ويصير شعارك أن قدراتك ليست بالمستوى الذي توده أن تكون ..
.. وتصرح بأن ضميرك مثقل بهذا - يكون " الأمر " أثقل منك - وإن مستواك أقل منه ..
هل ضميرك حقاً مثقل ؟ . أم إنك تقول ذلك فقط لتفرغ عن شعور غامض بالذنب ..
ربما هذا ، وربما ذاك ..
ربما أنت مثقل فعلاً . ربما الأمر يتعبك . شعورك بأن مستواك " دون " ما يجب ..
وربما الأمر مجرد مبالغة لفظية ، تقولها هكذا ، كما يقول معظم الناس أموراً لا يعنونها قط ..
في كل الأحوال ..
سيكون هناك من يخفف عنك شعورك المثقل هذا ، أو مبالغتك اللفظية تلك ..
سيكون هناك من يأخذ يدك ويكشفها ، ويخرج من جيبه حقنةً ليضعها في وريدك .. ويخلصك من هذا الشعور ..
.. حقنة من مخدر ما ..
مورفين ، أو أي نوع آخر ..
مخدر معنوي يقول لك أن لا عليك ، لا داعي لكل هذا التعب ، لا داعي لتأنيب الضمير ..
يقولون لك .. ، يضعونها في أوردتك وفي وجدانك وفي ضميرك " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. "
.. ويريدونك أن تريح نفسك بهذا ..
.. صار الأمر متداولاً لدرجة البداهة .
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. فإذا لم يكن هذا الشيء في وسعك فأنت أصلاً لا تحمل عبء تكليفه .. لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ..
منطقي جداً ! . ربما . لكن حسب أي منطق نتحدث ؟ .
حسب منطق السلب والضعف .. ، نعم ، هذا منطقي .. ، ومتناسق ، مادام الأمر ليس في سعتك ، فالله لن يحاسبك عليه ..
لكن ، لعل هناك منطق آخر ، بقواعد أكثر تماسكاً وتناسقاً ، ستقلب الطاولة على هذا المنطق ، وتوقف الحقنة قبل أن تضع الخدر في ضميرك .
" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " .
هذا ثابت . إنها آية من ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه . والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ..
أما فهمنا البشري ، فهو ليس بثابت . وهو يحتمل " الريب " .
ويحتمل أن يأتيه " الباطل " خاصة إذا كان يؤدي إلى نتائج سلبية كالتي وصلنا إليها ..
" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. " .
هنا ميزان ، كفتاه متساويتان ..
كفة التكليف ، وكفة الوسع ..
التكليف هنا مصدره إلهي ..
والوسع هنا بشري ..
و .. نحن ، بفهمنا هذا الذي يشبه حقنة مورفين ، نقرر ، أن الوسع " البشري " هو الذي سيحدد حجم التكليف " الإلهي " ..
.. وأن ضيق " وسعك " أو أي ضمور يصيبه لأي سبب ، سيؤثر طرداً على حجم التكليف الإلهي ..
.. شيء ما ، في هذا المنطق ، يبدو غير منطقيٍ .
من جديد ..
" لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .. " .
هذا ثابت .
كفتا الميزان فيه متساويتان .
العلامة التي بينهما هي علامة " التساوي " .
وهذا ثابت أيضاً . لا مجال لخلاف فيه ..
الأمر هنا ، هو حجم التكليف ، وحجم الوسع .. أي منهما يتحكم بالآخر ، ..
أي منهما ثابت و أي منهما متغير ..
أي منهما يهيمن على الآخر ؟ ..
.. الفهم المورفيني يقرر ، باعتباره مورفيناً ، أن " الوسع البشري " وضيقه وتقلصه ، هو الذي يحدد سعة وضيق " التكليف الإلهي " ..
.. لكن ماذا لو كان العكس هو الصحيح ..
واحدٌ منهما يجب أن يحدد الآخر .
.. ماذا لو أن التكليف الإلهي هو الذي يحدد الوسع البشري ؟
.. نعرف ، على وجه التحديد ، أن رب العزّة ، سبحانه وتعالى ، قد كلفنا ، وكلف النفس الإنسانية عموماً ، بأمور معينة ..
.. هناك تكليف إلهي محدد . بل هناك تكليفات إلهية محددة .
.. هل يمكن أن نعتقد أته كلف النفس البشرية ما لا تطيق ؟ .
.. كيف ، وهو الأعلم بسعتها ؟ وهو الأعلم بقدراتها ؟ ..
.. كيف وهو الذي خلقها ؟ ..
.. هل يمكن أن نعتقد أنه هو ، العدل ، الحق ، الخبير ، يكلف النفس ما لا طاقة لها به ؟؟.
الجواب على هذا السؤال ، من ضمن السؤال نفسه ..
هو ، الحق ، العدل ، المنزه عن الظلم ، لا يكلف نفساً إلا وسعها ..
.. إذن كلفنا بما في وسعنا .
.. ولم يكلفنا بما ليس لنا طاقة أو سعة .
.. ونحن لا نعرف ، تحديداً ، وسعنا أو طاقتنا .
.. ولكننا .. نعرف تحديداً ما كلفنا به ..
ونعرف أن هناك علاقة مساواة ، بين الاثنين .
.. بماذا كلفنا تحديداً يا ترى ؟ ..
لو سألنا هذا السؤال ، لجاء الجواب سريعاً بما كلفنا به رب العزة من عبادات وفرائض .. الصلوات الخمسة ، وتفاصيلها وأداءَها جماعة والصيام والزكاة.. والحج ..
.. وسيكون النقاش عن أداء هذهِ التكاليف ، في إطار وسع النفس البشرية ، والإجادة فيها ، .. من أول ما يخطر في ذهن أي شخص ..
.. وعندما يحصل تباطؤ هنا ، وتثاقل هناك ، في واحدة من هذه العبادات .. وتجد ضميرك مثقلاً بهذا التباطؤ ، فعلاً أو قولاً فقط ، فأنك ستجد من يقول لك ، معتذراً ، مواسياً ..
" .. لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " ..
المشكلة هنا ، أن أمر التكليف يسبق حتى هذهِ العبادات .. وأشكالها .. على الرغم من أهميتها ، ومن سلبية استخدام حقنة المورفين معها ..
لكن المشكلة الأكبر هي أن هناك تكليفاً سبق تكليف العبادات هذهِ ..
والتعامل معها بمنطق حقنة المورفين ، المنطق السلبي ، يورث نتائج أكثر كارثية ..
.. أتحدث هنا عن تكليف أساسي ، سبق الصلوات الخمسة التي كلفنا بها .. بل سبق خلقنا أصلاً ..
ناهيك عن هبوطنا إلى الأرض ..
التكليف هنا ، هو كوننا خلفاء في هذه الأرض ..
لقد كلفنا بذلك ، وقال ، عزَّ من قال " إني جاعل في الأرض خليفة " .. قبل أن ينزل أي تكليف من تكاليف ما نصنفه أنه عبادات ..
كلفنا بأننا " الخليفة في الأرض " وقال أيضاً ، والحق قوله .. " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " .
.. ونحن نعرف أن العلاقة بين التكليف الإلهي والوسع البشري ، متوازن بعلامة التساوي ..
وأنه ما كان ليكلفنا بأمر لا طاقة لنا به ..
.. وهذا يعني أن في وسعنا الكثير .. الكثير ..
سيقولون ، من منطق تعود التثاؤب والتكاسل وابتداع الأعذار ، .. نتكلم عن صعوبة في أداء التكاليف الشرعية من فروض على أتم وجه ..
.. وتتحدث عن " خلافة في الأرض " ..
سيقولون ، أن " الوسع البشري " يكاد يكون بالكاد كافياً لأداء فروض الصلاة والصيام .. وتقفز أنت مرّة واحدة إلى " الخلافة في الأرض " ..
المشكلة في هذا الأمر ، أن هذا جاء من ذاك ..
هذا التقلص في " الوسع البشري " .. في " الطاقة البشرية " على الأداء ، جاءت بسبب قولبتها ، وحصرها ، في أطر وقوالب ضيقة ..
التكليف الإلهي محدد وثابت .
أما الطاقة البشرية ، فهي هلامية ، غير ثابتة ..
إنها تأخذ شكل الإطار والقالب الذي توضع فيه ..
يمكن لك أن تحصرها في إطار فردي ضيق ، أفقه التفاصيل والهوامش .. ووقتها ستكون هذهِ الطاقة متثاقلة بهذهِ التفاصيل ، تبحث عن تبريرات لضعف الأداء ، تبحث عن أعذار تفسر التثاقل ..
ويمكن أن تضع هذهِ الطاقة البشرية في قالب يسع الكون بأسره ، فإذا بهذهِ الطاقة تفصح عن مارد عملاق ، عن " إنسان " يمكن له أن يغير العالم ..
عن " خليفة في الأرض " .
.. الإنسان الذي كان يُعذّب على الرمال الحارقة في بيداء مكة ، وكان يهمس ، بأقوى ما يمكن لحنجرته أن تفعل : أحد ، أحد ..، هو إنسان وضع طاقته البشرية ، النفسية ، في المدى الأوسع ، في داخل الأفق الكوني الشاسع الذي لا حدود له ..
.. ولو كان غير ذلك ، لكان قال لنفسه ، كما يمكن أن يقال اليوم وفي كل يوم ، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ، ولهز كتفيه غير مكترث ، وقد أزاح بهذه عبء الصخرة الساخنة على ضميره ..
لكن ما كلفه الله به كان في وسعه ..
وقد كلفه الله أن يكون خليفةً في الأرض .. وطاقته تقولبت على ذلك ..
ولذلك فقد كان ..
.. بل لو أن الفهم المورفيني كان موجوداً في مكة ، في عقول الجيل الأول من الصحابة ، لما حصل كل الذي حصل ، ولما تحركت عجلة التاريخ باتجاه النور الذي سارت إليه ، بعيداً عن الظلمات التي كانت سادرة فيها ..
لو أن هذهِ الآية ، عوملت كحقنة مخدرة ، لتقطعت طاقة كل واحد من أفراد هذا الجيل ، وصارت لا تمتد لأكثر من همومه الفردية والشخصية ..
لو أن فهمهم كان كفهمنا اليوم ، لربما كان هناك صلاة ، وخشوع فيها ، ودموع صادقة .. لكن ما كانت شخصت الأنظار لأكثر من ذلك ، ما كانت الأفكار خرجت من أزقة مكة وبطحائها نحو المجتمع البديل في المدينة ..
لو أن " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " عوملت كما نعاملها اليوم ، لقال كل واحد منهم أن الأمر ليس في وسعه .. ولما كان حدث ذلك التفاعل المتسلسل الذي جعل من الإنسان خليفة في الأرض ..
.. كل واحد منهم ، كان يعلم يقيناً ، أن الله لم يكلفهم إلا الذي في وسعهم ..
.. ولقد تواءَم وسعهم .. مع ما كلفهم إياه ..
.. لاريب أن هناك فروقاً فردية في قضية الوسع الإنساني .. على الرغم من أن التكليف الإلهي عام وشامل ..
لكن هذهِ الفروقات ، ستقل حتماً ، حسب الطريقة التي نتعامل فيها مع كفتي التكليف والطاقة ..
.. فعندما تكون الطاقة الفردية أقل ، فإن حقنة منشطة ، ومقوية ، تضخ في أوردتها وشرايينها الوعي بأنها أقوى مما هي عليه ، وأنها أوسع من ذلك الضيق الذي أولجت فيه ..
مجرد الإيمان بذلك ، سيجعلها تتألق توسعاً وتمدداً وانحيازاً إلى الأفق ..
مجرد الإيمان بذلك ، سيجعل جدران القمقم تتصدع .. سيجعل من برعم المارد في الأعماق ينمو ..
مجرد الإيمان بذلك سيوسع " ما كان قد تضيق " .. ويجعل من التساوي بين التكليف والطاقة ، أمراً كامناً .. وممكناً ..
.. وعلى ما يبدو ، فقد سقط (سهواً) ما كنا قد كلفنا به أصلاً .
.. لقد وجدنا أنفسنا على الأرض ، وقالوا لنا إن لدينا بضعة وظائف ، لكنهم لم يخبرونا بالتكليف الأساسي ، وإنما ببضعة تكليفات أخرى ، .. لا نقول أبداً أنها غير مهمة ، لكن نقول إن أهميتها القصوى لا تكتمل إلا مع التكليف الأساسي الأولي ..
ولأن " التكليف الأساسي " قد سقط سهواً مما ألقمونا إياه ، فإن طاقتنا ، وما هو (وسعنا) .. قد تقولب وتأطر وتحدد بتلك التكاليف الأخرى .. التكميلية .. وبذلك فقدَ سعته ..
وفقدنا طاقتنا الكامنة ..
.. وظيفتك الأصلية ، ليست أي من هذهِ التي تكتب أمام خانة المهنة في صفحة هويتك ..
وظيفتك الأصلية هي ذلك التكليف : في الأرض خليفة ..
وعندما تعي ذلك فإن أي مهنة أخرى ستكتسب ذلك المعنى ، وسيكون للاستخلاف معنى آخر من خلالها ..
.. ولن يكون ذلك إلا إذا آمنت أنك أنت ، أنت الخليفة !.
هل ستقول أن المهمة مستحيلة ؟.
تذكر أنه لا يظلم . وأنه الحق العدل ، وأنه لولا أنك تقدر ، لما كان كلفك أصلاً به ..
فيا سيدي الخليفة ، قم من نومك ، قم من بين جواريك وأوهام حريرك وطنافسك وعبيدك ..
قم وحطم تلك الأغلال التي أوصلتك إلى ما وصلت إليه ، الأغلال ليست في معصميك يا سيدي الخليفة .. بل في داخلك ، أنت الخليفة .
أنت السيد في الأرض ، بإمكانك أن تغير العالم أجمع ، بإمكانك أن تعيد بناءَه .. بإمكانك أن تفعل ذلك ما دمت تؤمن أنه بإمكانك ذلك .