في داخل كل منا طاووس رابض، ينتظر الفرصة السانحة لينفش ريشه ويزهو، يتجول ويتبختر، ويستعرض جماله متباهياً كما لو لم يخلق الله سواه..
في داخل كل منا طاووس رابض، سيسقط في عشق ذاته ألف مرة كل يوم، المرآة ستكون حدود العالم بالنسبة له، وذاته ستكون مركز الكون.. لا شيء سواه يهم في هذا العالم بأسره..
في داخل كل منا طاووس، ولو صغير، لكنه، في الوقت المناسب، سينمو، وسيكبر، وسيطل برأسه قليلاً قليلاً، ومن ثم ينفش ريشه بالتدريج.. ويغطي كل شيء.. كلما وجد الفرصة المناسبة ليفعل..
وعادة ما تكون الطواويس كامنة عند الجميع، لكن ظروفاً معينة عند البعض قد تضعفها لحد القتل نهائياً، و ظروف أخرى تجعلها تدخل في سباق يضمر الفرصة المناسبة، وظروف أخرى ستجعل هذه الطواويس بحجم الفيل، يكاد يخنقك، لأنه يستنفد كل الاوكسجين المخصص لك..
يجد هذا الطاووس فرصته الذهبية، عندما تحوز النجاح، عندما تصل إلى قمة ما، عندما تحقق "نصراً ما" عندما تصل إلى هدف كنت ترومه..
عندها يكشر الطاووس عن أنيابه، ويظهر ذلك الحيوان الجميل على حقيقته: يفترسك أنت تحديداً، وليس غيرك..
في داخل كل منا طاووس، سيزاحمه على قمته، وعندما تتربع هناك على المركز الأول، لن تدرك أنه قد احتلها معك.. وأنه ربما سيطردك عنها بهذا..
عند النجاح، عند النصر، عند العُلا، سيطل هذا الطاووس، وسيكون من الحذق والإغراء بأنه سيجعلك لا تنظر إلا إليه – أي إلا إلى نفسك من خلال مرآته.. وسيعميك ذلك عن رؤية أمور مهمة وأساسية: مثل أسباب وصولك إلى قمتك أصلاً..
ولأنك ستكون مشغولاً به وبجماله، فإنك لن تنتبه إلى أن السجادة بدأت تنسحب من تحت أقدامك..
مع كل نجاح، مع كل نصر، هناك طاووس ما يزهو ويتبختر.. والحل هو أن تتصرف معه استباقياً..
* * *
يحدث هذا دائماً. يجعلنا النجاح نزهو بأنفسنا.. يجعلنا النصر نتصور أنه حكرٌ لنا. يجعلنا التفوق نتخيل أن ذلك سيكون دوماً مرصود لنا..
لذلك، كان لابد.. ويكون لابد.. أن يحدث "شيء ما" يوقف ذلك الزهو..
ويجعل المنتصر، يواجه بعض الحقائق..!
* * *
وفي عز انتصار بدر، وهو أول انتصار عسكري حققه الجيل الأول، جاءت الآيات لتواجه ذلك الطاووس الكامن الذي كان سيجد كل الفرص في النمو والاستئثار والاحتكار..
كان النصر، الذي تحقق في بدر يستحق أن يتحول أهل المدينة كلهم إلى قبيلة طواويس.. فقد كان ما جرى مفاجئاً، حسب المقاييس المادية المجردة، مقاييس العدّة والعدد، وكان حرياً بمن انتصر بهذا الشكل، أن يزهو بنفسه، وبإمكاناته، لقد جاءت قريش من أجل أن تستأصلهم تماماً، كان المسلمين مجرد سكان قرية صغيرة تمردت على التقاليد الجاهلية، وقد جاءت قريش لتنهي التمرد مرة واحدة وإلى الأبد.. لكن الذي حصل كان أن المعادلة قلبت، وأن قريش لم تهزم فقط، بل خسرت أهم قادتها وخسرت ما هو أهم بالنسبة لها: هيبتها أمام العرب..
لا أعرف ظرفاً أنسب للطاووس، لكي يتضخم بالحجم. لا أعرف ظرفاً تشتغل هرمونات النمو فيه أكثر من هذا.. لكنّ..
لكن ينزل القرآن الكريم، ليوقف هذا الطاووس عند حده..
ولكن لا أكاليل للمنتصر.. ولا تهاني بالانتصار الساحق. السياق القرآني كله، في سورة الأنفال، سورة ما بعد النصر، يكاد يكون سياقاً تقريعياً مؤنباً – كما لو أن الانتصار ذنب يستحق التأنيب، على العكس من السياق القرآني فيما بعد أحد، في سورة آل عمران، حيث كان السياق العام مهدئاً مثل ضمادة لجرح نازف..
إنه النصر إذن، وهو النصر الأول، وربما الأكثر تأثيراً في المسار كله.. لكن لا أكاليل غار للمنتصر، ولا حتى تهاني.. ولا أي شيء مقارب..
بل هناك {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 8/17]،
اذن لا فضل لك في الانتصار : انت لم تحارب اصلا ، لم تكونوا انتم من قتل المشركين و انت لم ترم اصلا...و لكنه الله هو الذي فعل كل شئ..لم الزهو اذن؟
..لم تعتقد ان من حقك القليل من الزهو و الخيلاء انت لم تفعل شيئا...فكف عن هذا..
كان المقصود من هذا الخطاب ذلك الطاووس الرابض بالتأكيد ، الموجود في الطبيعة البشرية و الذي يتحين الفرص..
كان المقصود من هذا الخطاب ايقافه عند حده ..ترويضه...قد تصل الامور لحد قتله نهائيا..
كان المقصود من هذا الخطاب مواجهة الطبيعة البشرية بما يجعلها تواجه هذا الطاووس و تنكمش بطريقة لا تترك له الفرصة للتمدد..
***********************
و الذي يلفت النظر في سياق الاية الكريمة ان النص يتحدث عن النصر ، بصيغة الماضي..اي ان الاية تتحدث عن فعل "حدث فعلا"- مضى- اي بعد ان انتهى..لقد حدثت الحرب و حدثت المعركة و حصل القتل و حصل الرمي فعلا..و بعد ان حدث جاءت الاية لتقول للمخاطبين ان الله هو الذي فعل..
هل كان الامر سيكون ذاته لو ان المعركة لم تبدا بعد ؟ هل كان سيكون ذاته قبل الفعل؟
ما كان يمكن ابدا ان نتخيل ان الايات تقول لهم ، قبل بدء المعركة بدقائق مثلا،ان الله سيرمي .. و ان الله سيقتل المشركين و انه سيفعل الفعل كله بالنيابة عنهم..
كان ذلك سيكون بالتاكيد مريحا للمؤمنين- لكنه سيكون مريحا اكثر مما ينبغي..كان سيكون مثبطا لهمة العزم و التركيز..كان سيجعل الوهن يتسرب الى ارادة الاداء..و اتقانه ..لما كان الاداء جاء بنفس الجودة وا لاتقان..
لكن الاية نزلت بعد الانتصار..بعد ان بذلوا اقصى جهودهم..لتقول لهم ..ان الفعل ليس فعلهم..بل هو فعل الله..
لو ان ذلك سبق، لكان تغيرت اشياء كثيرة من ضمنها نتيجة المعركة..
و ينبؤنا سياق الايات الكريمة ، قبل هذه الاية بالتحديد ، ان البدريين ، كانوا يحاربون فعلا..و نزل الامر لهم بوضوح:"فأضربوا فوق الاعناق و اضربوا منهم كل بنان"الانفال 12فالضرب هنا كان فعل امر موجه الى الجيل الاول- الى البدريين..
ولو أن الأمر كان غير ذلك، وكان فعل القتال منسوباً لله، لما احتاجت المسألة أن يأمرهم عز وجل، بالقتال، ولما احتاج الأمر أيضاً أن {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 8/12]، فإن فعله أصلاً لا يحتاج إلى رعب الكافرين، لكن ضرب المؤمنين للكافرين، في المعركة، كان سيكون أدق، وأقوى، عندما عرفوا أن الله {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [الأنفال: 8/12].. والآية نفسها تشير أيضاً إلى تثبيت المؤمنين {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَة اني معكم فثبتوا الذين آمنوا ِ} الانفال 10..
ماذا ينفع التثبيت اذن اذا لم يكن لهم دور في الفعل؟
بل إن خبر المدد الإلهي {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 8/9] يفسر فوراً بأنه بشرى ومدد معنوي من أجل طمأنينة قلوب المؤمنين {وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 8/10]..
بل ان كلمة"مردفين"- و هي تصف ملائكة المدد الالهي-و التي تعني ان الملائكة كانوا ردفا للمؤمنين- اي كانوا خلفهم- في مؤخرة الجيش..اذم المؤمنين كانوا في مقدمة الجيش وعبء القتال الأكبر عليهم.. مدد الملائكة كان لتقوية الظهر والإسناد..
كل ذلك يعني أن البدريين حاربوا فعلاً – نزلت بعض هذه الآيات أثناء القتال فعلاً، في خضمه – وكانت ترفع الروح المعنوية وتسدد من الأداء..
أما عندما انتهت المعركة، وتحقق النصر، فقد كانت اللهجة مختلفة.. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 8/17]..
انتقل السياق من المضارع المستمر، في خضم القتال، إلى الماضي، عند النصر، بعد أن تحقق.. بعد أن صار فعلاً ماضياً.. ذلك أن مقصد كل سياق، مختلف..
* * *
بين أن يأمر الله بالقتال، في السياق الأول، وبين أن ينفي نسبة فعل القتال لمن أمرهم به – مسافة زمنية قصيرة، هي التي تحقق خلالها النصر..
وسياق القتال، له متطلبات مختلفة: الحرص على قوانين الاداء و الاتقان اهمها.. و كذلك روحية الاداء .. أما سياق النصر، فمتطلباته الأولى: تفادي الانزلاق نحو مشاعر الزهو والخيلاء التي تطيح بدرس النصر كله..
سياق القتال يتطلب أن تثير الشجاعة والاتقان والإقدام.. ولكن سياق النجاح والنصر يتطلب أن تقتل ذلك الطاووس الذي قد يقتلك..
لذلك كان، {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدامَ} [الأنفال: 8/11] في السياق الأول، و {وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 8/17] في السياق الثاني.
* * *
الزهو عند النصر يجعلك تنخدع بنفسك قليلاً، أو كثيراً.. وتعتقد أن النصر كان من ذاتك، كان شيئاً منفصلاً عن ظروفه التي أدت إليه، والتي لم تكن أنت سوى جزءاً منهما..
الزهو يجعلك تركز على ذاتك كسبب أساسي للنصر، وتغفل عن الأسباب الأخرى، التي قد تكون أكثر أهمية منك: وهن العدو مثلاً، ظروف المكان، التوقيت.. إلخ.. وكلها أسباب مهمة لأي نصر، مثلما هناك أسباب موضوعية لأي نجاح، قد تكون مرتبطة كذلك بأسباب محيطة بالمنتصر.. أكثر مما تتعلق بذات المنتصر، وإمكانياته وقدراته..
الفراغ قد ينتج منتصراً ما من بين مجموعة ضعفاء، ولن يعني ذلك إلا أنه أفضل من الآخرين قليلاً، أو أن ظروفه كانت أفضل منهم.. رغم ذلك، فإنه سيزهو بنصره، وسيملؤه الخيلاء، ولن يرى في المرآة غير ذاته.. بمعزل عن كل الظروف التي أدت إلى النصر..
حتى لو كنت متمكناً من أدواتك، مستحقاً للفوز، فإن الزهو سيفقدك هذه الأدوات، سيجعلك تركز على ذاتك أكثر مما تركز على الأسباب والأدوات التي استخدمتها للوصول إلى ما وصلت إليه.. وسيجعلك هذا عرضة للسقوط.. لمغادرة المكان الذي وصلته..
من أجل كل هذا، كان لابد من إغلاق الباب بوجه الطاووس..
* * *
تلك الأسباب التي يستخدمها المنتصر للوصول إلى نصره، هي في حقيقة الأمر، وفي بدايته ونهايته، السنن الإلهية، والقوانين التي وضعها الله عز وجل في الكون لتسيير شؤونه، ليصير الكون الذي نعرفه اليوم..
ويشمل ذلك كل شيء، مادياً كان أو معنوياً.. أو مزيجاً من الاثنين.. ويعني ذلك، أن تلك القوانين، مهما كان من سار على نهجها، ومهما كان من يطبقها، تظل قوانين الله، وتظل سننه، ويظل عز وجل، هو "الفاعل" بهذا المعنى.. بمعنى أنه واضع كل السنن التي نستخدمها.. والتي لا نستخدمها ولا نعرفها أيضاً..
الأمر يشبه مع فارق في القياس – و بدون تشبيه- أن أديسون لا يزال موجوداً مع كل مصباح مضيء.. ولذلك فإن القوانين التي تتحكم بالرماية، والتصويب، وهي قوانين وسنن نصفها اليوم بأنها فيزيائية، وعندما تؤدي إلى الموت، في سنن تتداخل بين الكيمياء والفيزياء والأحياء قد تسمى الفسلجة.. فإن كل ذلك بطريقة، أو بأخرى، يعود إلى من وضع السنن في المقام الأول.. أنت لم تفعل سوى أنك استخدمت تلك القوانين.. لذلك لا تغتر كثيراً فيما حققته.. ولا تجعل النصر حظيرةً للطواويس..
* * *
ولأن للنصرمخاطره وأضراره الفادحة، إذ يجعلك تغفل عن السنن، وتركز على ذاتك، فإن الآية الكريمة ذاتها، التي تنتف ريش الطاووس عنك، تخبرك أيضاً بأن النصر، رغم أنه المطلوب، رغم أنه الهدف، فإنه أيضاً : بلاء..
إنه امتحان هائل، أن تنتصر، وأن تحافظ رغم ذلك على توازنك داخل بقعة الضوء، أن تنتصر، فلا تزهو بنصرك، ولا تشعر بالخيلاء، بل تظل ممسكاً بزمام فهمك للنصر، فهمك أن أسباب النصر لم تكن تعود لشيء فارق فيك، أو لأن النصر حكر لك.. بل بسبب السنن..
وإذا استطعت أن تفعل ذلك، أن تنتصر دون أن ينتصر الطاووس عليك، سيكون ذلك، كما قالت الآية -: {بَلاءً حَسَناً} [الأنفال: 8/17]..
و هل يحتاج الامر ان نذكر هنا الى ان النصر هنا هو اي انجاز تنجح في تحقيقه، و ليس مجرد النصر العسكري..قد يكون نجاحا ماديا... قد يكون نجاحا اجتماعيا..قد يكون فتحا علميا..قد يكون نجاحا في تغيير الناس من حولك..
امام كل نصر – كل نجاح ..يجب ان نقف و الايات التي نزلت بعد بدر في وؤوسنا...
* * *
خيط رفيع جداً يفصل بين الأمرين. لكنه خيط مهم جداً. وفاصل وحاسم، ومراعاة هذا الخيط، وفهمه، أمر أساسي من أجل إنجاز النصر – أي النصر، ومن ثم من أجل عدم الوقوع في الفخ الطاووسي إياه..
خيط رفيع جداً يفصل بين مواجهة أي أمر في {فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبارَ} [الأنفال: 8/15] والفعل.. والقدرة على الفعل..
وبين {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 8/17] التي تعني تجريدك من نسبة الفعل لك..
هذا الخيط -المعجز، هو أن تؤمن بقدرتك، على الفعل، وعلى الأداء، وبقدرتك على التغيير، في أثناء العمل نفسه، في خضم الإنتاج..
عليك أن تؤمن بنفسك، عند الإبداع، عند الإنجاز، وأن تطلب العون الإلهي لك في فعلك، وأن تؤمن أن المدد الإلهي رديف لك، يدفعك ويسندك، ويقويك.. وسيكون ذلك بمثابة أن تحصل على أجنحة إضافية تساعدك على التحليق أكثر في فضاءات الإبداع..
ولكن – ما إن تنتهي من ذلك الإنجاز – عليك أن تنفصل عن ذاتك، عليك أن تكف عن الإيمان بنفسك، تكف عن النظر إلى ذاتك باعتبارها مركز الكون، باعتبارها ذلك المحرِّك الذي حلقت به..
لحظة الانتهاء من الإنجاز.. عليك أن تعود إليه، إلى مسبب الأسباب، إلى الفاعل الأول، بذلك فقط تستطيع أن تتوازن، بذلك فقط تستطيع أن تظل تثمر..
بذلك فقط، تستطيع أن توقف ذلك الوحش الكاسر في أعماقك، الذي قد يبدو للوهلة الأولى طيراً شديد الجمال وشديد الاعتزاز بريشه وألوانه..و الذي سيظل يتلوى على سطح صفيح ساخن متحينا الفرص للظفر بك..لكنك مهما حلقت عاليا ، فانه ان ظفر بك سيجعلك تهبط..
انه طير شديد الجمال..لكنه لا يجيد التحليق..و سيأخذ منك جناحيك..