخطأ فيه، إنَّما الضعيف هو الذي يُخطئ كثيرًا، فليس من شأن الثقة ألا يُخطئ أبدًا وإلا كان معصومًا، وإنَّما الثقة قد يُخطئ في بعض الأحيان.

السبب الآخر: التَّفرُّد الذي لا يُحتمل: يعني أن يتفرد راوٍ بحديثٍ، وهذا الحديث فيه من المعاني ما لا يُحتمل معها أن يتفرد راوٍ بمثلها، وهذا الراوي قد يُقبَل حديثُه في غير هذه الأحاديث، أو في حديثٍ ليس فيه هذه المعاني التي لا يُحتمل فيها التفرد.

مثل أن يقول لنا شخصٌ: هناك زلزالٌ حصل في مصر اليوم. فهل مثل هذا الخبر يُقبَل من واحدٍ؟! وهل يُتصوَّر أن يقع زلزال ولا يطلع عليه إلا رجلٌ واحدٌ؟! أم شأن هذا الخبر أن يطلع عليه عمومُ الناس؟ أليس كذلك؟

فإذن: هناك أخبارٌ من شأنها أن تنتشر فلا تُقبَل من الواحد، أمَّا الأخبار التي ليس من الضروري أن تنتشر؛ فهذه تُقبَل من الواحد، وهذا كلامٌ طويلٌ يحتاج إلى تفصيلٍ ربما نتناوله -بإذن الله تبارك وتعالى- في لقاءاتٍ قادمةٍ.

المهم: هذا الاختلاف أو هذا التَّفرد الذي لا يُحتمل يُسميه العلماء بالشُّذوذ، ويُسمونه أيضًا بالعِلَّة.

وهناك مَن يُفرِّق بين الشُّذوذ والعِلَّة، وهناك مَن يجعلهما شيئًا واحدًا، لكن المهم أنَّ الوسيلة التي يُتوصَّل بها إلى خطأ الثِّقة إمَّا الاختلاف بين الرواة، وإمَّا التَّفرد الذي لا يُحتمل.

نكتفي بهذا القدر، ومَن كان عنده سؤالٌ يُقدِّمه -إن شاء الله تعالى- ونسأل الله تعالى أن يُعيننا على الإجابة عليه، تفضَّل.

{جزاك الله عنا كلَّ خيرٍ}.

بارك الله فيك.

{هل من الضَّروري ونحن نُحدِّث العامَّة أن نذكر راوي الحديث ودرجته؟}

إذا كنتُ في مجلسٍ عامٍّ ينبغي عليَّ ألا أذكر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا ما كان ثابتًا عنه، صحيحًا كان أو حسنًا، والحسن -إن شاء الله تعالى- سوف نشرحه لاحقًا، والصَّحيح والحسن كلاهما من الحديث الصَّحيح المقبول المُحتجِّ به، فلابُدَّ أن أنتقي وأنا أُحدِّث الناسَ الأحاديثَ الصَّحيحة أو الحسنة الثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فإذا كنت أعلم صحَّة الحديث أو حُسنه بطريقٍ من طرق العلم، فإمَّا أنني قرأته مثلًا في صحيح البخاري، أو في صحيح الإمام مسلم، أو سألتُ أهل العلم، أو اطَّلعتُ على تصحيح بعض العلماء المُعتمدين؛ فحينئذٍ ليس بالضَّرورة أن أذكر سندَه، ولا حتى أن أذكر كلامَ أهل العلم عليه ما دمتُ أنا مُطمئنٌّ إلى صحَّة الحديث، وأنني رجعتُ إلى أهل الاختصاص فأخبروني بذلك.

وطبعًا الموضوع لا تجوز روايته بحالٍ من الأحوال، لكن قد يكون الحديثُ ضعيفًا، وقد قال العلماءُ أنَّه ضعيفٌ، فإذا ما ذكرته لغرضٍ من الأغراض التي يحتاجها بعضُ الوُعَّاظ والمُذكِّرين؛ فأذكره بما يُفهَم منه أنَّه ليس ثابتًا عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.

ثم ينبغي أن يُحدَّث الناسُ بما يعرفون، أتُحبُّون أن يُكذَّب الله ورسوله؟! (فما أنت مُحدِّثٌ قومًا حديثًا لا تبلغه عقولُهم إلا كان لبعضهم فتنةً)، فلا ينبغي أن أستعمل المصطلحات العلمية التي قد لا يفهمها المُستمع، وإنَّما أُبيِّن للناس بطريقةٍ واضحةٍ فأقول: يا جماعة، هذا الحديث فيه ضعفٌ لكنَّه ضعفٌ خفيفٌ، والعلماء ضعَّفوا الحديثَ لكن معناه مُوافِقٌ للقرآن، أو مُوافِقٌ للأحاديث الصَّحيحة، فنحن نذكره على سبيل الاستشهاد والاستئناس، لا على سبيل الاحتجاج والاعتماد.

إذن أُبيِّن للناس هذا من باب النَّصيحة -بارك الله فيك- تفضَّل يا أخي.

{جزاك الله خيرًا فضيلة الشيخ، إذا كان الصحيح والحسن كلاهما مقبولين ويُحتجُّ بهما، فلماذا لا يكونان نوعًا واحدً؟}

بارك الله فيك، هذا سؤالٌ جيدٌ، فالعلماء -عليهم رحمة الله تعالى- تفنَّنوا في معرفة مراتب الأحاديث، فالأحاديث المقبولة مراتب، فمنها الصحيح، ومنها الحسن، ومنها ما هو في أعلى مراتب القبول، ومنها ما هو في أدنى مراتب القبول، والكل يشمله اسم "المقبول".

كذلك المردود، فهناك الكذب والباطل والموضوع والمُنكَر وما لا أصلَ له، وهناك الضَّعيف -كما أشرنا إلى ذلك في السؤال السابق- وكلها يشملها اسم المردود.

فلماذا يذكر العلماءُ مراتب الأحاديث سواء ما كان منها مقبولًا، أو ما كان منها مردودًا؟

لأنَّ هذا -وبخاصَّة في المقبول- ينفعنا عند التَّرجيح، فإذا ما تعارض حديثان كلاهما من المقبول وحاولنا أن نُوفِّق بين الحديثين وأن نجمع بينهما بوجهٍ من أوجه الجمع المُعتبرة عند أهل العلم فلم نستطع؛ حينئذٍ نلجأ إلى الترجيح، فنُرجِّح روايةً على روايةٍ.

فمعرفتنا بمراتب الروايات وأنَّ بعضها فوق بعضٍ، وأنَّ بعضها أعلى من بعضٍ؛ يُعيننا بطبيعة الحال على معرفة الراجح من المرجوح، أو القوي والأقوى، والصَّحيح والأصح، فكلُّ ذلك يُعيننا على الترجيح، وهذا علمٌ كبيرٌ اسمه علم مختلف الحديث، وسنتناوله ربما في دوراتٍ أخرى؛ لأنَّ الإمام البيقوني لم يتعرض لهذا النوع من الحديث.

{شيخنا -حفظكم الله- هل يمكن أن يكون الإسنادُ صحيحًا والمتن غير صحيحٍ؟}

بارك الله فيك، إذا نظرنا إلى المسألة من الجهة العلميَّة البحتة فلا يُعقَل هذا، ولا يمكن أن يكون الإسناد صحيحًا والمتن غير صحيحٍ، لماذا؟

لأنَّ معنى أنَّ الإسناد صحيحٌ أي أنَّ الرواة عُدولٌ ضابطون، والإسناد مُتَّصل، والحديث سالمٌ من الشُّذوذ، وسالمٌ من العِلَّة، فهذا هو الصحيح، فإذا كان كذلك فلابُدَّ أن يكون المتنُ صحيحًا.

لكن إذا قلنا: إنَّ السند ظاهره الصحة، ما معنى ظاهره الصحة؟

يعني الإسناد ظاهره الاتِّصال، فالرواة عدولٌ ضابطون، هذا من حيث الظَّاهر.

لكن قد يكون الراوي غلط عن غير قصدٍ -كما أشرنا آنفًا- فيكون حديثُه حينئذٍ شاذًّا أو معلولًا، فحينئذٍ يُفهم أنَّه قد يكون السندُ ظاهره الصحة، لكن المتن غير صحيحٍ؛ لأنَّ هذا الراوي الذي هو عدلٌ ضابطٌ ثقةٌ غلط في هذا المتن تحديدًا، فلم يكن هذا المتن الذي رواه صوابًا، نعم هو لم يُخطئ في السند، لكن أخطأ في المتن، واستدللنا على خطئه إمَّا بالاختلاف، أو بالتَّفرد الذي لا يُحتمل.

طبعًا قضية الاختلاف وقضية التَّفرد أبوابٌ واسعةٌ جدًّا، فلكي نتكلم في الاختلاف نحتاج إلى دورةٍ واحدةٍ، وكذلك التَّفرد، لكن عمومًا قولنا: السند ظاهره الصحة. غير قولنا: السند صحيح.

فظاهره الصحة يعني أنَّ الرواة عدولٌ ضابطون، والسند ظاهره الاتِّصال، لكن العدل الضَّابط من الممكن أن يُخطئ عن غير قصدٍ، فحينئذٍ يمكن أن يكون في المتن خطأ.

لكن مَن تحققت في حديثه الشروط الخمسة للحديث الصَّحيح؛ فلابُدَّ أن يصح المتنُ حينئذٍ. تفضَّل يا أخي.

{جزاكم الله عنا خيرًا، ونفع الله بكم، وأحسن الله إليكم، إذا كان كلٌّ من الشُّذوذ والعِلَّة يُدرَك بالتَّفرد والاختلاف، فلماذا لم يُكتَفَى في الحديث الصَّحيح بالسلامة من أحدهما ما داما بمعنًى واحدٍ؟}

هذا كلامٌ جميل، نحن قلنا: إنَّ الشُّذوذ والعلة كلاهما يُدرَك بالتفرد الذي لا يُحتمل، أو بالاختلاف بين الرواة.

وقلنا: التفرد الذي لا يُحتمَل أو الاختلاف إذا وقعا يُسمَّى الحديث شاذًّا، ويُسمَّى معلولًا، لكنني أشرتُ إلى أنَّ بعض أهل العلم يُفرِّق بين الشَّاذ والمعلول، والبعض الآخر يجعل الشَّاذ والمعلول بمعنًى واحدٍ، ولهذا اشترط ابنُ الصلاح وغيرُه من أهل العلم في الحديث الصَّحيح أن يكون سالمًا من الأمرين معًا، من الشُّذوذ ومن العِلَّة، لماذا؟

ليكون التعريفُ للحديث الصَّحيح شاملًا للحديث الصَّحيح عند جميع علماء الحديث؛ لأننا إذا قلنا: الحديث الصحيح هو "ما سلم من الشُّذوذ" فقط؛ سيأتي مَن يرى التَّفرقة بين الشَّاذ والمعلول ويقول: هذا التعريف غير جامعٍ؛ لأنَّ هناك أيضًا سببًا لابُدَّ أن يسلم منه الحديث الصحيح، ألا وهو العِلَّة.

ولو قلنا: إنَّ الحديث الصحيح لابُدَّ أن يكون سالمًا من العِلَّة فقط، سيأتي هذا الذي يرى التَّفرقة بين الشَّاذ والمعلول ويقول: أين السَّلامة من الشُّذوذ؟

فلأجل أن يكون التعريف شاملًا لتعريف الحديث عند علماء الحديث قاطبةً؛ اشترطنا في الحديث الصَّحيح أن يكون سالمًا من الأمرين: من الشُّذوذ والعِلَّة.

ونكتفي بهذا القدر؛ لأنَّ الوقت قد أزف، وإن شاء الله تعالى في اللِّقاء القادم نتناول الحديث الحسن، نسأل الله تعالى التوفيق والسَّداد، إنَّه ولي ذلك والقادر عليه.

سبحانك اللَّهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

http://islamacademy.net/cats3.php