بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. أهلًا بكم في حلقة جديدة من "عمر صانع حضارة". نحن الآن نقترب من العشر الأواخر من رمضان، فهل أنتم مستعدون لهم؟ هل أنتم مستعدون للتهجد والقيام وليلة القدر؟ [لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ] {القدر:3} . هل تتخيل هذا؟ عبادة هذه الليلة تساوي عبادة ألف شهر. فكم عبدت في ألف شهر؟ كم كمية العبادة؟ تخيل صلاتك في هذه الليلة، وذكرك لله في هذه الليلة، وتسبيحك في هذه الليلة، وبرّك لأمك في هذه الليلة، وصدقتك على فقير، وإطعامك لأحد. تخيل دعاءك ودموعك في هذه الليلة، توضع في كفة حسناتك فتثقل هذه الكفة فجأة ويستمر ثقلها ألف شهر، 84 سنة حسنات في ليلة. ما أروع العطاء الرباني! فاستعدوا للعشر الأواخر، والعبادة، ولنجتمع على الطاعة والعبادة، ونذكر الله، وندعوه، وننوي بعد رمضان أن نصنع حضارة كبيرة لأمتنا وبلادنا.
المسئولية الحضارية ومصر..
سيبدأ اليوم عمر بن الخطاب مرحلة جديدة رائعة، وهي مرحلة المسئولية الحضارية. ما معنى المسئولية الحضارية؟ معناها أنني مسئول عن الناس، ولست مسئولًا عن المسلمين فقط، بل أنا مسئول عن الأرض، وكل جزء ممكن تقيم فيه حضارة. ما أهم منطقة في العالم في ذلك الوقت – وإلى الآن – من الممكن أن تُقيم فيها حضارة؟ إنها مصر. سيهتم عمر بمصر. ليس من المنطقي أنه عندما يقيم عمر بن الخطاب حضارة ألا يلتفت لمصر أم الدنيا. هو اهتم بالعالم، فهل لن يلتفت لأم الدنيا؟!
نحن مع عمر بن الخطاب اليوم، وبداية فتح مصر، ولماذا فُتحت مصر، وكيف سيتحرك، وكيف سيتعامل مع الأقباط في مصر، وسنلاحظ الإنسانية والرحمة والخير والعطاء والتعايش. فلنشاهد عمر وفتح مصر، ونذهب إلى مصر، ونرى كيف تحركت مسئولية عمر العالمية. فلا توجد حضارة تُبنَى إلا بالشعور بالمسئولية عن الخير. لكن هذه المسئولية ليست بمعنى أننا أوصياء، بل شركاء لا أوصياء. فيجب ألا ننظر للعالم كأننا أوصياء عليه عندما نريد أن نبني حضارة، بل شركاء في الخير: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...] {آل عمران:110} ليس معناها تباهٍ على الخلق، بل معناها كيف نقدم الخير للعالم، وهذا هو ما سيفعله عمر بن الخطاب. فهيا بنا نرى فتح مصر.
فتح مصر وأسبابه
فُتحت الشام والعراق، واستقر المسلمين فيهما، وبدأ عمر بن الخطاب يفكر في نقلة جديدة وقوية للغاية وهي فتح مصر. هذه الحلقة من البرنامج يتم تصويرها عند الأهرامات وعلى أرض مصر، والحقيقة عندما فكر عمر بن الخطاب في فتح مصر كانت لدية ثلاثة أسباب رئيسة تجعله يريد فتح مصر. تم فتح الشام والعراق لأنه كانت هناك تهديدات منهما على شبه الجزيرة العربية، لكن مصر لا تهدد شبه الجزيرة العربية لتجعله يفكر في فتح مصر. إذن لماذا سيأتي عمر بن الخطاب ليفتح مصر؟ ولماذا سيرسل جيشًا لفتح مصر؟ عمر بن الخطاب لديه ثلاثة أسباب لفتح مصر:
1- عمر بن الخطاب يريد أن يبني حضارة، ولن تنفع قيام الحضارة إلا بوجود مصر – صاحبة الستة آلاف سنة حضارة آنذاك – فيها. لن تنفع بناء حضارة دون أن يلتفت عمر إلى الإشارات القوية للغاية الموجودة في القرآن، أنه عندما تُذكَر مصر تُذكر معها القصص العظيمة في التاريخ مثل قصة سيدنا موسى – عليه السلام – والصراع السياسي، وكذلك قصة سيدنا يوسف – عليه السلام – والتعامل مع المنطقة كلها وإطعام أهلها. عمر بن الخطاب يقرأ القرآن من وجهة نظر الحضارة. عمر بن الخطاب يعلم أنه حيثما ذُكرت مصر في القرآن يكون ذلك ملازمًا للذكر بالخير والنماء والأمان، حيث يقول الله – سبحانه وتعالى -: [...َ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ] {يوسف:99} و [قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ] {يوسف:55} حيث إن المقصود بـ"خزائن الأرض" مصر في ذلك الوقت. ويقول الله أيضًا: [...ٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ...] {البقرة:61}. وعمر لديه إشارة أخرى، وهي إشارة من النبي – صلى الله عليه وسلم -، حيث يقول: (إذا فتحتم مصر فاتخذوا منها جندًا كثيرين فهم خير أجناد الأرض). وليس ذلك في الحرب فقط، بل إن المصريين مبدعون في كل المجالات، فإن دخلتم مصر فاستعينوا بالمصريين فهم مبدعون. أنا لست أقول ذلك لأنني مصريًّا، بل من يقول ذلك هو النبي – صلى الله عليه وسلم – والقرآن. عمر بن الخطاب يريد أن يذهب لمصر لأنها أولًا أرض الحضارة، وهو يريد أن يبني حضارة، لهذا وجب عليه الاستعانة بالمصريين ويكونون جزءًا من بناء الحضارة. فعمر يرى المصريين هكذا، فهل أنتم يا مصريين ترون أنفسكم هكذا؟
2- السبب الثاني الذي يريد من أجله عمر أن يفتح مصر هو أن المصريين تحت ظلم شديد، فالرومان اضطهدوا المصريين اضطهادًا شديدًا للغاية، وبالرغم من أن الأقباط مسيحيين والرومان أيضًا مسيحيين، لكنهم آذوا المصريين أكثر مما آذوا من في الشام والعراق، وذلك بسبب اختلاف المذهب، حيث إنه لم يكن هناك تعايش، وذلك بالرغم من أنهم مسيحيون، لكن مذهب الكنيسة المصرية على غير مذهب الكنيسة الرومانية. فأخذ الرومان الأنبا بنيامين – رئيس الكنيسة المصرية – وطردوه، وعذبوه، وتعرض لمحاولة قتل، وقتل الرومان أيضًا آلاف من المصريين المتمسكين بمذهب الكنيسة المصرية، ومنعوا المصريين من دخول مدينة الإسكندرية، فكانت الإسكندرية وقتها محمية للرومان، وممنوع دخول المصريين لها على الإطلاق. هذا بالإضافة إلى الضرائب والإذلال. فكان المصريون يشعرون أنهم غرباء في مصر. ما شأن عمر بن الخطاب بهذا؟ النبي صاحب رسالة رحمة للعالمين، وعمر يريد أن يحرر المصريين من الظلم الواقع عليهم، ولديه إشارة من النبي، حيث يقول – صلى الله عليه وسلم -: (الله الله في أقباط مصر)، هذا هو ما قاله النبي قبل وفاته، ويَقصد أوصيكم بالله وأحلفكم بالله أن تحافظوا على أقباط مصر. وقال أيضًا: (استوصوا بالقبطي خيرًا فإن لهم نسبًا وصهرًا)، أي أنهم أنسباء الرسول – صلى الله عليه وسلم – وبينهم وبينه صهر، أليست هاجر – جدة النبي وأم سيدنا إسماعيل – من مصر؟، فهكذا يوصي الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أرحامه وأنسابه.
3- السبب الثالث الذي يريد أن يفتح عمر بن الخطاب مصر من أجله هو تأمين الشام والعراق، فهما مكشوفتان أمام الرومان الذين يتجمعون، ولكنه لو فتح مصر فسيحتاج الرومان لعبور البحر، وسيجدون مصر أمامهم من خلال الإسكندرية، فبذلك يقطع عليهم طريق الشام والعراق إلى الأبد، وهو ما حدث.
هناك ثلاثة أسباب تجعل عمر يريد أن يحافظ على مصر، وهي لها علاقة ببناء الحضارة. لكن عمر يشعر بالتردد في شأن فتح مصر لأنه لا يحب التوسع السريع، فالمسلمون فتحوا الشام والعراق منذ فترة قليلة، فعمر بن الخطاب يريد أن ينتظر قليلًا. وهو أيضًا يشعر بالتردد لسبب آخر، وهو أن الجيش الذي يريد أن يرسله – وهو جيش عمرو بن العاص – به 4 آلاف مقاتل، ولا يوجد به الكثير من الصحابة، في حين أن عمر بن الخطاب يريد فتح مصر التي بها 120 ألف مقاتل روماني. لهذا لا يستطيع أن يواجههم بأربعة آلاف مقاتل فقط. لكن عمرو بن العاص كان يلح في فتح مصر، فوافق عمر بن الخطاب، لكن بشرط أن ينطلق عمرو بن العاص إلى مصر، ويعود عمر بن الخطاب إلى المدينة المنورة ليستشير الصحابة في هذا الشأن. فقد كان عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص في الشام في فلسطين، فعمرو بن العاص فتح مصر عن طريق فلسطين وليس عن طريق المدينة المنورة. وهذه بشرى جيدة؛ فقد أتى من القدس إلى مصر. وكان عمر بن الخطاب يريد أن يعود إلى المدينة المنورة ليشاور أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فإن كان عمرو لم يدخل مصر، ورفض أصحاب رسول الله فتح مصر، ففي هذه الحالة يرجع عمرو بن العاص، وإن كان عمرو بن العاص قد دخل بالفعل مصر وجاءه كتاب عمر بن الخطاب فليتوكل على الله وليفتح مصر.
فذهب عمرو بن العاص مسرعًا، ولكن عمر بن الخطاب فعل شيئًا. كان عمرو معه 4 آلاف مقاتل، فمده عمر بن الخطاب بثمانية آلاف آخرين من قبائل اليمن. ومن هنا نرى عبقرية عمر، من خلال معرفة سبب إتيان الثمانية آلاف مقاتل من اليمن على وجه التحديد؛ ذلك لأن مصر أرض حضارة، فيجب أن يرسل من هو صاحب حضارة هو الآخر؛ لكي ينسجموا سويًّا. فأصبح جيش عمرو بن العاص مكونًا من 12 ألف مقاتل.
ولكن لا يزال العدد قليل أمام الرومان. لكن أقباط مصر وقفوا مع المسلمين ضد الرومان. وبدون مساعدة أقباط مصر للمسلمين كان من المستحيل فتح مصر. هذه لقطة رائعة في التعايش. مصر فُتِحَت بالمسلمين والأقباط، بعمرو به العاص والأنبا بنيامين. والكنيسة ساندت عمرو بن العاص ضد ظلم الرومان لأن المسلمين أكثر عدلًا. وما فعله عمر بن الخطاب في العراق والشام من عدل ورحمة وتعايش وتسامح واحترام للمزارعين وأصحاب الأراضي جعل المصريين يتمنون قدوم جيش عمر بن الخطاب ليروا هذا الرجل العظيم.
وصول عمرو بن العاص إلى مصر
وصل عمرو بن العاص إلى مصر يوم 10 ذي الحجة سنة 18 هجرية، أي أنه وصل يوم العيد، وأول صلاة للمسلمين صُلَّت في مصر كانت صلاة العيد. ودخل عمرو بن العاص العريش دون مقاومة تُذكَر، حيث إن حصون الرومان لم تَلُح بعد في الأفق. ثم ذهب عمرو بن العاص إلى منطقة تسمى الفرمة بجوار العريش مباشرةً، وفي الفرمة بدأت أول المواجهات مع الرومان، وكان مواجهة حامية الوطيس، واستمرت المواجهات لمدة شهر حيث كان عدد الرومان فيها 30 ألف والمسلمين 12 ألف. لكن المسلمين فتحوها عن طريق مساعدة الأقباط للمسلمين.
ثم انتقل المسلمون من الفرمة لبلبيس. استمرت المعارك لمدة شهرين هناك، حيث حاصر عمرو بن العاص وجيشه بلبيس إلى أن فتحها، واتجه إلى حصن الرومان الكبير وهو حصن "بابليون"، ولم يستطع عمرو بن العاص فتحة لمدة 7 أشهر. فأرسل لعمر بن الخطاب قائلًا: "أرسل إلىّ مددًا". فأرسل إليه عمر بن الخطاب ردًا شديدًا: "أما بعد، فقد قرأت ما أرسلت إلىّ، وإني أرى أنكم قد أبطأتم في فتح الأرض، وما ذلك إلا لذنوبكم، واستوائكم مع عدوكم في المعاصي، وإنما نفوز على أعدائنا بالإيمان وحسن الصلة بالله، فإذا جاءك كتابي، فقم وتوضأ واأمر للناس أن يقوموا ويصلوا ويستغفروا الله" ومن هنا نستنتج أن الإيمان يدفع الحضارة، ويدفع النهضة. هنا دور الإيمان وقوة الإيمان. فاعبدوا الله بنيّة أن نبني ونعمر. وأضاف عمر بن الخطاب: "أرسلت إليك أربع رجال". فأرسل عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب أن أربعة رجال لا يكفوا وهو يريد مدد، أي آلاف. فيغضب عمر بن الخطاب ويرسل إليه" "أرسلت إليك أربع رجال، الرجل منهم بألف والله منهم الزبير بن العوام [أحد العشرة المبشرون بالجنة] والمقداد بن عمرو والقعقاع بن عمرو" ثم يستطرد: "والله لصوت القعقاع في المعركة خير من ألف رجل". وتم فتح حصن بابليون بعد قدوم هؤلاء الأربعة. فعمر بن الخطاب يعي ما يقوله ويفعله جيدًا. فيا ترى كم نزن نحن؟
ويظهر القعقاع بن عمرو ويصيح صيحة: "الله أكبر" ويتحرك الجيش، ويأتي الزبير بن العوام ويرمي بنفسه داخل حصن بابليون، ويُفتَح الحصن بسبب الأربعة الذين أتوا، وينتصر المسلمون. وبعد ما كان في حصن بابليون يهرب الرومان، ويتبقى أمام عمرو بن العاص العاصمة التي كانت الإسكندرية في ذلك الوقت، ويذهب عمرو بن العاص وجيشه إلى الإسكندرية، ويحاصروا الإسكندرية 9 أشهر، لكن المقوقس حاكم مصر انحاز لعمرو بن العاص والمسلمين. والمقوقس هو حاكم مصر الذي كان قد أرسل هدية للنبي – صلى الله عليه وسلم -، وكان حاكمًا لمصر من قِبَل الرومان، ولكنه لم يكن رومانيًّا، وليس له من الأمر شيء، فالرومان كانوا يأمرونه، وكان عليه التنفيذ والانصياع للأوامر. وعندما أتى عمرو بن العاص وجيشه، قام المقوقس بعمل معاهدة صلح لكي يفتح المسلمون الإسكندرية. ويدخل عمرو بن العاص الإسكندرية، ويؤمّن أهل مصر كلهم، ويرد الأراضي للفلاحين، ويأخذ الأراضي من الرومان ويعطيها للفلاحين المصريين، ويملّكهم الأراضي مثلما فعل في الشام والعراق، والمصريون لا يصدقون أنفسهم. فالرومان كانوا محتلين مصر منذ أمدٍ بعيد، وأصبح الآن الفلاح المصري صاحب الأرض، وهذا لم يحدث في تاريخه من قبل.
ويذهب عمرو بن العاص إلى الفسطاط والفيوم ورشيد ودمياط ويتم فتح مصر. ويذهب البشير – وهو معاوية بن خُدَيج – إلى المدينة المنورة ليبشر عمر بن الخطاب ويخبره بفتح الإسكندرية، ويدخل للمسجد النبوي، ولكنه لم يجد عمر بن الخطاب داخله، فيجلس مرهقًا في المسجد النبوي فقد كان مرهقًا للغاية، وتأتي جارية لعمر بن الخطاب، وهي فتاة صغيرة، وتقول له: "كأنك قادم من سفر." قال: "نعم". قالت: "أأنت قادم من مصر؟" قال: "نعم". قالت: "قم معي، أمير المؤمنين ينتظرك".فقام، ودخل على أمير المؤمنين فوجده يربط سرواله ويضع إزاره، ويذهب مسرعًا لكي يقابله. عمر بن الخطاب القوي الهادئ في عجلة لكي يسمع الأخبار. فقال له عمر: "أقادم من مصر؟" قال: "نعم". قال: "بشرني". فقال: "فتح الله الإسكندرية" فسجد عمر. إذن فالخير قادم. وقام عمر إلى المسجد وأخذ معه البشير، وصعد عمر إلى المنبر، وقال: "الصلاة جامعة"، أي طلب من كل المدينة أن تجتمع - ولم يفعل عمر ذلك مع أي بلد سوى مصر – وقال لمعاوية: قل للناس ما جئت به"، قال: "الله أكبر! فتح الله علينا الإسكندرية!"، فقال عمر: "اسجدوا لله". لو فُتِحت مصر إذن لأقيمت الحضارة. عمر بن الخطاب له فضل كبير على المصريين، ونحن فهمنا لماذا كان مهتمًا بالحضارة. يجب أن نبدأ في البناء بدايةً من اليوم. جزاك الله خيرًا يا عمر!
أسس عمر بن الخطاب أربع قيم أخلاقية جعلت المصريين يفعلون كل ما بوسعهم لكي ينتصر المسلمون:
1- الحرية: عندما فُتحت الإسكندرية، أرسل عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب يخبره بفتح الإسكندرية، فرد عليه عمر بن الخطاب ردًا غريبًا: "لا تستقر أنت ومن معك من جيش في الإسكندرية، ولكن افتحها للأقباط، فإن الرومان قد حرموهم منها". ففتح عمر الإسكندرية للمصريين، ولأول مرة يدخل المصريون الإسكندرية. الرومان كانوا قد جعلوا من الإسكندرية جنة. وخرج عمرو بن العاص وجيشه وتركوا الإسكندرية للأقباط يتمتعون بها، وقام عمرو وجيشه بحماية السواحل فقط تحسبًا لأي هجوم من جانب الرومان. وأرسل عمر بن الخطاب أيضًا لعمرو بن العاص: "ولا تسكن القرى ولا مدن المصريين، فإنهم أهل زراعة، فإياك أن تزاحمهم أنت وجيشك في أرضهم؛ فتخاف النساء والأطفال منك، ولكن اخرج وأنشئ مدينة جديدة في وسط مصر". لاحظوا أن وراء إنشاء مدينة القاهرة عمر بن الخطاب، وهو صاحب فكرة القاهرة. يا مصريين أنتم مدينون لعمر بن الخطاب. طلب عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص أن يبحث عن منطقة في وسط مصر بين الشمال والجنوب، وينشئ مدينة جديدة، فكانت مدينة الفسطاط التي من بعدها تم إنشاء القاهرة كلها. ثم قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص أن ينشئ مدينة أخرى، فكانت الجيزة. لاحظوا أن عمر بن الخطاب لقبه أبو المدن، وأنه رجل حضاري.
2- الإنسانية: بنت المقوقس حاكم مصر اسمها أرمانسا، وكان هرقل ملك الروم يريد أن يتزوجها، فكانت هاربة هي وخادمتها من قصر أبيها وذهبتا إلى بلبيس، وأبوها يعلم ذلك، وكان متعمد أن يخبئها في بلبيس. وعندما دخل المسلمون بلبيس أُسِرَت ابنة المقوقس. وعندما علم عمرو بن العاص أنه أسر ابنة المقوقس أرسل لعمر بن الخطاب رسالة يسأله عما يفعله بها، فكان رد عمر بن الخطاب: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟" ؛حيث إن أبيها كان قد أهدى مارية القبطية – زوجة النبي – إلى النبي، أي أنها كانت مُرسَلة من قبل المقوقس، فطلب عمر بن الخطاب من عمرو بن العاص أن يرد الإحسان بالإحسان: "ردها معززة مكرمة، في حماية من المسلمين إلى أبيها". فكان المسلمون محيطين بها ليرسلوها لأبيها، فقالت الخادمة لها: "المسلمون يحيطون بنا من كل مكان". فردت ابنة المقوقس قائلة: "والله إني لآمن على نفسي وعلى عرضي في خيمة العربي المسلم أكثر ما آمن على نفسي وعلى عرضي في قصر أبي"، فيا لها من حضارة! يا لها من أخلاق! نريد أن نعود كمسلمين كما كنا، نريد أخلاقًا حضارية، ومدن حضارية، فلنعمل ولنبني.
3- عدم العنصرية: هذه القيمة الأخلاقية للمسلمين جعلت المصريون ينبهرون بهذه الأخلاق السامية. كانت توجد عنصرية عند الرومانيين، فالمصري لونه مختلف عن لون الروماني، الروماني كان أبيض البشرة وكان يتعامل بتعالٍ مع المصري ببشرته القمحية. وتتجلى هنا عبقرية عمرو بن العاص. حيث أرسل المقوقس أثناء حصار الإسكندرية إلى عمرو بن العاص طالبًا وفدًا ليتحدث معه. فأرسل عمرو بن العاص وفدًا على رأسه عبادة بن الصامت – الذي كان من صحابة النبي – وكانت بشرته شديدة السواد. فهكذا أرسل عمرو بن العاص رسالة إلى المصريين أن المسلمين غير عنصريين. فيقف الوفد أمام المقوقس، ويجد المقوقس عبادة بن الصامت أسود اللون، فيقول: "نحّوا عني هذا الأسود"، فالمقوقس كان عنصريًّا. فقال المسلمون أمام المصريين: "هو سيدنا وأعلمنا". قال المقوقس: "أما وجدتم خير منه؟". قالوا: "هو خيرنا". فقال المقوقس: "تقدم يا أسود، وتكلم بسرعة، فإني أهاب سوادك" أي أن سواده يضايقه. فرد عليه عبادة بن الصامت قائلًا: "معذرة يا مقوقس، عندنا ألف أسود أشد سوادًا مني، لكنهم أرسلوني أولًا، وهم قادمون بعدي". فضحك المصريون، وأدركوا أن المصريين غير عنصريين.
4- التعايش: المسلمون كانوا متعايشين. فلنعد كما كنا متعايشين. التعايش هو أن يرسل عمر بن الخطاب رسالة إلى عمرو بن العاص: "لا تفعل أمرًا في مصر إلا بعد أن تشاور بنيامين" يقصد الأنبا بنيامين رئيس الكنيسة، أي أن مستشار عمرو بن العاص في مصر هو رئيس الكنيسة. في حين أننا اليوم تسودنا التفرقة، ونتحدث عن الفتنة الطائفية. لكن عمر بن الخطاب جعل بنيامين مستشارًا. ويقول عمر بن الخطاب لبنيامين: "أرسل لي كيف أتعامل مع المصريين". وبنيامين أرسل لعمر بن الخطاب رسالة يقول فيها أنه إذا كان يريد أن يحافظ على المصريين فعليه أن يحافظ على زرعهم ولا يأخذ أرضهم. ويرسل عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: "اسمع كلام بنيامين، إياك أن تقترب من أراضي الفلاحين". فما أجمل هذا التعايش! وهناك مثال آخر على التعايش، فعمر بن الخطاب لم يحرّم الآثار ولا الأهرامات، ولم يطالب بهدمها، وكان عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص يعلمان أن الهرم بُنِيَ على عقيدة غير صحيحة، ولكنهم تركوا الآثار والأهرامات وأبو الهول، لأنهما لا يهدمان حضارة حتى ولو كانا مختلفين معها عقائديًّا. فبسبب عدم هدم الحضارة تعايش المصريون مع المسلمين.
هذه الأخلاق الأربعة جعلت كثير من المصريين يُسلِمون، وجعلت المصريين الذين ظلوا أقباطًا يحبون المسلمين أكثر مما يحبون الرومان الذين هم على نفس دين المصريين. هذا هو الإسلام، هذه هي حضارة المسلمين، هذه هي أخلاقنا، فلنقم ولنبني ولنتمسك بأخلاقنا. هل رأيتم ماذا تفعل الإنسانية والتعايش؟ هل رأيتم القيم والأخلاق؟ فتح مصر في الواقع هو نموذج ليوم القيامة، كيف أن الشعوب تصدق الصادقين وخصوصًا المصريين. لا تستهينوا بالمصريين. المصري يعرف دائمًا من يحترمه ومن لا يحترمه. وأخيرًا فإن فتح مصر نموذج عالمي حضاري في تاريخ عمر بن الخطاب.
قام بتحريرها: قافلة التفريغ والإعداد بدار الترجمة
Daraltarjama.com© جميع حقوق النشر محفوظة
يمكن نشر ونسخ هذه المقالة بلا أي قيود إذا كأنت للاستخدام الشخصي وطالما تم ذكر المصدر الأصلي لها أما في حالة أي أغراض أخرى فيجب أن يتم الحصول على موافقة كتابية مسبقة من إدارة الموقع
للاستعلام:management*daraltarjama.com