التفسير المطول - سورة التوبة 009 - الدرس ( 31-70 ) : تفسير الآية 37 ، تلاعب الكفار بالأشهر الحرم.
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2010-12-17
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
من حكمة الأشهر الحرم حقن الدماء وتخفيف العداوة والبغضاء :
أيها الأخوة الكرام، مع الدرس الواحد والثلاثين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السابعة والثلاثين وهي قوله تعالى:
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
[سورة التوبة]
أيها الأخوة، لعل من حكمة الأشهر الحرم أنه إذا نشبت حرب بين فئتين هذا الدم الذي أهرق يزيد المعركة احتداماً، وقد لا تنتهي المعركة، وقد تدوم بعض الحروب في الجزيرة قبل الإسلام سنوات وسنوات، لكن حلاً يرضي الطرفين، ويحفظ ماء وجه الطرفين، ولا يذل أحد الطرفين، أن الأيام تمضي في هذه الشهور الاثني عشر، أربعةُ أشهر لا يجوز فيها القتال، فالحرب تقف بالتعبير المستخدم الآن لا غالب ولا مغلوب، فحينما تدخل هذه الأشهر يتوقف القتال، ويذوق الناس طعم السلم، ولعل هذه الطريقة هي التي تحقن الدماء، وتوقف الحروب، فلذلك جعل الله الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب، هذه الأشهر الله عز وجل حرّم فيها القتال، فالقتال يقف دون أن يهان أحد الطرفين، ودون أن يوصف أحد الطرفين أنه مهزوم، ودون أن يتعجرف أحد الطرفين أنه منتصر، الحرب تقف في هذه الأشهر هذا هو الشرع الإلهي، حقن للدماء، وتخفيف للعداوة والبغضاء.
الحق واحد لا يتعدد :
و لكن لا بد من التنويه، بأن الحرب بين حقين لا تكون، الحق لا يتعدد، لذلك الحرب بين حقين لا تكون، وبين حق وباطل لا تطول، لأن الله مع الحق، لكن بين باطلين لا تنتهي، هذه مقولة تلخص حقيقة الحروب في الأرض، بين حقين لا تكون.
للتقريب: نقطتان لو جهدت أن تصل بينهما بخط مستقيم الخط المستقيم الثاني ينطبق على الأول، والخط المستقيم الثالث ينطبق على الثاني، ولو حاولت أن ترسم مليون خط مستقيم بين نقطتين كل هذه المستقيمات تتطابق، الحق واحد، لكن لو أردت أن ترسم خطاً منحنياً أو خطاً منكسراً بين نقطتين لك أن ترسم مليون خط، أول خط انحناء بسيط، الخط الثاني انحناء أشد، إلى ما لانهاية، فيمكن أن ترسم ملايين الخطوط المنحنية أو المنكسرة بين نقطتين، لكنك لا تستطيع أن ترسم بين هاتين النقطتين إلا خطاً واحداً.
فالحق لا يتعدد، والباطل كثير، ماذا نستنبط من هذه الحقيقة؟ كل واحد منا له عمر الله أعلم، ستون، سبعون، ثمانون، خمسة وخمسون، تسعة وأربعون، ثلاثة وستون، هذا العمر لا يسمح لك ولا يكفيه أن تستوعب الباطل، الباطل كثير، والباطل غير محدود، لو أمضيت معظم العمر في دراسة فرقة ضالة واحدة، البواعث، الخلفيات، المعطيات، المؤثرات، الأهداف، التطورات، قد تمضي ثلث العمر في دراسة موضوع باطل واحد، إذاً الأعمار لا تكفي لاستيعاب الباطل، الباطل كثير، الآن في الأرض، هناك طروحات، و ضلالات، و خزعبلات، و أوهام، وعقائد فاسدة، و تصورات خاطئة، الأرض تعج بالضلالات، لكن الحق واحد.
على كل إنسان أن يعرف الحق و يجعله مقياساً له :
لذلك هذا العمر الذي منحك الله إياه كاف لاستيعاب الحق، ولا تكفي آلاف الأعمار لاستيعاب الباطل، ماذا نستنبط من هذه الحقيقة؟ أنك أيها الإنسان لا تملك إلا عمراً محدوداً، هذا العمر يكفي لاستيعاب الحق الذي أنت في أمس الحاجة إليه، وإذا استوعبت الحق كان الحق مقياساً في كل شيء، اعرف الحق واجعله مقياساً، وأي شيء خلاف الحق فهو باطل، أي العمر يغطي أن تستوعب الحق وحده، هناك كتاب، و سنة، و وحي متلو الكتاب، و وحي غير متلو السنة، فأنت حينما تقرأ القرآن كل يوم وتبحث في تفسيره، وتقرأ السنة وترى تفاصيلها، هذا الذي تعلمته واستوعبته هو المقياس.
مثلاً لو أن هناك أمتاراً ببلد، أمتار مزورة، أي متر وثلاثة سنتيمترات، متر وسنتيمتر واحد، متر وميليمتر، متر وعشرة سنتيمترات، نحن عندنا متر نموذجي مودع في مركز المدينة، في أيدي أمينة ومحفوظ، هذا المقياس الحقيقي، فأنت تستخدم هذا المقياس لامتحان أي متر يقاس به.
وكلامي دقيق، أنت حينما تمضي وقتك في فهم القرآن الكريم، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، هذا دخل في منهاجك، الآن عندنا مثلاً حفلة غنائية يرصد ريعها للعمل الخيري، بحسب المنهج هذه مرفوضة، لأن الأهداف النبيلة السامية يجب أن تكون الوسائل لها نبيلة سامية، حفل غنائي لا يرصد ريعه لعمل خيري، فأنت حينما تجهد أن تستوعب الحق، أن تفهم الوحي، الوحي الذي أنزله الله على نبيه الكريم، وأن تفهم السنة التي فسرت لك هذا الوحي، فأنت بهذا الوحي وتلك السنة تجعل منهما مقياساً لك لكل شيء، فما ورد مطابقاً للكتاب والسنة على العين والرأس، وما جاء مخالفاً للكتاب والسنة مرفوضٌ أشد الرفض.
الدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم :
لذلك الشيء الواقعي والعملي أن تجهد في استيعاب الحق، فإذا استوعبته بشكل معقول لأن هناك تفاصيل، وأساسيات، وبالمناسبة الكلام دقيق، الحق كأساسيات يجب على كل مسلم أن يستوعبه، أما التفاصيل فتحتاج إلى تفرغ، وإلى تعمق، وإلى تبحر.
لذلك هذا يقودنا إلى أن طلب العلم فرض عين على كل مسلم، أنت تعمل في التجارة فرض عين عليك أن تتقن الأحكام الفقهية المتعلقة بالتجارة.
هناك فكرة أتمنى أن تكون واضحة لديكم: أنت تسأل إنساناً، ماذا تعمل؟ يقول لك: طبيب، ماذا تقول في هذه الآية؟ قال: هذه ليست من اختصاصي، بترفع، هو طبيب، والثاني مهندس، هذا معلوماتي، وهذا معه اقتصاد دولة، هذا معه فيزياء نووية، فيأتي إنسان يتوهم أنه إذا كان لديه اختصاص في علم من العلوم، هو في الاختصاص متبحر، هذه هويته، ولا حاجة له أن يكون مختصاً في الدين، هذا ليس من اختصاصي، ومعه فيزياء نووية، الحقيقة الدقيقة: أن طلب العلم فرض عين على كل مسلم، والدعوة إلى الله فرض عين على كل مسلم، الفرض العيني.
الإنسان خاسر لأن مضي الزمن وحده يستهلكه :
الله عز وجل أودع في الإنسان قوة إدراكية، ميزه بها عن بقية المخلوقات، هذه القوة الإدراكية من شأنها أن تستخدمها في البحث عن الحقيقة، وإذا استوعبت هذه الحقيقة ينبغي أن تدعو إليها، والدليل أن الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز في سورة قصيرة لا تزيد عن سطر يقول فيها:
﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾
[سورة العصر]
أي خاسر، وقد يسأل سائل يا رب لماذا أنا خاسر؟ فالجواب: لأن مضي الزمن وحده يستهلك الإنسان، بصرف النظر عن طاعتك لله، أو عن عدم طاعتك، سبت، أحد، اثنين، ثلاثاء، أربعاء، خميس، جمعة، انتهى أسبوع، ثم أسبوع ثان، ثم ثالث، ثم رابع، ثم شهر، شهر ثان، ثالث، رابع، انتهى فصل، فصل ثان، ثالث، رابع، عام، عشرة أعوام، انتهى عقد، فالإنسان ما بين طرفة عين وانتهائها يغير الله من حال إلى حال.
مرة عندي شريط صغير، كاسيت، لا أعرف ما مضمونه، استمعت إليه فإذا هو شريط موضوع بآلة إجابة آلية عن الهاتف، استمعت إليه بشغف، الشريط اتصالات هاتفية مسجلة كلها، أكثر من خمسة عششر إنساناً قد توفاهم الله وأصواتهم على هذا الشريط، خمسة عشر إنساناً صوتهم في الشريط توفاهم الله، فالدنيا ساعة اجعلها طاعة، أي عمرك يستوعب الحق الذي أنت بحاجة إليه، أما الباطل فلا ينتهي، فالحق هو المقياس، وما سواه باطل.
الوحي حق مطلق :
أنت حينما تستوعب الحق تستطيع أن تقول بكل قوة وبكل ثقة أن ما سواه باطل، صار معك مقياس، هذا الوضع يخالف القرآن فهو باطل، هذا الوضع يخالف السنة فهو باطل، فاجهد في هذا العمر المحدود أن تستوعب الحق، الحق وحي السماء، فضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، أي كم كتاب في المكتبة؟ ملايين، مئات الملايين، كل هذه الكتب من تأليف البشر، والإنسان غير معصوم يخطئ ويصيب، أما إذا قرأت وحي السماء، بسم الله الرحمن الرحيم:
﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
[سورة البقرة]
فالوحي حق مطلق، وقد شرح هذا الوحي بكلام النبي المعصوم، وكلامه حق مطلق لذلك:
(( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله وسنتي))
[ أخرجه الحاكم في مستدركه عن أبي هريرة ]
لذلك أيها الأخوة ينبغي أن نجهد جميعاً بمعرفة القرآن والسنة، فإن عرفنا الكتاب والسنة، وتمسكنا بهما فلن نضل أبداً.
النادم من تفوق في كل علوم الأرض ولم يستوعب الحق الذي وجد من أجله :
أخواننا الكرام، مرة ثانية: طلب العلم فرض حتمي على كل مسلم، فرض عيني، إياك أن تقول: أنا مهندس لا علاقة لي بالدين، أنا طبيب، أنا معي معلوماتية، أكثر الناس أصحاب الاختصاص العالي يعتزون بهذا الاختصاص، وكأنهم في غنى عن أن يكونوا مستوعبين للدين، هو مهندس معماري، معه معلوماتية، معه طب، معه بورد، كل علوم الأرض لو تفوقت بها ولم تستوعب الحق الذي جئت إلى الدنيا من أجله تندم أشد الندم.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً ﴾
[سورة الكهف]
فأنت في هذا العمر المحدود ينبغي أن تستوعب الحق ليكون الحق مقياساً، فنحن عندنا قضبان تستخدم كمتر، قد يكون هناك مليون قضيب، أحدها متر وسنتيمتر واحد، و الثاني ستة و ثمانون متراً، والثالث متر وعشرة سنتيمترات، نحن عندنا متر نظامي مودع في مكان أمين، دقيق، على مستوى الميليمتر، هذا المتر هو المقياس، فالحق مقياس، وما سواه باطل.
على كل إنسان أن يجهد في استيعاب الحق :
أنا أتمنى للمرة الثالثة أن يجهد أحدنا في أن يستوعب الحق، إن استوعبه كل شيء يقيسه عليه، ما جاء في الكتاب والسنة هو الحق، لكن كتوسع صغير أرى الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، الخط الأول، الخط الثاني، الخط الثالث، الخط الرابع، الخط الأول: النقل الصحيح، لماذا أقول نقل صحيح؟ لأن هناك نقلاً غير صحيح، حديث موضوع، كل الناس هلكى، هكذا؟ قال إلا العالمون، و العالمون هلكى، كيف؟ قال: إلا المخلصون، والمخلصون هلكى –لم يبقَ أحد- قال: هذا الحديث وضعته الزنادقة للتيئيس، يكفي أن تقرأ مثلاً أن أحد كبار العلماء لأربعين عاماً صلى الفجر بوضوء العشاء، أنت جرب هل تستطيع أن تبقي يومين من دون أن تنام؟ ليس صحيحاً، هذه القصة تبعدك عن الدين، الدين واقعي.
((والله إني لأخشاكم لله))
هكذا يقول النبي الكريم:
((أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ))
[متفق عليه عن أنس ]
الإسلام دين واقعي :
والله قصة أحجبت عن ذكرها لعشرين سنة تقريباً، القصة أن والي أذربيجان أرسل إلى سيدنا عمر بن الخطاب رسولاً، رسول عامله على أذربيجان، هذا الرسول وصل المدينة ليلاً، فكره أن يطرق باب أمير المؤمنين، وانتظر حتى الصباح، ذهب إلى المسجد يبدو أنه داس على يده خطأ فسمع صوتاً، قال: من؟، قال: عمر، قال: أمير المؤمنين! قال له: أمير المؤمنين، قال له: ألا تنام الليل، فهو الجواب الأول لأنني رفضت أن أروي القصة من أجله، إني إن نمتُ ليلي أضعتُ نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي، يجب ألا ينام الليل ولا النهار، أربعون سنة لا يوجد نوم إطلاقاً، هذه القصة تروى؟ ليس معقولاً! عثرت على رواية ثانية، إني إن نمت ليلي كله أضعتُ نفسي أمام ربي، واضحة، عندئذٍ رويتُ هذه القصة، إني إن نمت ليلي كله أضعتُ نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعتُ رعيتي.
الإسلام واقعي، الإسلام يجب أن تعيشه، القصص التالفة فيها مبالغات ما أنزل الله بها من سلطان، هذه المبالغات مثبطة، أنت مسلم، يجب أن تصل إلى الجنة وأنت مهندس، وأنت طبيب، وأنت تاجر، تبيع، وتشتري، وتتزوج.
((أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ))
[متفق عليه عن أنس ]
الأشياء المخالفة للفطرة تشريع أرضي و ليس سماوياً :
لذلك دائماً لما الله عز وجل قال:
﴿ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ﴾
[سورة الحديد الآية:27]
هم تصوروا أن ترك الزواج يجعلهم أقرب إلى الله، قال:
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾
[سورة الحديد الآية:27]
لم يستطيعوا، هذا التشريع أرضي، وليس سماوياً.
﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ﴾
[سورة الحديد الآية:27]
هم ابتدعوها، أرادوا منها التقرب لكن لأنها مخالفة للفطرة، مخالفة للطبيعة البشرية
﴿ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾
من يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه
فلذلك هذا الإسلام دين الفطرة، دين الواقع، وأكبر دليل:
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
[سورة القصص الآية:50]
عندنا بأصول الفقه المعنى المخالف،
﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾
المعنى المخالف: الذي يتبع هواه وفق هدى الله لا شيء عليه، اشتهى المرأة فتزوج، يصلي قد يقارب زوجته، وقد يصلي بعدها قيام الليل، وقد يبكي في الصلاة.
الشهوة سلم نرقى بها إلى أعلى عليين أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين :
مرة دعاني أحد علماء دمشق إلى الطعام، هذا العالم الجليل تزيد سنه عن مئة وسنتين، قال لي: عندي ثمانية و ثلاثون حفيداً، كلهم من حفّاظ كتاب الله، فلما خرجت من عنده، قلت: هذا الإنسان تزوج امرأة، وأنجب أولاداً، جلبوا له بالكنائن، وأنجب بناتاً، جلبوا له بالأصهار، الصف الأول: هو وزوجته، والصف الثاني: أولاده مع زوجاتهم، وبناته مع أزواجهم، الصف الثالث أحفاده، هذا صار هرماً، العالم وزوجته، وأولاده وزوجاتهم، وبناته وأزواجهن، وأحفاده، هذا الهرم المبارك ما أساسه بيولوجياً؟ علاقة جنسية، وفي أي بيت هناك علاقة جنسية، انظر هذه العلاقة ماذا أورثت؟ لذلك الشهوة سلم نرقى بها إلى أعلى عليين، أو دركات نهوي بها إلى أسفل سافلين.
الشهوة للتقريب كصفيحة البنزين، إن وضعت هذه الصفيحة في مستودع المركبة المحكم، وسال هذا البنزين في الأنابيب المحكمة، وانفجر في الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، ولّد حركة نافعة، أقلتك إلى الزبداني، إلى نزهة، ما الذي يجري في المركبة؟ انفجارات لكن انفجارات منضبطة، هذه الصفيحة نفسها صبها على المركبة وفيها خمسة ركاب أعطيها شرارة، تحرق المركبة ومن فيها، السائل نفسه إما قوة مدمرة، أو قوة محركة، فالشهوات ما أودعها الله فينا إلا لنرتقي بها إلى رب الأرض والسماوات، وما من شهوة أودعها الله فينا إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها، بشكل أو بآخر - وأنا أخاطب الشباب- حرمان في الدين لا يوجد، أنت إن كنت تمشي في الطريق وجدت تيار توتر عال، ومكتوب بلوحة واضحة بخط واضح: ممنوع التجاوز، تيار توتر عال، تيار التوتر العالي له حرم، فإذا الإنسان دخل حرم التوتر العالي ينجذب، ويصبح فحمة في دقائق، هل تشعر بحقد على من وضع هذه اللوحة؟ مستحيل! بل تشعر بامتنان، هل هذه اللوحة حد لحريتك أم ضمان لسلامتك؟ هل تصدق من هو الفقيه؟ الذي يرى الأوامر والنواهي ليست حداً لحرية الإنسان لكنها ضمان لسلامته، يجب أن تنطلق من أن هذه الأحكام ضمان لسلامتك، أنت لاحظ أي إنسان مستقيم، لا يوجد عنده مشكلة بحياته، لا يوجد عنده مشكلة تنهد لها الجبال، هناك حالات تعد حالات تدمير كامل للإنسان، أنت مادمت مستقيماً أنت في رعاية الله، وفي حفظ الله، وفي توفيق الله، وفي مظلة الله عز وجل.
الحق ما جاء به الوحي الصحيح وقبله العقل الصريح وارتاحت إليه الفطرة السليمة :
الذي أتمناه أن تحاول جهدك أن تستوعب الحق في هذا العمر المحدود، إن استوعبته كان الحق مقياساً لك، وما سواه باطل، فالحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، هناك نقل موضوع، ونقل ضعيف، ونقل مزور، خط النقل الصحيح، لذلك قالوا: الأحاديث الصحيحة تجمعنا، والأحاديث الضعيفة والموضوعة تفرقنا، الصحاح تجمعنا وخط العقل الصريح، هناك عقل تبريري.
حينما يأتي بلد غربي إلى بلد إسلامي يأتي بقواته إلى هذا البلد، ويتم قتل مليون إنسان، وإعاقة مليون ثان، وتشريد خمسة ملايين، والذي يعلن بهذه الحملة من أجل الحرية، هذا كلام مزور، هذا كلام باطل، هناك نقل صحيح، و عقل صريح، و عقل تبريري، والإنسان منطقي، حتى جرائمه يعطيها تبريراً أحياناً، فالبطولة أن يكون الحق صريحاً، إذاً هذه الدائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، والعقل الصريح، والفطرة السليمة، والواقع الموضوعي، فالحق ما جاء به وحي السماء، وشرحه المصطفى المعصوم، ما جاء به وحي السماء، وقبله العقل غير التبريري، وارتاحت إليه الفطرة السليمة، وقبله الواقع الموضوعي، الواقع ينبغي أن يتوافق مع الفطرة، ومع العقل، ومع وحي السماء، ما جاء به الوحي الصحيح، وقبله العقل الصريح، وارتاحت إليه الفطرة السليمة، وأكده الواقع الموضوعي.
الله تعالى اختص من الأشهر أربعة جعلهن حراماً وعظّم حرماتهن :
أيها الأخوة، الذي أريد أن أوضحه لكم أن الله عز وجل عظم هذه الأشهر، فجعل الذنب فيها أعظم، وأجر العمل الصالح فيها أكبر، أي- لا سمح الله ولا قدر- إنسان يسرق وهو في الحج، هو يسرق، السرقة سرقة لكن في أيام الحج معقول! وفي بيت الله الحرام!، الله اصطفى مكاناً هو بيت الله الحرام، واصطفى زماناً هو رمضان، فلذلك الأشهر الحرم: رجب، ذو القعدة، ذو الحجة، محرم، العمل الصالح فيها أجره أكبر، والذنب فيها كبير، كما أن الأجر في العمل الصالح كبير، والذنب في هذه الأشهر كبير، إذاً يقول ابن أبي طلحة: إن الله تعالى اختص من الأشهر أربعة جعلهن حراماً، وعظم حرماتهن، وجعل الذنب فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر فيهن أعظم.
تعظيم الأمور بما عظّم الله هو عند أهل الفهم وأهل العقل نهاية الكمال :
أيها الأخوة، بعض العلماء قال: إن الله اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً- سيدنا جبريل ملك، لكن الله اصطفاه من بين الملائكة وجعله أمين وحي السماء- ومن الناس رسلاً- والأنبياء بشر، لكنهم صفوة البشر- واصطفى من الكلام ذكره- فضل كلام الله على كلام الخلق كفضل الله على خلقه- واصطفى من الأرض المساجد:
(( إن بيوتي في الأرض المساجد، وإن زوارها هم عمارها، فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني، وحُق على المزُور أن يكرم الزائر))
[ أبو نعيم عن أبي سعيد الخدري]
واصطفى من الشهور رمضان، والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلة القدر، فعظّموا ما عظم الله، فإن تعظيم الأمور بما عظم الله هو عند أهل الفهم وأهل العقل نهاية الكمال، عظم ما عظمه الله.
لذلك قالوا - وهذا الكلام موجه لطلاب العلم-: من أوتي القرآن فظن أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقر ما عظمه الله، أي إذا الله عز وجل امتن عليك بمعرفته وطاعته، ولك صديق على مقعد الدراسة، عندما كبرت أنت وهو، صار من كبار الأغنياء لكنه رقيق الدين- دقق فيما سأقول-: إذا قلت في نفسك: هنيئاً له، فأنت حقرت ما عظمه الله، أنت مؤمن، أنت مستقيم، موعود بالجنة.
المؤمن موعود بالجنة و هذا الوعد يمتص كل مشكلاته :
مرة شخص إما من باب الدعابة أو من باب الانتقاد لا أعرف، قال لي: تقول أن المؤمن سعيد، أنا أؤكد لك أنه ليس بسعيد، قلت له: لماذا؟ قال: إذا كان هناك موجة حر شديدة يعاني منها كما يعاني منها غير المؤمن، وإذا كان هناك غلاء في الأسعار يعاني منها كما يعاني منها غير المؤمن، أين ميزته؟ فخطر في بالي مثل جاءني لتوه، قلت له: إنسان عنده ثمانية أولاد، ودخله خمسة آلاف ليرة، وبيته بالأجرة، وعليه دعوى إخلاء، دعوى إخلاء، وبيت بالأجرة، و دخله خمسة آلاف، وعنده ثمانية أولاد، هذا الإنسان وضعه لا يحتمل، تحت خط الفقر بكثير، قلت له: عنده عم لا ينجب أولاداً، معه خمسمئة مليون، مات بحادث، وهذا الشاب وريثه الوحيد، إنسان انتقل من فقر مدقع فجأة إلى خمسمئة مليون لكن حتى يستلمها يحتاج إلى عام، هناك مالية، و ضرائب، وتصفيات، وبراءات ذمة، أي اشتغل سنة حتى قبضها، لماذا بهذا العام بأكمله أسعد إنسان، لم يأكل لقمة زائدة، لم يشترِ معطفاً، لا يوجد معه، لكن لأنه موعود قطعاً بخمسمئة مليون فهو أسعد الناس، المؤمن قال:
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾
[سورة فصلت]
فالله وعد المؤمنين بالجنة، هذا الوعد يمتص كل مشكلاتنا، أليس كذلك؟
تلاعب الكفار بالأشهر الحرم لمصالحهم :
إذاً نعود للآية موضوع هذا الدرس:
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ﴾
أي الله عز وجل جعل الأشهر الحرم اصطفاها عن بقية الشهور، القتال فيها حرام، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، ورجب، ومحرم، الكفار أرادوا أن يلعبوا بهذه الشهور فقدموا بعضها وأخروا بعضها لمصالحهم.
فالله عز وجل قال:
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ ﴾
التأخير والتقديم، وتعديد هذه الأشهر زيادة في الكفر،
﴿ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾
هم أربعة، هم بالعدد لم يغيروا، لكن غيروا بالتعيين، بالترتيب، هذا التغيير من أجل مصالحهم، هذه كيف تصير؟ يأتي إنسان مثلاً هناك قضية فيها مشكلة كبيرة، لا تحل بالقانون، هذا البيت مؤجر على النظام القديم والمستأجر معه حقوق، هذا يلجأ للشيوخ، سيدي هل يجوز للإنسان أن يغتصب البيت؟ يقول له: لا يجوز يا بني، عنده حاسة سادسة، هذه القضية لا تحل بالقانون تحل عند المشايخ، هناك قضية ثانية لا تحل عند المشايخ تحل بالقانون، يقول: نحن نعيش في بلد فيه نظام، فيه قانون، هو نفسه يقول هذا، مرة قال: أريد حكم الله، مرة قال: أريد حكم القانون، فالإنسان عندما يبدل ويغير، يعتمد مرة على نظام، ومرة على نظام آخر يكون قد بدل و غيّر.
مثلاً: امرأة متزوجة ببلاد الغرب، مسلمة وزوجها مسلم، مهرها مئة ألف، زوجها معها عشرة ملايين، تقيم دعوى أمام قاض أمريكي، لماذا؟ لأن القاضي يحكم لها بنصف أموال زوجها، هنا بهذه البلاد تعويض الطلاق نصف دخل الزوج، هنا تناسبكم هكذا، تأتي إلى بيت مستأجر من النظام القديم، المستأجر معه حق البقاء بالبيت، يطلب الشرع، لماذا في هذه البلاد الغربية طلبت القانون؟ هنا بالبلاد الإسلامية طلبت الشرع؟ عنده حاسة سادسة، القضية لا تحل بالقانون، تحل عند المشايخ، وهذه لا تحل عند المشايخ، تحل عند القانون، فلما هو يختار القانون أو الشرع بحسب أهوائه ومصالحه يكون قد غيّر، هذا الموضوع كله.
أي هو في أشهر حرم، إذا كانت مصلحتي أن أنقل شهراً إلى شهر أهرب حتى أنهي المعركة وأغنم غنائم كبيرة، وقتها أنا لا أعبأ بتعيين الأشهر، أعبأ بأنها أربعة فقط.
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ﴾
الأربعة أربعة، لكن لعب في التقديم والتأخير من أجل مصالحه، وأي إنسان يلعب بالأحكام الشرعية لمصالحه، ساعة يعتمد الشرع، ساعة يعتمد القانون، معنى ذلك يبحث عن مصالحه.
قال تعالى:
﴿ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
وإن شاء الله في درس قادم نتحدث عن موضوع الهدايا بالتفصيل.
والحمد لله رب العالمين
http://www.nabulsi.com/blue/ar/art.php?art=7597&id=97&sid=101&ssid=257&sssid=258