مادة شرح متن البيقونية
لفضيلة الشيخ/ طارق عوض الله
تفريغ الدرس (1)
إن الحمد لله تعالى نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70، 71].
أمَّا بعد:
فإنَّ خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النار.
وبعد:
من هذه الليلة وهذا اللقاء سنبدأ معًا -بإذن الله تبارك وتعالى- في دراسة المنظومة البيقونية في علم مصطلح الحديث، وهذه المنظومة المباركة من المنظومات اللَّطيفة، فهي لطيفة في أبياتها، فعدد أبياتها (34) بيتًا، وهي أيضًا مُشتملة على مُهمَّات هذا العلم الشريف، ولهذا كتب الله -عز وجل- لها القبول، فما زالت في مجالس الدرس، وما زال العلماء ينصحون بحفظها وتفهمها، وما زال طلبة العلم -بحمد الله تبارك وتعالى- حريصين على حفظها وتحصيلها وتفهمها ومعرفة ما تناولته واشتملت عليه من مباحث ودروس.
سنشرع -إن شاء الله تبارك وتعالى- من خلال هذه الدورة العلمية في دراسة هذه المنظومة، نسأل الله تعالى التوفيق والسَّداد.
هذه المنظومة تتناول علم مصطلح الحديث، وعندما نتكلم عن مصطلح الحديث لابُدَّ من أن نكون مُتفهِّمين لبعض القضايا والأمور الكُليَّة قبل أن نخوض في شرح هذه المنظومة المباركة، فعلم مصطلح الحديث من العلوم المُهمة جدًّا، والتي على أساسها نستطيع أن نعرف ما صحَّ من الحديث، وما لم يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
وهذا العلم الشريف -علم مصطلح الحديث- من العلوم التي تُعدُّ من علوم الأصول، أو كما يُعبِّر بعض أهل العلم بـ"علوم الآلات" التي تفتقر سائر العلوم إليها، فالفقيه مثلًا يحتاج إلى هذا العلم، والمُشتَغِل بالتفسير يحتاج إلى هذا العلم، والمشتغل بالتاريخ يحتاج إلى هذا العلم، فهو بالنسبة للفنون كنسبة الحَدَق للعيون، فكما أنَّ العين لا تنظر إلا عن طريق الحدقة، فكذلك الناظر في العلوم الشَّرعية لا ينظر إلا عن طريق علم الحديث؛ لأنَّ العلوم الشرعية إنما تُبنى على كتاب الله، وعلى سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
وسُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها الصحيح الثابت عن رسول الله -عليه الصلاة والسلام- وفيها بعض الأحاديث التي أخطأ فيها بعضُ الرُّواة عن غير قصدٍ، أو تعمَّد اختلاقَها وكذبَها بعضُ مَن لا دين له، فكان السبيلُ إلى تمييز ما صحَّ وما لم يصح إنَّما هو الإسناد والنظر في الإسناد، ومعرفة مناهج علماء الحديث في دراسة الإسناد الذي به يتبين ما صحَّ من الحديث وما لم يصح منه.
فكان لعلم الحديث هذه الأهمية العظيمة، وكان هذا العلمُ الشريف داخلًا في سائر العلوم الشرعية، فما من مُتحدِّثٍ في جانبٍ من جوانب الشَّريعة إلا ولابُدَّ أن تكون عنده معرفةٌ واطلاعٌ بأحكام علماء الحديث على الأحاديث المروية عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- وكيفية التَّمييز بين ما صحَّ منها، وما لم يصح ولم يثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
تُلاحظون -إخواني الكرام- أننا عندما نتناول هذا العلم نُسميه بأكثر من اسمٍ، فنحن سبق وأن ذكرنا أنَّ من أسمائه "مصطلح الحديث"، فهو علم مصطلح الحديث، أو علم المصطلح، وأيضًا يُسمى بعلم الحديث، أو بعلوم الحديث، أو بأصول الحديث، وربما يُسمونه بعلم النقل، أو بعلم الرواية، وكلُّ هذه الأسماء صادقة على هذا العلم الشريف، لكن كلَّ اسمٍ من تلك الأسماء يتناول هذا العلم من جانبٍ من جوانبه؛ لأنَّ هذا العلم له جوانب كثيرةٌ جدًّا، فكلُّ اسمٍ من هذه الأسماء يُعبِّر عن جانبٍ من هذه الجوانب، ونحن سنُركِّز على جانبين اثنين، هما أهم هذه الجوانب:
الجانب الأول: هو الجانب الاصطلاحي.
والجانب الآخر: هو الجانب التَّأصيلي.
ومن هنا سنأخذ هذين الاسمين:
الاسم الأول: مصطلح الحديث.
والاسم الآخر: أصول الحديث.
هذا العلم الشريف يتناوله علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- في كلِّ بابٍ من أبوابه، وفي كلِّ نوعٍ من أنواعه من جانبين اثنين:
الجانب الأول: ما يُسمَّى بالاصطلاح.
والجانب الآخر: ما يُسمَّى بالتأصيل.
ما معنى كلِّ جانبٍ من هذين الجانبين؟
الجانب الاصطلاحي معناه: المعنى المقصود من كلِّ كلمةٍ وعبارةٍ واسمٍ يستعمله علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- وهم يتناولون هذا العلم.
فنجد أنَّ هذا العلم كسائر العلوم؛ فأهله المُتخصِّصون فيه يستعملون بعض العبارات، وبعض الأسماء التي تُسمى بالمصطلحات، فيا تُرى ما معاني هذه المصطلحات؟
فإذا ما قال العالم المُحدِّث: هذا حديث صحيح. هذا حديث حسن. هذا حديث ضعيف. هذا حديث مُعْضَل. هذا حديث مرسل. هذا حديث مقلوب. هذا حديث مُدْرَج.
فهذه كلمات يستعملها علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- وكلُّ كلمةٍ منها لها معنى عند علماء الحديث.
فوظيفة المُشتغل بعلم المصطلح هو: بيان المعنى المراد من تلك الكلمات، حيث يستعملها علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- فإذا قال المُحدِّث: هذا حديث صحيح. فماذا يقصد؟ ماذا يريد أن يقول؟
إذا قال: هذا حديث مقلوب. ماذا يريد من هذه العبارة؟ ما المعنى الذي قصده من هذه الكلمة؟
وهكذا سائر أنواع وأسماء علوم الحديث.
هذا هو ما يُسمَّى بالجانب الاصطلاحي.
أمَّا الجانب التأصيلي: فقد عرفنا معنى كلمة "صحيح"، وعرفنا معنى كلمة "حسن"، وعرفنا معنى كلمة "منقطع"، وكلمة "مُعْضَل"، وكلمة "مُدْرَج"، وكلمة "مقلوب". عرفنا معاني هذه الكلمات، حيث يستعملها علماء الحديث -عليهم رحمة الله- فما الأحكام المترتبة على ذلك؟
عرفنا أنَّ الحديث الصحيح له معنًى مُعين، فإذا ما قال المحدِّث: هذا حديث صحيح. يقصد هذا المعنى. لكن بعد أن عرفنا هذا المعنى؛ هل يُعد الحديث الصحيح من المقبول أم من المردود؟
إذن نحن بهذا ننتقل إلى ما يتعلَّق بالجانب الحُكمي التأصيلي، فبعد أن عرفنا المعنى المراد من كلمة "صحيح" انتقلنا بعد ذلك إلى جانبٍ آخر من جوانب هذا النوع، وهو هذا الحديث الذي يُسمَّى بالحديث الصحيح -وعرفنا معناه عند علماء الحديث- هل هو من المقبول عندهم أم من المردود؟
كذلك الحديث الحسن، والضعيف، والمُرسَل، والمُنْقَطِع، والمُعْضَل، والمُدْرَج، والمُضطَرب، والمقلوب، فعرفنا معاني هذه العبارات وتلك الأسماء عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى.
بعد أن عرفنا هذا -وهذا هو ما يُمثِّل الجانب الاصطلاحي- يا تُرى هذه الأنواع تندرج تحت قسم المقبول أم تحت قسم المردود؟
إذن إذا تناول عالِمٌ من علماء الحديث المعنى المقصود من عبارةٍ من العبارات التي يستعملها علماء الحديث فهو يتكلم عن الجانب الاصطلاحي، أمَّا إذا تناول هذا النوع نفسه ولكن من حيث القبول والرد: متى يكون مقبولًا؟ ومتى يكون مردودًا؟ هل هو معدودٌ من جملة المقبول أم من جملة المردود؟ فهو يتناول هذا النوع من جانبٍ تأصيلي، وليس من جانبٍ اصطلاحي.
ومن هنا نحتاج إلى أن نعرف المقصود من كلمة الاصطلاح، فما معنى الاصطلاح؟
نحن نستعمل هذه العبارة كثيرًا، وهذا العلم يُسمَّى بعلم المصطلح أو علم مصطلح الحديث، لكن كلمة الاصطلاح ليست من خصوصيات هذا العلم، فما من علمٍ من العلوم إلا وأهله المتخصِّصون فيه لهم اصطلاحات يختصُّون بها، بمعنى أنَّ لهم كلمات وعبارات يُطلقونها ويستعملونها حال بحثهم في هذا العلم أو ذاك، ويريدون منها معانٍ معينة.
فالمهندسون، والأطباء، والمؤرخون، وغيرهم من أهل الاختصاص في علومهم يستعملون عبارات، وهذه العبارات يقصدون من ورائها معانٍ معينة، تلك المعاني يعرفها أهل الاختصاص بهذه العلوم، وكذلك علم الحديث، فعلماء الحديث يستعملون عبارات، وهذه العبارات لها معانٍ عند علماء الحديث.
فلابُدَّ لدارس المصطلح أن يتفهم هذه المعاني لتلك الأسماء والكلمات والألفاظ؛ حتى يستطيع أن يتفهم مراد علماء الحديث -رحمهم الله تبارك وتعالى- على الوجه الصحيح؛ لأنَّ المصطلح صار كاللغة -لغة القوم- فهذه هي اللغة التي يتحدث بها علماء الحديث، فإذا قال الواحد منهم: صحيح، فغيره من علماء الحديث يفهم المراد من هذه الكلمة، إذن هو يفهم اللغة التي يتحدث بها ذلك المُحدِّث. وكذلك الأمر إذا قال: مرسل. أو قال: معضل. أو قال غير ذلك من العبارات والمصطلحات، فهو يفهم مراد ذلك المُحدِّث حيث أطلق هذه الكلمات.
إذن هو يفهم اللغة، وبدون معرفة لغة القوم لا تستطيع أن تتفهم مناهجهم ولا مذاهبهم ولا عاداتهم ولا تقاليدهم، فاللغة هي الباب الذي من خلاله تستطيع أن تفهم الشُّعوب، وتفهم الناسَ، وتفهم الأقوام، فبدون معرفة المصطلح وبدون معرفة مراد المُحدِّثين من هذه العبارات؛ لا يمكن لك بحالٍ من الأحوال أن تعرف مناهجهم، أو مذاهبهم، أو أصولهم في هذا العلم الشريف.
إذن كأن دراسة علم المصطلح هي السُّلم الذي يُوصلك إلى معرفة مناهج علماء الحديث في قبول الحديث أو ردِّه.
والاصطلاح هو -كما يقولون- اتِّفاق طائفةٍ ما على شيءٍ ما. ولكلِّ علمٍ اصطلاحه.
فعلماء الحديث إذا ما قالوا: صحيح. يقصدون من كلمة "صحيح" معنى خاصّ يختصُّون به، وهكذا سائر العبارات التي يستعملها علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى.
لكن ما معنى قولنا: ولكلِّ علمٍ اصطلاحه؟
هل معنى ذلك أنَّ لكلِّ علمٍ ألفاظًا ومصطلحاتٍ لا توجد في غير هذا العلم من العلوم؟
ليس ذلك مراده، فقد يكون المصطلح من حيث اللَّفظ مُستعملًا في أكثر من علمٍ إذا نظرنا إلى المصطلح من حيث اللفظ.
لكنَّه من حيث المعنى: كلُّ علمٍ من تلك العلوم التي يُستعمل فيها ذلك اللَّفظ له معنى يختصُّ به أهلُ هذا العلم عن غيره من العلوم.
فمثلًا: عندما نأتي إلى كلمة "الخبر"، هذا مصطلح، فكلمة "الخبر" مصطلح، وهو من المصطلحات التي يستعملها علماء الحديث، فكلمة "الخبر" لها معنى معروف سنتناوله -إن شاء الله تعالى- عند علماء الحديث -رحمة الله عليهم جميعًا.
لكن لفظ "الخبر" مُستعمل في علومٍ أخرى، فنحن نجد في علم النحو "الخبر"، فعلماء النحو يقولون: الجملة الاسمية تتركب من جزأين: مبتدأ وخبر.
فهل يا تُرى الخبر الذي يستعمله علماء النحو هو نفسه الخبر الذي يستعمله علماء الحديث؟
لا، فاللفظ هو اللفظ، وهذا ما يُسمَّى عندهم بالمُشترك اللَّفظي، وهو اشتراكٌ في اللفظ ليس أكثر.
لكن علماء النحو يُطلقون "الخبر" على معنى يختصُّ بعلم النحو، وعلماء الحديث يُطلقون "الخبر" على معنى آخر يختصُّ بعلماء الحديث.
فالخبر عند النَّحويين: هو الجزء المُتمم للفائدة في الجملة الاسمية، فتقول: المدرس موجودٌ.
إذن: "موجود" هنا هو الخبر الذي تمَّ به المعنى المراد من تلك الجملة.
لكن عندما تدرس علم الحديث، ويرد في الدرس أو في بعض كلمات علماء الحديث مصطلح "الخبر" فهل يرد على ذهنك جملة أم غير جملة؟ اسمية أم فعلية؟
لا يرد هذا على ذهنك أبدًا، وإنما تفهم من استعمال ذلك المُحدِّث من كلمة "خبر" معنى آخر تمامًا؛ ألا وهو: ما يُنقَل أو يُروى من الأقوال أو الأفعال عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أو عن غيره من الصحابة أو التابعين؛ لأنَّ الخبر يشمل كلَّ هذا مما يُنقَل ويُروى.
إذن اللفظ هو اللفظ، لكن معناه عند علماء النحو يختلف تمامًا عن معناه عند علماء الحديث، وهذا معنى قولنا: (ولكلِّ علمٍ اصطلاحٌ). أي لكلِّ علمٍ معنى يختصُّ به لهذه الألفاظ التي قد تكون مُشتركةً في أكثر من علمٍ من حيث اللفظ.
هذا الكلام مهم جدًّا؛ لأنَّك مثلًا إذا أردت أن تعرف مصطلحًا حديثيًّا، هل تفتح كتب اللغة لتعرف معنى هذا المصطلح؟
لا، هذا المنهج غير صحيحٍ، مع أنَّ هذا اللفظ له معنى في اللغة، لكن هذا الصنيع غير صحيحٍ من حيث المنهج؛ إنَّما نحن نريد أن نتفهم مراد علماء الحديث خاصَّة من استعمالهم لهذا اللفظ على وجه التَّحديد، فنلجأ حينئذٍ لمعرفة معنى هذا المصطلح عند علماء الحديث.
ولهذا قد يختلف معنى اللفظ الاصطلاحي عن معناه اللُّغوي، ولئن كان المصطلح عبارةً عن لفظٍ له معنى في اللغة، لكن ليس بالضرورة أن يكون معناه في اللغة هو نفسه معناه في علم الحديث، أي في مصطلح الحديث.
مثال ذلك: لفظ "الحديث"، فأنت إذا فتحت كتب اللغة أو معاجم اللغة لتعرف معنى كلمة "الحديث" ستجد علماء اللغة يقولون: إنَّ "الحديث" له أكثر من معنى، منها: الكلام، مثل: حدَّثتُك وحدَّثتني، وكلَّمتُك وكلَّمتني.
أو الجديد، مثل: هذا شيءٌ حديثٌ، وهذا شيءٌ قديمٌ.
إذن "الحديث" هنا جاء بمعنى الكلام، وجاء بمعنى الجديد، وأنت عندما تتناول علم الحديث وتقول: علم الحديث، ويرد على ألسنة العلماء كلمة "حديث"، مثل: حديث صحيح، وحديث ضعيف، وحديث حسن، فهل يرد على ذهنك شيءٌ مما قرأته في كتب اللغة؟ أم تفهم من كلمة "حديث" معنى آخر، ألا وهو: ما يُنسَب ويُضاف إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- من أقوالٍ أو أفعالٍ أو تقريرٍ.
إذن: هنا نستطيع أن نضع إطارًا عامًّا لفهم قضية المصطلح، فليس المصطلح بالضرورة يكون معناه مُوافقًا للمعنى اللُّغوي اللَّفظي، وليس المصطلح بالضرورة يكون معناه في سائر العلوم التي استُعمِل فيها ذلك المصطلح واحدًا، فقد يكون له معنى في علمٍ، واللَّفظ هو اللَّفظ وله معنى آخر في علمٍ آخر.
بل الأمر أبلغ من ذلك، فقد يُستعمل في العلم الواحد مصطلحٌ واحدٌ تارةً على معنًى، وتارةً أخرى على معنًى آخر، مع أنَّ المصطلح هو المصطلح، والعلم علمٌ واحدٌ، وذلك إمَّا أن يكون باختلاف الزمان، بمعنى أنَّ المصطلح كان في عصورٍ مُعينةٍ له معنى، ثم تطور هذا المصطلح حتى صار له معنى آخر في بعض العصور الأخرى.
أو ربما يختلف معنى المصطلح من بلدٍ إلى بلدٍ، فقد يكون هذا المصطلح نفسه إذا استعمله أهلُ بلدٍ معينٍ له معنى، أو أهل بلدٍ أخرى له معنى آخر.
أو باختلاف العلماء، فعالِمٌ مثلًا إذا ما ورد هذا المصطلح على لسانه يقصد منه معنًى معينًا، وعالِمٌ آخر قد يستعمل نفس المصطلح لكنَّه يقصد به معنى آخر غير الذي قصده الأول.
بل العالم الواحد قد يُطلِق المصطلح الواحد تارةً على معنى، وتارةً أخرى على معنى آخر.
مثلًا: مصطلح "ثقة"، فكلمة "ثقة" تُستعمل بكثرةٍ عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- وهذا المصطلح يستعمله علماء الحديث على معانٍ متعددةٍ، فتارة يقولون: فلان ثقة. ويقصدون أنَّه تحقق فيه وصفان:
الوصف الأول: العدالة.
والوصف الثاني: الضَّبط.
فأيُّ راوٍ من رواة الحديث لكي يكون مقبولَ الرواية مُحتجًّا بحديثه لابُدَّ أن يتصف بهذين الوصفين: العدالة والضَّبط.
العدالة: ما يتعلَّق بالديانة، أو ما يتعلَّق بالأمانة، بمعنى: لا يتعمَّد كذبًا. وبمعنى: لا يكون فاسقًا. وبمعنى: لا يكون مُغَفَّلًا. وبمعنى: لا يكون كافرًا.
فكلُّ ذلك يدخل في مُسمَّى أو في معنى العدالة، كما قال الله: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ﴾ [الطلاق: 2]، فالعدل هو: مَن تُقبَل شهادته، فهل تُقبَل شهادة الكافر؟ وهل تُقبَل شهادة الفاسق؟
لا.
فكلُّ ذلك داخلٌ في معنى العدالة.
فراوي الحديث لابُدَّ أن يكون موصوفًا بهذا الوصف: العدالة.
لكن قد يكون عدلًا ولكن لم يُرزق مَلَكَة الحفظ، وليس كلُّ مَن كان ديِّنًا عدلًا يكون ضابطًا مُتقنًا؛ لأنَّ الضبط والإتقان هبةٌ من الله -عز وجل- وهي أيضًا أمرٌ يُكتَسَب، يترقَّى الإنسانُ فيه، فكلما تعود الإنسانُ على الحفظ والإتقان وأخذ بأسباب ذلك؛ حصل له من الإتقان والتَّثبت ما يكون حجَّة إذا ما روى الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن الضبط هذا مهمٌّ جدًّا في الراوي؛ لأنَّ الراوي إذا كان عدلًا ديِّنًا أمينًا لكنَّه لا يُتقن حفظ الأحاديث قد يُخطئ عن غير قصدٍ، لا عن تعمُّدٍ.
فإذن: إذا ما أكثر الخطأ فيما يرويه عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لن يكون ضابطًا، فلن يكون مقبولَ الرواية.
إذن الراوي لا يكون مقبولَ الرواية إلا إذا تحقق فيه هذان الوصفان: وصف العدالة، ووصف الضبط.
وعلماء الحديث اختصروا التَّعبير عن هذين الوصفين بكلمةٍ واحدةٍ، فقالوا: ثقة. فإذا ما قال الواحد منهم: فلان ثقةٌ. فأنت تفهم تلقائيًّا أنَّ هذا الراوي موصوفٌ بالعدالة والضبط معًا.
إذن صار المصطلح -مصطلح "ثقة"- كلمة واحدة يُعبَّر بها عن معانٍ كثيرةٍ؛ لأنَّ "العدالة" لها معانٍ، و"الضبط" له معانٍ، فتلك المعاني كلها أُجملَت في كلمة "ثقة". فإذا ما قال الواحدُ من علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى: فلان ثقة، فمعناه أنَّه عدلٌ بأوصاف العدالة وشرائطها، ضابطٌ بأوصاف الضبط وشرائطه.
فإذن صارت كلمة "ثقة" يُعبَّر بها عن تحقق هذين الوصفين في الراوي: العدالة والضبط، هذا من معاني كلمة "ثقة".
بعض العلماء أحيانًا يُطلق كلمة "ثقة" بمعنى عدل فقط، أي أنَّ الراوي موصوفٌ بأوصاف العدالة وإن لم تكن قد تحققت فيه أوصاف الضبط، فإذن كلمة "ثقة" هنا جاءت بمعنى عدل، وهنا صار للمصطلح أكثر من معنى.
هناك علماء آخرون -وهذا في العصور المتأخِّرة- يستعملون كلمة "ثقة" على مَن صحَّ حضوره لمجلس السَّماع وتلقيه عن الشيخ المُسْمِع ما قد حدَّث به من كتابٍ أو من مروياتٍ، وإن لم يكن عدلًا ولا ضابطًا، ما معنى هذا؟
يعني عندما يقول: حدَّثني فلانٌ، أو أجاز لي فلانٌ. فهو صادقٌ في هذه الدَّعوة، لماذا؟ لأنَّه فعلًا حضر المجلس الذي حدَّث فيه الشيخُ بهذا الكتاب، فهو صادقٌ في قوله: "حدثنا"، وفي قوله: "أجاز لي الشيخ الفلاني بالكتاب"، وإن كان هذا الراوي نفسه ليس من علماء الحديث، وليس من المُتثبتين في الحديث، بل قد يكون مطعونًا أصلًا في عدالته، اللَّهم إلا في هذا القدر الذي حكاه عن ذلك الشيخ ورواه عنه، فيُقبَل منه دون غيره.
وهذا موجودٌ في المتأخِّرين؛ لأنَّ عناية المتأخرين إنَّما هي رواية الكتب لا رواية الأحاديث مفردةً، والكتاب محفوظٌ سواء رواه ذلك الراوي أو لم يروه، فيقولون: "ثقة" أي هو صادقٌ في ادِّعائه هذه الإجازة عن شيخه الذي ادَّعى أنَّه أجازه.
إذن صارت كلمة "ثقة" لها أكثر من معنى، باختلاف العلماء الذين أطلقوها، أو باختلاف العصور التي أُطلقت فيها تلك العبارة، وهذا كما قلنا في أول الدرس ينبني عليه ماذا؟ ينبني عليه الأحكام المترتبة على هذا الفهم لذلك المصطلح.
نحن قلنا أنَّ معرفتنا بمعاني المصطلحات هو ما يُمثِّل الجانب الاصطلاحي، أمَّا معرفتنا بما يتعلَّق بالقبول والرد فهو ما يتعلَّق بالجانب التأصيلي، وهنا ينجلي هذا الأمر، فكلمة "ثقة" إذا أطلقها العالمُ مُريدًا بها وصف الراوي بالعدالة والضبط فينبني على ذلك أنَّ حديث هذا الراوي الذي قيل فيه ثقة، وأُريد أنَّه عدلٌ ضابطٌ؛ يكون مقبولَ الرواية أم لا؟ تكون روايته مقبولةً؛ لأنَّه تحقق فيه شرط قبول الرواية، ألا وهو: العدالة والضبط -أي في الراوي.
وإذا وجدنا عالمًا آخر أطلق نفس اللفظ -أعني "ثقة"- وأراد وصف الراوي بالعدالة دون الضبط، فهل يكون هذا الراوي الموصوف بالثقة مقبول الرواية؟
لا يكون مقبول الرواية؛ لأنَّه لم يُوصف بالضبط رغم أنَّه أُطلِقَ عليه ذلك اللفظ الذي اعتاد غيره أن يُطلقه على العدل الضابط، فهذا ثقة، وهذا ثقة، ولكن معنى "ثقة" هنا يختلف عن معنى "ثقة" هنا.
وعليه؛ فهذا الثقة الأول مقبول الرواية، والثقة الآخر غير مقبول الرواية، وهنا نعرف العلاقة الوثيقة التي تربط بين الجانب الاصطلاحي، والجانب التَّأصيلي.
فلابُدَّ إذا ما قرأت مُصطلحًا من المصطلحات العلميَّة في كلام أهل العلم، وفي كتب أهل العلم، وفي بحوث أهل العلم؛ قبل أن تبني على هذا اللفظ الذي استعمله ذلك العالم حكمًا لابُدَّ أن تعرف مراده من هذا اللفظ، هل أراد المعنى الفلاني فيكون حينئذٍ يقصد به القبول؟ أم أراد معنًى آخر لا يقتضي ولا يتضمن القبول؟
حينئذٍ لابُدَّ لنا -إخواني الكرام- ونحن ندرس البيقونية أن نكون على تفهم لذلك، فكلُّ نوعٍ من الأنواع التي سيتناولها الإمامُ البيقوني في هذه المنظومة لابُدَّ أننا سنُعرِّج فيه على الجانب الاصطلاحي، والجانب التأصيلي.
لكن الإمام البيقوني -نظرًا لأنَّ هذه المنظومة مُختصرةٌ- عُنيَ بالدرجة الأولى بالجانب الاصطلاحي؛ لأنَّ هذه المنظومة إنَّما هي للمُبتدئين، الذين هم في حاجةٍ إلى معرفة معاني تلك المصطلحات عند علماء الحديث، فعُنيَ فقط في هذه المنظومة المُختصرة بشرح وبيان المعاني التي يقصدها علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى- من هذه المصطلحات، ولم يُعرِّج على ما يتعلق بالقبول أو الردِّ؛ لأنَّ هذا له مكان آخر أكثر توسُّعًا من هذه المنظومة.
لكننا بالضرورة -ونحن نتناول الجانب الاصطلاحي حال شرحنا لهذه المنظومة- لابُدَّ أننا سنُعرِّج على الجانب التأصيلي، ونُبين كلَّ نوعٍ من تلك الأنواع، هل هو يندرج تحت جانب القبول أو جانب الرد؟
وإذا كان في هذا النوع بعض التفصيل سنُشير أيضًا إلى ذلك بنوعٍ من الإيجاز والاختصار، وهذا ما يتناسب مع هذه المنظومة المُختصرة.
لكن لابُدَّ -كما قلنا آنفًا- من تصور هذا الأمر، فنحن حينما نتناول أيَّ نوعٍ من أنواع علوم الحديث لابُدَّ أن تُفرِّق بين تناولك للجانب الاصطلاحي وتناولك للجانب التأصيلي، ولا تُدخِل مباحث مُتعلقة بالاصطلاح في مباحث متعلقة بالقبول أو الرد -أي الجانب التأصيلي- فربما يُؤدي ذلك بك إلى اللَّبس وعدم فهم كلام العلماء -عليهم رحمة الله تبارك تعالى.
سنجتهد -إن شاء الله تعالى- في شرح هذه المنظومة، وقبل أن نبدأ في شرحها سنقرؤها جملةً واحدةً، ثم بعد ذلك نتناولها بالشرح إلى أن يُيسر الله -عز وجل- في إتمامها قبل انتهاء هذه الدورة، فنبدأ في قراءتها، وهي طبعًا -كما قلنا- أبياتها قليلة للغاية.
يقول النَّاظم -رحمه الله تبارك وتعالى:
مُحمدٍ خَيْرِ نَبيٍّ أُرْسِلَا
أَبْدَأُ بالحَمْدِ مُصَلِّيًا عَلى
وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَّهْ
وَذِي مِنَ اقْسَامِ الحَدِيثِ عِدَّهْ
إِسْنَادُه وَلَمْ يَشِذَّ أَو يُعَلْ
أَوَّلُها الصَّحِيْحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ
مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ
يَرْوِيْهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ
رِجَالُهُ لا كَالصَّحِيْحِ اشْتَهَرَتْ
والحَسَنُ المَعْرُوفُ طُرْقًا وَغَدَتْ
فَهْوَ الضَّعيفُ وَهْوَ أقْسامًا كُثُرْ
وَكُلُّ ما عَنْ رُتْبَةِ الحُسْنِ قَصُرْ
وَما لِتَابِعٍ هُوَ المَقْطُوعُ
وَما أُضِيفَ لِلنَّبِيْ المَرْفُوعُ
رَاوِيْهِ حَتَّى المُصْطَفَى وَلَمْ يَبِنْ
وَالمُسْنَدُ المُتَّصِلُ الإسْنَادِ مِنْ
إِسْنَادُهُ لِلْمُصْطَفَى فَالمُتَّصِلْ
وَمَا بِسَمْعِ كُلِّ رَاوٍ يَتَّصِلْ
مِثْلُ أَمَا وَاللهِ أَنْبَانِي الْفَتَى
مُسَلْسَلٌ قُلْ مَا عَلَى وَصْفٍ أَتَى
أَوْ بَعْدَ أَنْ حَدَّثَنِي تَبَسَّمَا
كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيْهِ قَائِمَا
مَشْهُوْرُ مَرْوِيْ فَوْقَ مَا ثَلاثَهْ
عَزِيْزُ مَرْوِي اثْنَيْنِ أَوْ ثَلاثَهْ
وَمُبْهَمٌ مَا فِيْهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمْ
مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيْدٍ عَنْ كَرَمْ
وَضِدُّهُ ذَاكَ الَّذِي قَدْ نَزَلا
وَكُلُّ مَا قَلَّتْ رِجَالُهُ عَلَا
قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَهْوَ مَوْقُوفٌ ذُوكِنْ
وَمَا أَضَفْتَهُ إِلَىٰ الْأَصْحَابِ مِنْ
وَقُلْ غَرِيْبٌ مَا رَوَى رَاوٍ فَقَطْ
وَمُرْسَلٌ مِنْهُ الصَّحَابِيُّ سَقَطْ
إسْنَادُهُ مُنْقَطِعُ الْأَوْصَالِ
وَكُلُّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِحَالِ
وَمَا أَتَى مُدَلَّسًا نَوْعَانِ
وَالمُعْضَلُ السَّاقِطُ مِنْهُ اثْنَانِ
يَنْقُلَ عَمَّنْ فَوْقَهُ بِعَنْ وَأَنْ
الأَوَّلُ الإِسْقَاطُ لِلشَّيْخِ وَأَنْ
أَوْصَافَهُ بِمَا بِهِ لَا يَنْعَرِفْ
وَالثَّانِي لا يُسْقِطُهُ لَكِنْ يَصِفْ
فَالشَّاذُ وَالمَقْلُوبُ قِسْمَانِ تَلَا
وَمَا يُخَالِفْ ثِقَةٌ فِيْهِ المَلَا
وَقَلْبُ إِسْنَادٍ لِمَتْنٍ قِسْمُ
إِبْدَالُ رَاوٍ مَا بِرَاوٍ قِسْمُ
أَوْ جَمْعٍ اوْ قَصْرٍ عَلَى رِوَايَةِ
وَالْفَرْدُ مَا قَيَّدْتَهُ بِثِقَةِ
مُعَلَّلٌ عِنْدَهُمُ قَدْ عُرِفَا
وَمَا بِعِلَّةٍ غُمُوضٍ أَوْ خَفَا
مُضْطَرِبٌ عِنْدَ أُهَيْلِ الْفَنِّ
وَذُو اخْتِلَافِ سَنَدٍ أَوْ مَتْنِ
مِنْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرُّوَاةِ اتَّصَلَتْ
وَالمُدْرَجَاتُ فِي الحَدِيْثِ مَا أَتَتْ
مُدَبَّجٌ فَاعْرِفْهُ حَقًّا وَانْتَخِهْ
وَمَا رَوَى كُلُّ قَرِيْنٍ عَنْ أَخِهْ
وَضِدُّهُ فِيْمَا ذَكَرْنَا المُفْتَرِقْ
مُتَّفِقٌ لَفْظًا وَخَطًّا مُتَّفِقْ
وَضِدُّهُ مُخْتَلِفٌ فَاخْشَ الْغَلَطْ
مُؤْتَلِفٌ مُتَّفِقُ الخَطِّ فَقَطْ
تَعْدِيْلُهُ لَا يَحْمِلُ التَّفَرُّدَا
وَالمُنْكَرُ الْفَرْدُ بِهِ رَاوٍ غَدَا
وَأَجْمَعُوا لِضَعْفِهِ فَهْوَ كَرَدْ
مَتْرُوكُهُ مَا وَاحِدٌ بِهِ انْفَرَدْ
عَلَى النَّبِيْ فَذَلِكَ المَوْضُوعُ
وَالْكَذِبُ المُخْتَلَقُ المَصْنُوعُ
سَمَّيْتُهَا مَنْظُومَةَ الْبَيْقُونِي
وَقَدْ أَتَتْ كَالجَوْهَرِ المَكْنُونِ
أَبْيَاتُهَا ثُمَّ بِخَيْرٍ خُتِمَتْ
فَوْقَ الثَّلاثِينَ بِأَرْبَعٍ أَتَتْ
يقول الناظم -رحمه الله تعالى:
مُحمدٍ خَيْرِ نَبيٍّ أُرْسِلَا
أَبْدَأُ بِالحَمْدِ مُصَلِّيًا عَلَى
وَكُلُّ وَاحِدٍ أَتَى وَحَدَّهْ
وَذِي مِنَ اقْسَامِ الَحدِيثِ عِدَّهْ
نحن ذكرنا آنفًا أنَّ علماء الحديث يستعملون مصطلحاتٍ وأسماءَ وأنواعًا كثيرةً في هذا العلم الشريف، فالناظم -رحمه الله تعالى- أتى بعدَّةٍ؛ أي بقدرٍ وبعددٍ من هذه المصطلحات، أي من أهمها وأكثرها تناولًا عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك تعالى.
إذن نفهم ابتداءً أنَّه لم يستوعب العلمَ كله، هذا ما نفهمه أول الأمر.
ثانيًا: أنَّه عُنِيَ بالأنواع، يعني إذن عُنِيَ بمعاني هذه الأنواع، فالصحيح يذكره مُبينًا معناه عند علماء الحديث، والحسن يذكره مُبينًا معناه عند علماء الحديث، وهكذا إلى آخر ما ذكره من الأنواع.
ولهذا قال: (وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَّهْ).
أي مع حدِّه، والحدُّ هو التعريف الذي يُميز أو يفصل بين هذا النوع وغيره من الأنواع، فعندما يأتي إلى نوع الصحيح يذكره ويذكر تعريفَه، أي حدَّه، وبمعرفتنا بتعريفه نستطيع أن نُميز بين الصَّحيح وغيره من الأنواع الأخرى التي يتناولها علماءُ الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- فإذا ذكر الصَّحيح أو حدَّه؛ عرفنا الفرقَ بين الصَّحيح والحسن؛ لأنَّه ذكر الحسنَ أيضًا وحدَّه، أي تعريفه الذي يتميز به عن غيره، وينفصل به عن غيره.
وكما أشرنا آنفًا هو يُعنَى بالجانب الاصطلاحي، فلهذا قال: وحدَّه، أي: وتعريفه، أي: المعنى المقصود من هذا المصطلح أو ذاك.
أول نوعٍ من تلك الأنواع هو: الحديث الصَّحيح.
يقول -رحمه الله:
(أَوَّلُها) أي أول هذه الأنواع: (الصَّحِيحُ).
(وَهْوَ) هذا هو الحد.
إِسْنَادُهُ وَلَمْ يَشِذَّ أَو يُعَلْ
أَوَّلُها الصَّحِيْحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ
مُعْتَمَدٌ فِي ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ
يَرْوِيْهِ عَدْلٌ ضَابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ
هنا العالم -رحمه الله تعالى- لما ذكر الحديثَ الصحيحَ ذكر معه تعريفه، ومن خلال التعريف عرفنا أنَّ الحديث الصحيح عبارةٌ عن حديثٍ تحقَّقت فيه أوصاف خمسة، تعالوا بنا نتأمَّلها في النَّظم.
قال: (أَوَّلُها الصَّحِيْحُ وَهْوَ مَا اتَّصَلْ).
هذه واحدة.
(إِسْنَادُهُ وَلَمْ يَشِذَّ أَو يُعَلْ).
اثنين، وثلاثة، يعني ليس شاذًّا ولا معلولًا.
(يَرْوِيْهِ عَدْلٌ) هنا أربعة.
(ضابِطٌ) هكذا خمسة.
(مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ وَنَقْلِهِ).
هذا تفسيرٌ لقوله: (ضَابِطٌ).
قوله: (عَنْ مِثْلِهِ) أي أنَّ كلَّ راوٍ من رواة الإسناد موصوفٌ بهذه الأوصاف، أي بالعدالة والضَّبط.
إذن نحن بين أوصافٍ خمسةٍ:
الوصف الأول: اتِّصال السَّند.
الوصف الثاني: سلامة الحديث من أن يكون شاذًّا.
الوصف الثالث: سلامة الحديث من أن يكون معلولًا أو مُعلَّلًا.
الوصف الرابع: أن يكون الراوي نفسُه موصوفًا بالعدالة -كما شرحنا آنفًا.
الوصف الخامس: أن يكون الراوي موصوفًا بالضبط، وأن يتحقق ذلك في كلِّ رواة الإسناد، ولهذا قال: (عَنْ مِثْلِهِ).
وكلُّ وصفٍ من تلك الأوصاف يحتاج إلى وقفةٍ حتى نفهم المراد من هذه الأوصاف عند علماء الحديث -عليهم رحمة الله تبارك وتعالى.
فأول وصفٍ هو: أن يتَّصل إسناده، ما هو السند؟
طبعًا السَّند والإسناد عن علماء الحديث معناهما واحدٌ، فلا نُريد أن نقف عند هذه النقطة، وإن وقف بعضُ الناس عندها.
السَّند والإسناد عند علماء الحديث معناهما واحدٌ، فإذا قال المُحدِّث: إسناده صحيح، أو سنده صحيح؛ فالمراد واحدٌ.
ما معنى السند؟
السَّند كما يقول الحافظُ ابن حجر العسقلاني -وكذلك ابنُ جَماعَة قال ذلك بمعناه: "هو الإخبار عن طريق المتن"، يعني هذا السند المُتمثل أمامك في قول الراوي: حدَّثنا فلانٌ عن فلانٍ عن فلانٍ. فهذه الصورة الظَّاهرة من السند.
تعريفه العلمي عند علماء الحديث: "هو الإخبار عن طريق المتن". ما معنى هذا التعريف؟
نُلاحظ أنَّ هذا التعريف اتَّضح فيه معنى الإخبار، والإمام ابنُ جماعة عبَّر عن هذا المعنى بقوله: "هو حكاية طريق المتن"، والحكاية والخبر معناهما واحدٌ، ما مراد العلماء من وصفهم الإسناد بأنَّه خبرٌ؟ أو أنَّه حكايةٌ؟
مراد العلماء من ذلك: أن يُبيِّنوا لك أنَّ الإسناد كالمتن من حيث أنَّه يُروى كما يُروى المتن، أليس المتن خبرًا؟ فالراوي يُخبرك أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال هذا القول أو فعل ذلك الفعل.
ولهذا كان المتنُ عبارةً عن خبرٍ، أليس كذلك؟ وكذلك السند خبر؛ لأنَّ الراوي يُخبرك عن شيخه بأنَّه حدَّثه بهذا الحديث عن شيخه فلان، وشيخه قد أخبر الراوي عنه بأنَّ شيخه أخبره بهذا الإسناد إلى أن وصل به إلى رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
إذن معنى الخبر موجودٌ في الإسناد كما هو موجودٌ في المتن، أليس الإسنادُ عبارةً عن رواةٍ التصق بعضُهم ببعضٍ؟ كما يُعبِّر بعضُ الناس بأنَّ السَّند هو: سلسلة الرجال المُوصِّلة للمتن.
فهذا التعريف إنَّما نُظِرَ فيه إلى ظاهر الإسناد، ولم يُنظَر فيه إلى حقيقة الإسناد، فالإسناد هنا خبرٌ؛ لأنَّ هذا سينبني عليه أحكام، فعندما تتفهم أنَّ الإسناد عبارةٌ عن خبرٍ؛ سينبني على ذلك الفهم أحكام، كيف هذا؟
نحن عندما اعتبرنا المتن خبرًا، ونحن نعلم أنَّ الخبر هو: ما يحتمل الصدق والكذب، ويحتمل الصواب والخطأ. ولهذا كان من المتون ما هو صوابٌ، ومن المتون ما هو خطأٌ، ومن المتون ما هو صدقٌ، ومن المتون ما هو كذبٌ؛ لأننا اعتبرنا أنَّ المتن خبرٌ، فلما اعتبرنا أيضًا السَّند خبرًا؛ عرفنا أنَّ من الأسانيد ما هو صوابٌ، ومن الأسانيد ما هو خطأٌ، ومن الأسانيد ما هو صدقٌ، ومن الأسانيد ما هو كذبٌ.
فكلُّ كلامٍ يحتمل الصدقَ والكذبَ هو عند العلماء يُسمَّى خبرًا، فلما فهمنا ذلك عرفنا أنَّ علماء الحديث -عليهم رحمة الله تعالى- كما يعنون بنقد المتون وتمييز ما صحَّ منه وما لم يصح؛ فكذلك يعنون بنقد الأسانيد؛ لتمييز ما صحَّ منها وما لم يصح.
أنا أفهم أنَّ المتن منه الصَّحيح ومنه غير الصحيح، لماذا؟
لأنَّ المتن مروي بسندٍ، فأنا أنظر في السند فأعرف من خلال النظرة فيه أنَّه إسناد صحيح؛ فعليه يكون المتنُ صحيحًا.
لكن لا أفهم أنَّ السند نفسَه منه الصحيح ومنه غير الصحيح!
نقول لك: لا، أليس السندُ هذا قد يكون مُلفَّقًا؟ يعني الراوي ركَّبَ سندًا، فأتى ببعض الرواة ووضعهم مع بعضٍ، وهذا السند عند علماء الحديث لا حقيقةَ له.
أو قد يكون السندُ نفسُه -من حيث هو سند- إسناده صحيح، ولكن تُروى به متونٌ أخرى، فيأتي بعضُ الرواة إلى هذا السند الصَّحيح فيلصق به متونًا غير المتون التي يُروى بها ذلك السند، فالسَّند نفسه صحيحٌ، ولكن رواية هذا المتن بهذا السند عند علماء الحديث يُعَدُّ من الأخطاء.
إذن كما يقع الخطأ في المتن يقع في السند، نأتي بمثالٍ يُوضِّح المقام:
عندنا حديث: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» إلى آخر الحديث. هذا حديثٌ صحيحٌ، وهو من أصح الأحاديث، وقد رواه البخاري ومسلم -عليهما رحمة الله تبارك وتعالى- في صحيحيهما اللذين هما أصح الكتب المُصنفة، واتَّفق علماء الحديث قاطبةً على صحَّة هذا الحديث وتلقيه بالقبول.
إذن المتن نفسه صحيحٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
والعلماء هم أيضًا جميعًا بلا استثناءٍ يقولون: هذا المتن الصحيح إنَّما يصح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بسندٍ واحدٍ يرويه: يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم التَّيمي، عن علقمة بن وقَّاص الليثي، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
فإذن إذا أنت رويت هذا المتنَ بهذا الإسنادِ فلا غبارَ عليك، وهو صحيحٌ قولًا واحدًا.
لكن جاء بعضُ الرواة فروى نفسَ المتن، إذن هل أخطأ في المتن؟ هو روى المتن نفسه، وهو متنٌ صحيحٌ، لكنَّه ألصق به إسنادًا آخر غير هذا الإسناد، وليس هو من أسانيد ذلك المتن، فرواه عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
هذا السند إذا نظرنا إليه نظرةً مُجردةً فهو سندٌ صحيحٌ، وهذا المتن إذا نظرنا إليه نظرةً مجردةً فهو أيضًا صحيحٌ، لكن رواية هذا المتن بهذا السند عند علماء الحديث غلطٌ باتِّفاق علماء الحديث.
إذن السَّند وقع فيه خطأ أم لا؟
وأخطاء الأسانيد أكثر من ذلك، لكن أحببتُ فقط أن أُبيِّن لماذا قال العلماء في وصف السند أنَّه إخبار؟ لأنَّه يعتريه الخطأ والصواب، والصدق والكذب؛ لهذا كان من هذه الحيثية نوعًا من أنواع الأخبار ينبغي العناية بنقده كما يُعنى بنقد المتن.
أنا أرى أن نقف عند هذا الحد، فإن كان عند البعض بعضُ الاستفسارات نُجيب عنها -إن شاء الله تعالى- على أن نُكمِل الحديثَ عن الحديث الصحيح في اللِّقاء القادم -إن شاء الله تعالى.
{أحسن الله إليكم}.
بارك الله فيك.
{حضرتك ذكرت أنَّ المصطلح له أكثر من معنى داخل العلم الواحد، فكيف أفهم المراد من المصطلح؟}
ماذا؟
{كيف أفهم مراد العالم من هذا المصطلح؟}
نعم، نحن ذكرنا أنَّ المصطلح قد يُطلَق ويُراد به أكثر من معنى، فكيف عرفنا أنَّه يُراد به أكثر من معنى؟ باستقراء كلام العلماء، مثل مصطلح "ثقة" -كما ضربنا المثال- ماذا فعل العلماء؟
العلماء استقرؤوا، ما معنى استقراء؟
يعني تتبعوا تتبعًا كاملًا -تتبعًا تامًّا- مواضع استعمال كلمة "ثقة" عند علماء الحديث، فبفهمهم لتلك المواضع وتدبرهم لها تبين لهم أنَّ علماء الحديث تارةً يُطلقون "الثقة" على معنى، وتارةً يُطلقون "الثقة" على معنى آخر، هذا ما نُسميه الاستقراء.
وأحيانًا نعرف معنى المصطلح من خلال النص، فالعالم ينصُّ على المعنى المراد من هذا المصطلح، مثل الإمام الترمذي -عليه رحمة الله تعالى- عندما قال بعد أن استعمل مصطلح "الحسن" بكثرةٍ في كتابة "الجامع": (وما ذكرنا في هذا الكتاب حديث حسن فإنَّما أردنا به حُسْن إسناده عندنا، فكلُّ حديثٍ يُروى لا يكون في إسناده مَن يُتَّهم بالكذب، ولا يكون الحديثُ شاذًّا، ويُروى من غير وجهٍ نحو ذلك؛ فهو عندنا حديث حسن).
وكما وجدنا الإمام البخاري -عليه رحمة الله تعالى- حيث استعمل كلمة "منكر الحديث" في وصف بعض الرُّواة، قال: (كلُّ مَن قلتُ فيه "منكر الحديث" فلا تحلُّ الرواية عنه).
إذن: العلماء يعرفون معاني المصطلحات سواء كان لها أكثر من معنى أو لا عن طريق النص عن صاحب هذا المصطلح، أو عن طريق التتبع والاستقراء لهذه المصطلحات في استعمال أهل العلم؛ فيُعرَف من خلال ذلك المعنى المراد من هذه المصطلحات عند كلِّ عالمٍ من علماء الحديث.
{أحسن الله إليك، السؤال: هل أُحصِيت أحاديث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أم لم تُحصَ حتى الآن؟}
السُّنة معروفة محصورة ليس في عصرنا؛ بل وقبل عصرنا بزمنٍ طويلٍ، حتى إنَّ الإمام البيهقي -عليه رحمة الله تعالى- في كتاب "مناقب الشافعي" -وهذا النص نقله عنه الإمامُ ابن الصلاح في كتابه "علوم الحديث"- قال: (فإنَّ صحيح الأحاديث وسقيمها قد جُمِعَ وعُرِفَ وحُصِرَ، فلا يبقَ بعد ذلك إلا أن ننظر، فما اتَّفق العلماءُ على صحَّته فهو صحيحٌ، وما اتَّفق العلماءُ على ضعفه فهو ضعيفٌ، وما اختلفوا فيه ما بين مُصحِّحٍ ومُضعِّفٍ فمَن كانت عنده آلة الاجتهاد وآلة التَّرجيح؛ فله أن ينظر في دليل هذا ودليل هذا؛ ليعرف المُصيب من المُخطئ).
لكن ليس هناك أحاديث جديدة، وإنَّما الأحاديث جُمِعَت في الكتب الصَّحيحة والكتب المُعتمدة التي اعتمد عليها علماء الحديث، وهي ما يُسمَّى عند العلماء بكتب الأصول، والتي جُمِعَت فيها سُنَّة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم.
وربما نتناول هذا الجانب بشيءٍ من التفصيل في لقاءٍ آخر.
{جزاك الله خيرًا، المثال الذي ضربته في حديث سيدنا عمر بن الخطاب في الصَّحيحين، وقلت أنَّه باتِّفاقٍ صحيحٌ سندًا ومتنًا.
والمثال الثاني: الذي رواه مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري. ما الفرق بين هذا السند والسند المتقدم؟}
هذا صوابٌ، وهذا خطأٌ.
نكتفي بهذا القدر؛ لأنَّ الوقت قد أزف.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
http://islamacademy.net/cats3.php