الحقوق محفوظة لأصحابها

عمرو خالد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.هذه الحلقة قبل وفاة سيدنا عمر رضي الله عنه، وقد أوشكنا على الانتهاء من البرنامج، وكان هدف البرنامج أننا نقص عن عمر رضي الله عنه؛ لكي نرى أن هناك شئ كبير قد بنى ونحن اضعناه، شئ أسمه حضارة، تعب من أجلها النبي صلى الله عليه وسلم وجُرح، ومات من اجلها صاحبته رضي الله عنهم، هذه حقيقة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً، فَجملهُ وحسنَهُ إلا موضع لبنه –وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الانبياء بالبناء لأن هذه هي الحضارة- فجعل الناس يطوفون بالبيت يقولون: ما أجمله، ما أحسنه، لولا موضع لبنه، يقول النبي: فأنا موضع اللبنه وأنا خاتم النبيين)، هذا الحديث يوضح أن دور الأنبياء الحقيقي هو بناء الحضارة.

صفات صانع الحضارة..

قد بدأنا البرنامج وذكرنا سبع صفات لصانع الحضارة، نذكر بعضها:

1. تحرك بكُليتك، لأن مفتاح شخصية سيدنا عمر رضي الله عنه أنه إذا آمن بفكرة ما، يؤمن بها إلى النخاع، ويتنفسها، تسبح مع كرات دمه الحمراء والبيضاء، يتكلم مع الناس عنها، يرى الدنيا من خلالها، هل تؤمن بالأفكار بهذه الطريقة؟ وهو هكذا من قبل إسلامه بصفته وطريقته، والدليل على هذا أنه عندما كان قبل إسلامه كانت قريش أمثال أبو لهب وأبو جهل وأبو سفيان كلا منهم كانوا يحاربون النبي صلى الله عليه وسلم بسبب مصلحه شخصية، لكن عمر رضي الله عنه لم يحارب النبي صلى الله عليه وسلم من أجل مصلحه شخصية –رغم حدته- بل لأنه كان مؤمن بفكرة حتى النخاع وهي "وحدة قريش"، لأنه كان يرى –قبل إسلامه- أن النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرق قريش، فكان من النتيجه انه يريد أن يقف بكل قوة أمام النبي صلى الله عليه وسلم وأمام الإسلام من أجل فكرته، ومن أجل ذلك قد جمع بني عدي كلهم رجال ونساء أطفال وشيوخ يقولوا لهم: "يا بني عدي الحزم، الحزم، من فارق ديننا إلى محمد لأضربنه ولأعذبنه، ولا أفرق بين رجل وأمرأة، وبين كبير وصغير، وبين خادم وعبد وسيد". والأكثر من ذلك أنه ذهب إلى أخوه زيد بن الخطاب وقال له: "يا زيد...إنما أسُن سيفي لأقتل محمد"، فقال زيد: " يا عمر، وما فعل فيك محمد! إنه لم يرفع عليك عصى؟! ولم يرميك بحجر"، قال عمر: "دم رجلين أهون من دم الجماعة".

2. لكي تريد أن تكون صانع حضارة ينبغي أن تجمع صفات معاً مثل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثل أن تكون قوي وشجاع ورحيم في آن واحد. عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وبعد إنتصار الإسلام، وبعد أن أصبح خليفة للمسلمين، وبعد أن أتى المال وعندما كان يوزع المال على المسلمين الأوائل فأعطى عياش وهشام بن العاص نصف الذي أعطاه لفقراء المهاجرين الذين هاجروا للمدينة، فسأله عياش: "لما تعطيني نصفهم؟"، فقال له: "أوقد نسيت أنك تخلفت وجئت متأخر"، الحُب والأخوة كان لدى عمر رضي الله عنه عظيمه ولكن لم يمنعه من العدل، لأن الناس التي تغلب عليهم العاطفه عادتاً يجوروا لأن عاطفتهم هى التي تغلب، لكن عمر رضي الله عنه يجمع بين الصفات المختلفة. يا شباب لكي تكون عظيم لابد لك ان تتميز بأكثر من صفة مثل عمر بن الخطاب وليس بصفه واحدة.

3. الإخلاص، أي صاحب رسالة، والذي يحركه الرسالة التي يؤمن بها ويخلص لها. عمر بن الخطاب رضي الله عنه مخلص جداً، فكرته تملئ كيانه، فكان عمر رضي الله عنه في غزوة بدر قمة الإخلاص؛ فعندما بدأت معركة بدر ظل يبحث عن خاله لكي يحاربه، ولكي يثبت المسلمين، فظل رضي الله عنه يبحث عن خاله أبو جهل فلم يجده، فيبحث عن خاله الأخر العاص بن هشام، ويقف أمام خاله ويحاربه ويقتله، ثم يقف أمام المسلمين ويقول لهم: "أيها المسلمون...قتلت خالي العاص بن هشام"، فيجد أن أبا حذيفه أحد من المسلمين قتل أبيه، فيقول له: " يا أبا حذيفه... أرى في نفسك شئ مني؟ أتظن أنني قتلت أباك؟ لا والله ما قتلته إنما قتلت خالي" ثم يسكت عمر رضي الله عنه هُنيه ثم يقول له: "وماذا لو كنت قتلته إنما هو رجل من الكفار إنما أكون قد أنتصرت للحق" فيقول أبا حذيفة: "نعم يا عمر.. إن كنت قتلته فأنت على الحق وهو على الباطل ولكن كنت أتمنى لو أسلم أبي". عمر بن الخطاب رضي الله عنه غير فكرة الجيش وبدأ المسلمون يحاربون بقوة فانتصر المسلمون في بدر، وأنا أعتقد أن من أسباب أنتصار المسلمين في بدر "نزول الملائكة، وخطة النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً شجاعة عمر رضي الله عنه وإخلاصة عندما بدأ بقتل خاله لكي يوصل للمسلمين لا ينبغي ان نفكر في صلة الرحم لكي لا نهزم لأن الكفار لا يفكرون في هذه الفكرة من الأساس، ورغم ذلك انه رضي الله عنه بعد أن قتل خاله تأثر وقال: "تمنيت أنه لو أسلم".

شروط إقامة الحضارة..

لابد أن تتوفر هذه الشروط في الجيل الذي يقيم الحضارة:

1. جيل ينتمي لفكرة.. عندما كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وقالت السيدة عائشة: مات رسول الله، مات رسول الله.. فينفجر المسجد بالبكاء، فيقول عمر رضي الله عنه: "فخرجت أبحث عن مكان أصرخ فيه وحدي" ولكنه لم يستطع تصديق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، فأخذ سيفه ورفعه في المسجد وقال: "من قال أنه قد مات قطعت رأسه إنما ذهب للقاء ربه كما ذهب موسى للقاء ربه وسيعود، وسيقتل المنافقين وسيقتل من قال أنه قد مات"، لكن يدخل أبو بكر رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أهدأ الناس ويحتضن النبي صلى الله عليه وسلم ويتأكد أنه قد مات، ويقبله في جبينه ويقول له: "ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً"، فيخرج أبو بكر رضي الله عنه ويقول: "اسكت يا عمر... أيها الناس من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت- ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) يقول عمر: "فكأني أسمعها لأول مرة.. وعرفت أنه قد مات". ومنذ ذلك الحين حَول عمر بن الخطاب رضي الله عنه حُبه للنبي صلى الله عليه وسلم وحبه للقرآن لصناعة وبناء حضارة.

2. تكامل الطاقات، وكيف نعمل سوياً، وكيف نكون فريق عمل واحد، وسوف نرى كيف كان بأبو بكر وعمر رضي الله عنهم عندما عملوا سوياً كفريق متكامل استطاعوا أن يهزموا الفرس والروم، أبو بكر وعمر رضي الله عنهم نموذج تكامل رهيب ورائع، أبو بكر رضي الله عنه الأصالة لأنه أخذ كل ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم يفعل بالحرف، وعمر رضي الله عنه الإبداع، أبو بكر إدارة الأزمة، وعمر يرى الأزمة قبل وقوعها، وهذه هو التكامل، لذلك حكم أبو بكر رضي الله عنه سنتين لكي يثبت الأصالة، لكن الإبداع يريد له عشر سنين، من أجل ذلك كان أبو بكر رضي الله عنه وقت الأزمة، وجاء سيدنا عمر مكملا بعد أن أنتهت الأزمة، والأزمة كانت حروب الردة، ولأن أبو بكر رضي الله عنه كان أحكم شخص يدير الأزمة وأقدر عليها، فعندما جاء له من العرب الذين يريدون منع الزكاة أستشعر أنهم بعد ذلك سيمنعوا الصلاة إلى أن يهاجموا المدينة، فكان له الحسم منذ البداية حين قال: "والله لو منعوني عقال كانوا يؤدوه لرسول الله لحاربتهم عليه"، ولكن عمر رضي الله عنه اختلف معه واختار اللين –فاستطاع أن يغير من صفته من أجل إقامة النهضة ومن أجل التكامل بينه وبين أبو بكر- فقال لأبو بكر: "يا أبا بكر لا طاقة لك بحرب العرب وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن قالوا لا إله إلا الله عصموا مني دمائهم)"، فيقول أبو بكر: " أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام ياعمر! رجوت نصرتك فجئتني بخذلانك!"، فكان عمر رضي الله عنه يعرض على أبو بكر كل ما يقول الأخرين فيقول عمر: "ما إن وجدت إصرار أبو بكر حتى قلت والله أنه الحق فعزمت معه".

3. إسعاد الناس، لكي تعيش الناس حياة كريمة، لذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول شئ عمله عندما تولى الخلافة هو كيف يرفع مستوى المعيشه للأفراد، والخطوات التي أجراها لذلك هو انه كان يحث على العمل والإنتاج والبعد عن الفراغ وبالأخص في أول ست شهور، وكان يقول: "إنما يفتح أبواب الحرام الفراغ"، ويقول: "من ليس له حرفة سقط من عيني وسقط من عين رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ويأتي بمعاذ بن جبل ويقول له: " يا معاذ أحصي لي كم مرة ذكر العمل في القرآن الكريم وأخطب بين الناس ذكرهم أن العمل ذكر في القرآن". ثم يأتي بأبي هريرة ويقول له: "لماذا لا تعمل؟" فيقول له: "لا أحتاج للعمل... معي بعض المال"، فيقول له: "أأنت خير من يوسف عليه السلام؟! ألم تسمع يوسف عليه السلام يقول: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ثم يجد رجل في إحدى شوارع المدينة له بطن كبيرة فيقول له: "ما هذا؟"، فيقول الرجل: "هذا بركة من الله"، فيقول عمر: "هذا عذاب من الله"، ثم يدخل المسجد ويجد ناس نائمه بالمسجد ثم يضربهم بالعصاه ويقول لهم: " لما تجلسون هاهنا؟" يقولون: "ندعوا الله أن يرزقنا" قال: "تدعون الله أن يرزقكم هاهنا؟! إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة". ويجد أحد السائلين ويقول: "من يعشيني؟ من يعشيني؟" فيسرع سيدنا عمر إليه ويقول: "أطعموه"، فيطعموه، ثم يأتيه مرة أخرى في الشارع بعدها بساعه وهو يقول: "من يعشيني؟ من يعشيني؟"، فسيدنا عمر يقول له: "ألم أأمر أن يعشوه"، فقالوا: "عشيناه يا أمير المؤمنين"، فقال له: "أنت لست بسائل أنت تاجر". ويجد ناس جالسون ويقول لهم: "لم تجلسون؟"، قالوا: "نحن المتوكلون على الله"، قال: "أنتم المتواكلون...التوكل أن تلقى الحب في التراب ثم تدعوا الرب في العطاء".وفي ذات مرة وجد شخص يمشي بإستماته فيقول له: " مالك؟" فيقول له: "من التعب بالعبادة"، فيضربه ويقول له: "أمت الإسلام أماتك الله". وعندما تأتي الأموال الكثيرة فيطلب منه بعض الناس قروض لإقامة مشروعات صغيرة من أمثال هند بنت عتبه وقد أعطاها أربعة ألاف درهم، وكان وقتها أول مرة تعطي الدولة قروض كان في عهد عمر رضي الله عنه.

عُمر ومنظومة الأخلاق

لكي تستمر الحضارة لابد لها مجموعة من العناصر منها منظومة الأخلاق التي كان يعتني بها عمر رضي الله عنه بها عناية فائقة، كما في بيت الشعر: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا.

عمر رضي الله عنه يريد أن يرسل برسالة للفرس والروم، وأنه يريد أن يقول أننا لسنا بقوة عسكرية تأتي لتحارب قوة عسكرية كما كان يحدث بينكم قبل ذلك، ولكننا نحن المسلمين حضارة لديها قيم تأتي لكي تواجه حضارتكم فاسمعوا لها، فوجد عمر رضي الله عنه أن أفضل حل هو أرسال الوفود، سيرسل وفد لكي يقابلوا كسرى وهذا الوفد مشكل من أربعة عشر شخص أنتقاهم عمر رضي الله عنه فيهم شباب وفيهم شيوخ فيهم صحابه وفيهم تابعين وهم: "المغيرة بن شعبة، النعمان بن مقرن، ربعي بن عامر، عدي بن سهيل بن عمرو..." فيرسلهم ويقول لهم: "إننا لا نغلب أعدائنا بعدد ولا عدة، ولكننا نغلبهم بهذا الدين وهذا الخلق، فإذا استوينا نحن وأعدائنا في المعاصي كانت الغلبة لهم بعددهم وعدتهم أبلغوهم ذلك، حدثوهم عن الإسلام، حدثوهم عن أخلاق المسلمين، أظهروا بساطة المسلمين، ولا تبالغوا في الترف مثلهم فتستوا معهم".

أتمنى أن أكون قد قدمت لكم صورة متكاملة كيف نقيم حضارة بشروطها وصفاتها، لعلنا قد وضعنا شيئاً بعد 20 سنه من اليوم أو عندما نموت يأتي ناس ويقولوا ان هناك من رسم لنا طريق ساعدنا فيه وجعلنا نرى طريق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ونأخذ منه ملامح لنسير بها ونصنع بها حضارة.

قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمة

Daraltarjama.com©جميع حقوق النشر محفوظة

يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كأنت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع

للاستعلام:management*daraltarjama.com