هل من العدل أن نقلق على أخواننا في الإنسانية الّذين لم يصل إليهم الإسلام كما ينبغي أم أن عدم ضماننا للنجاة في الآخرة يجعل علينا من الأحرى أن نقلق على أنفسنا ؟
و بالمقابل هل الهدى والتوحيد مشروطٌ بطريقٍ معبدٍ واضح المعالم مع وجود هذا الكون البديع الذي خلقه الله فقدّر سبحانه و تعالى ...
---------
جائزة نوبل لسمكة صغيرة
(إليه ، في ذكرى ولادته الحقيقي..)
يقولون: ما ذنب الأمم الأخرى، التي لم يصلها الإسلام، حتى تعاقب على عدم الإيمان؟.. ما ذنب تلك الشعوب أن تدخل جهنم بالجملة وهي لم تكن محظوظة كما نحن، ولم تولد مسلمة كما ولدنا آباءَنا؟.. ما ذنب البيض الشقر؟ الذين نتمنى سراً وجهراً، أن تكون مثلهم، ما ذنب الهنود، ما ذنب الصينيين، ما ذنب اليابانيين (ما أظرفهم!)..
أولاً، يجب أن نثني على رقة قلوب القائلين، وعلى رهافة مشاعرهم، وعلى إحساسهم المفرط بالآخر..
ولكن يجب علينا أن نلفت أنظارهم، وأنظار قلوبهم الرقيقة ومشاعرهم المرهفة، إلى أن الأمر قد لا يكون كما يتصورون بالضبط.. لا لأن الحكم على (الشعوب بالجملة) – أمر غير منطقي – فحسب، ولكن لأن هذه المشاعر، تتضمن حكماً إيجابياً، مسبقاً، على وضع أمتنا، إذ إن هذه الشفقة على الآخر، تفترض أن وضعنا أفضل منه، في الآخرة، وهو أمر لا يعرفه إلا علام الغيوب، وكل الدلائل الموضوعية حالياً، لا تبدو مشجعة.. إن لم تكن تشير إلى غير ذلك.. بشكل أكيد..
"وصول الإسلام إلينا" مقابل "عدم وصوله إليهم" قد يكون، على العكس، حجة علينا، وحجة لهم.. فبعد كل شيء، الإسلام لم يصل إليهم، على الأقل ليس كما وصل إلينا، وهذا قد يكون حجة لهم، يوم العرض الأكبر.. يوم السؤال الأكبر..
أما نحن، فما حجتنا، الإسلام وقد وصل إلينا، لماذا إذن نحن سيئون هكذا، لماذا نحن ننافسهم في المساوئ، ويتفوقون علينا في بعض الإيجابيات على الأقل..؟
لماذا نقرر أنهم هناك، في النار، وهم قد يكونون كذلك، وقد نكون نحن في درك أسفل، أو أعلى ،من النار نفسها.
* * *
جميل جداً .. لكن التساؤل ، إذا أُخرج من سياقِ الغرورِ الأجوفِ ، حقيقي ، فلنفترض أننا عدنا لنؤدي دورنا ، و قدمنا القيمَ الحقيقيةَ للإسلامِ الحقيقي، وعدنا لنكون خيرَ أمة ، أمةَ الوسط، أمةَ الاستخلاف .. فما بال القرونِ الأخرى ، ما بال الأممِ الصفراءِ والبيضاء ؟..
ما ذنبها أنها لم تتعرف على الإسلام الحقيقي ؟..
هكذا يكونُ التساؤلُ أكثرَ ارتباطاً بالمنطق ، بمنطقِ العدلِ والتوازنِ الذي هو من أساسياتِ المنطقِ الإسلامي ..
كيف يحاسبهم الله عز وجل وهو الحكم العدل ، على مخالفتهم لقانونٍ لم يعرفوا بوجوده أصلاً؟..
* * *
سيكون الردُّ من جانب البعض مقتبساً من القرآن الكريم ..
إنها مشئيتك يا رب ، ولا اعتراض على مشيئتك ، إننا ، كلَّنا ، ملكُك ، وأنت حرٌ فيما تملك يا رب .. لا تُسأل عما تفعل ..
نعم .. لا اعتراض على حكمك يا رب .. فكل حكمك حكمة ، وكل حكمك عدل ..
وإن كنا قد لا نفهم هذه الحكمة أحياناً ..
ولكن ، لو حاولنا أن نفهم ، فلربما تبينت لنا الحكمة ، وزاد فهمُنا ، وبطريقةٍ ما زاد إيمانُنا..
* * *
الآيةُ الكريمة ، تتحدث عن "كل نفس" وعن هدى انفرادي لكل نفس على حدة .. تتحدث عن هدي خاص لكل واحد من بني البشر .. كتاب سماوي ، لكل واحد منا، يأتي على قياس عقله ومنطقه ومزاجه وعواطفه وظروفه.. لو شاء الله ذلك ، وهو على كل شيء قدير .. لحصل ..
ولكن هذا كثير .. أكثر مما ينبغي ..
لا هدى فردي ، لا هدى خاص ، لكل واحد على هدى .. ولكن هناك هدى "جماعي".. لكل البشر ، بكل الأعراق والألوان والأصناف.. والظروف.. لكل الأزمان والأماكن..
هناك رسالةٌ عامة للجميع ، تُسقِط حجةَ "عدم المعرفة" عنهم .. لا أقول إنها حجة عليهم ، رغم أنها كذلك فعلاً ، لكني أقول إنها الرسالةُ لهم ، البلاغُ لهم ، بلغةٍ فوق كل اللغات ، بلهجةٍ أكثر حميمية وقرباً من لهجاتهم المحكية كل يوم ..
.. إنها رسالةٌ عامة ، تساوي بين البشر .. وتجعلُ نقطةَ انطلاقهم واحدةً في درب الإيمان .. تجعلهم قادرين على الوصول إليه ، لو أنهم أرادوا ، على الأقل ..
لو أنهم تخلوا عن تلك العجرفةِ والتعالي ، ذلك الشعورِ العقيم ، بأنه يجب أن يكونَ لكلِّ نفسٍ هداها ..
* * *
تلك الرسالة العامة، لا نجدها في صندوق بريد خاص بنا، ولا تصلنا عن طريق ساعي البريد.. ولا عن طريق وكالات البريد السريع العولمية العالمية، ولا حتى عن طريق البريد الآخر، صنو السلحفاة..
تلك الرسالة لا نفتح بابنا لنجدها على الأرض، ولا تصل إلى صندوق البريد الإلكتروني في غضون أجزاء من الثانية، كما أنها لن تصل كرسالة قصيرة على جوالك الحديث..
إنها أكبر من ذلك..
وتحتاج إلى صندوق بريد أكبر قليلاً من المعتاد..
ربما ليس "قليلاً "..
ربما العالم كله ، الدنيا بأسرها ، هي صندوقُ البريد ذاك ، و هو بالكاد يكفي ..
* * *
نعيش في داخل تلك الرسالة .. نقضي كلَّ حياتِنا ونحن فيها ، نكبر بين أسطرها ، ونعيش بين مفرداتِها ، ونحقق ذواتنا ونجاحاتنا أو فشلنا بين كلماتها ..
لكننا - لأننا قريبين جداً منها - لم نلتفت يوماً لنقرأ الرسالة ، تعودنا عليها لدرجةِ التبلدِ و فقدانِ الإحساس ..
لم نعتبر أنها رسالةٌ أصلاً .. لم نعتبر أن هناك صندوقَ بريدٍ نعيش فيه ، اعتبرناه مسكناً فقط .. وأحرف الرسالة اعتبرناها مجردَ ديكور ، مجردَ لوحةٍ جميلة .. مجردَ تصميمٍ جميلٍ ليس بالضرورة يحتوي على معنى .. وبالذات على معنى مباشر لنا ..
ما هي تلك الرسالة التي نعيش فيها ، ونعيش من خلالها ؟..
* * *
إنها هذا العالم كله ، بما فيه ، بل بكل ما فيه ، ونحن من ضمن ما فيه ..
هذا العالم كلُّه ، القائمُ على توازناتٍ محددةٍ بشبكةٍ من التوازناتِ المرتبطة ، الواحدةِ تلو الأخرى ، والتي لا تحتاج إلى جائزةِ نوبل في الفيزياء أو الأحياءِ أو الجيولوجيا لكي يستشعرها الإنسان ..
أنت لا تحتاج إلى نوبل ، أو حتى إلى شهادةِ الماجستير ، لكي تستشعر ذلك "التوازن" الموجودَ في الكون .. إنه موجودٌ في الصباحِ والمساء ، في الظلمةِ والنور ، في تعاقبِ الفصول ، في نموِ النبات ، في الثمرةِ على الغصن ، في الطفلِ في رحم أمه ، في الطفلِ نفسه على صدر أمه .. في الأرضِ تلتحم بماءِ السماء ، فتخضرُّ وتزهو ، وتنتجُ ما هو أكثرَ من مشهدٍ جميل ، تنتج المرعى ..
الأرضُ نفسُها تلتحم بجهدِ الإنسان وهو ينقب فيها ، فتنتج معادنَ يحتاجُها الإنسانُ كما لو أنها قد صُممت بتوازنٍ من أجلِ تلك الحاجات ..
التوازنُ في الأنهار ، في مواسمِ فيضانها وجفافها ، في ثورة البحار، في هدوئها ، في الأرضِ تارةً منبسطةً ميسرة ، وأخرى جبليةً وعرة .. في الإنسانِ نفسه ، في حياتِه، شهيقِه ، زفيرِه ، في نبضاتِ قلبه ، في العالمِ كلِّه متوازن من أجل أن يهيئ حياةَ هذا الإنسان ..
إنه التوازنُ الذي لا يحتاج سوى مؤهلاتٍ عقلية بسيطة ، لاستشعاره ..
لذلك ، فليس على المجنون حرج ..
المجنونُ وحدَه ، معه الحجة ، في ذلك ..
* * *
كلُّ ذلك التوازن ، ضمنَ مقاديرَ معينة ، التي يقوم عليها العالمُ بأسره ، لا تحتاج أكثرَ من أن تنتبه قليلاً لما حولك ، تنتبه لطفلك وهو ينمو ويكبر ، وتنتبه له وهو يمرض ، ثم يتماثل للشفاء ، تنتبه له وهو يتعلم المشي ، ويتعلم الكلام ..
تنتبه للعالم ، وقد أعد لك لكي تسعى فيه، وقد ملئ بمعدات لك، لكي تستعملها، لكي تستغله وتستغلها..
الإنسانُ الأول ، الذي تقدمَ من النار وأخذَ منها شعلة ، واستغلها في الطبخ .. التدفئة .. لم يكن يحملُ شهادةً في الفيزياء .. لكنه كان ينتبه ..
الإنسانُ الأولُ الذي تمكن من تدجين الحيوانات ، وانتقلَ من الصيدِ إلى الرعي ، لم يكن يحملُ شهادةَ خبرةٍ في البيطرة ، لكنه كان قد انتبه إلى ذلك التوازن الذي يسكن عمقَ الأشياء ، واستطاعَ أن يستخدمَه ، بتوازن ، لصالحه ..
الإنسانُ الأول ، الذي اكتشف أنَّ الرعيَ ليس هو الخيار الوحيد ، وأنه بذلك التوازن الموجود في الطبيعة ، يمكن المضي إلى الزراعة ، لم يكن يحملُ شهادةً عليا في الزراعة ، لكنه انتبه إلى ذلك التوازن ، وإلى إمكانيةِ استثماره .
في كلِّ شيء ، مع كلِّ شيء ، وداخلَ كلِّ شيء .. هناك ذلك التوازن .. حيث كلُّ شيء يكون بمقدارٍ معين .. بحسبِ المقدارِ المعينِ المطلوبِ بالضبط ..
حيث كلُّ شيء ، يكون ، بقدر ..
* * *
هذا العالم ، الذي خلق بقدر ، هو تلك الرسالةُ الموجهةُ للجميع.. وهذا هو القدر :
التوازنُ في عالمٍ متوازن ، نحن جزءٌ منه ..
ليس سراً غامضاً ، وليس أحجية ، وليس متاهةً نقضي أعمارَنا في الفوضى في دهاليزها ..
إنه القدر ، التوازن ، تداخلُ الأسبابِ والمسببات ، الذي يُنتجُ هذا العالم ..
والذي لولاه لما كان هذا العالم كما هو الآن ..
ولما كان ممكن أصلاً ، أن نكون ..
* * *
وأكثرُ ما يلفتُ النظرَ إلى هذا القدر ، التوازن ، الذي يرتكز عليه الخلق ، هو تلك الأحيان القليلة التي يظهر فيها التوازنُ كما لو أنه قد اختل ، زلزالٌ هنا ، إعصارٌ هناك ، فيضانٌ هنا ، وبركانٌ هناك .. إنها المراتُ القليلة - الاستثناءات - التي تؤكدُ القاعدةَ الأصل .. قاعدةَ التوازن ..
إنها الكوارثُ التي تحدث بين الحين والآخر ، والتي تذكرنا كيف أن التوازنَ يستمر في كلِّ الأحيان الأخرى .. كيف أنَّ هذا العالم المتوازن، مبنيٌّ على قدر ، بقدر ، من قدر ..
* * *
توازنُ العالم وهذا القدر الذي يشكل مشتركاً أساسياً في كل عنصرٍ من عناصر الخليقة ، لا يمكن أن يكونَ بلا معنى ، لا يمكن أن يكونَ مجردَ بناءٍ متسق ، لا يمكن أن نعتبرَه مجردَ منظرٍ جميل ، نقف أمامه ، كما لو وقفنا أمام لوحةٍ جميلة ، ونقولُ شيئاً بخصوصِ ذلك الجمال ثم نمضي ..
الأمرُ أعمقُ من الجمالِ المجرد .. إنه يرتبطُ بالأسبابِ والمسببات .. يرتبطُ مع بعضه بعضاً كما ترتبط أحجارُ الدومينو مع بعضها ، الكلُّ مرتبطٌ بالجزء ، والجزءُ مرتبط بالكل ، والعلاقةُ بين الجزء والكل مثل علاقة مرآتين متقابلتين ..
قد لا يؤدي بك أمرُ الأسبابِ والمسببات إلى أن تهتديَ إلى هدي السنةِ النبويةِ وتفصيلاتها ، لكن كل من يتوقف يوماً عن الركض ، وينتبه إلى أن هناك رسالة في هذا الكون، سيصل - على الأقل - إلى أن هناك "قوةً عظمى" قادرةً ومهيمنةً ، قد خلقت هذا العالم على هذا الشكل ، سيصل إلى أن ذلك كلَّه لا يمكن أن يكونَ قد وُجد عن طريقِ الصدفة ، وسيصل إلى أن يكفرَ بإلهِ الصدفةِ المزعومِ الذي لا وجود له .. وقد يصل أيضاً إلى ما هو أكثر ..
إنه الخلقُ المتوازن .. القدرُ الإلهي الذي صنع عالماً متقناً ، لن يخطئ فهمَ إتقانه إلا من قد رفع عنه القلم ..
* * *
اعترف .. لسنين طويلة ، بقيت أسيراً لوصفٍ رائع ،لصاحب الظلال، لآية {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 87/3].. تحدث عن الوصف ، عن ثعابين السمك ، التي تعيش على جانب من المحيط ، لكنها تترك بيوضَها على الجانبِ الآخر ، وتعود أدراجها .. وعندما تفقس البيوض ، تخرجُ السمكاتُ الصغيرة ، وهي في ذلك المنفى البعيد عن الموطنِ الأم ، لكنها تعبر المحيط ، دون أن تكونَ قد مرّت بالدربِ من قبل ، لتعودَ إلى حيث تعيش السمكات الأم ..
لقد قدّر ، وضعَ تلك القوانين فهدى ، جعلَ سمكاتٍ صغيرةً تهتدي إلى منزلها الأم ، دون أن تعرفَ الدرب ..
لسنين بقيتُ أتخيلُ ذلك المشهدَ في عمق المحيط ، وذلك التقديرَ الإلهي المتماسك ، الذي يرشد تلك السمكات ، كلُّ مرةٍ مررت بها على الآية ، كنت أمر على المحيط ، وعلى رحلة الهداية تلك ..
الآن أفكُّ أسري ، وأخرجُ من المحيط إلى اليابسة ، إلى أرضِ الواقعِ الذي نعيش فيه ، فأجد تلك السمكات الصغيرة ، حاضرةً في كلِّ بني البشر ، فقط لو أنهم وقفوا يوماً لينتبهوا ..
أجدنا جميعاً سمكاتٍ صغيرةً في عمقِ المحيطِ المظلم ، يمكن لنا ، لو أردنا ، لو انتبهنا ، أن نجد ضوءاً يهدينا .. يرشدنا إلى الدرب الصحيح ..
أجدُ الأمرَ في أولادي ، كيف خلقوا ، كيف ولدوا ، كيف كبروا .. كيف تعلموا أحرفهم الأول ى، وخطواتِهم ، كيف صاروا يسألون .. ويتساءلون ..
أجدُ الأمرَ في رحلةِ حياتي ، في كيف أنَّ قلبي ظلَّ يدقُّ كلَّ تلك السنين ، ولم يحدث يوماً أن توقف .. في كيف أني أكتب الآن ما أكتب وأفكر فيما أفكر ..
وأجده أيضاً فيكم ، قراءً أو مستمعين ، في ذلك التواصل الفريد بين البشر ، في الأفكار تنتقل ، وتُغير الروؤس ، وتصبح الأفكارُ غير ، والرؤوسُ غير ..
مثل سمكة صغيرة ، داخل عالم الأسبابِ والمسببات ، داخلَ عالمِ القدرِ المتوازن :